في الوقت الذي اقتربت فيه قوات الجيش السوري، بغطاء جوي روسي، من مدينة تدمر، خرجت واشنطن لتعرب عن عدم ترحيبها بما يجري.

 

المعروف أن واشنطن أيضا كانت تستنكر بشكل مأساوي ما كان يجري طوال الأشهر العشرة الماضية، عندما كانت عصابات داعش تقوم بهدم الآثار التاريخية وتدمير الحضارة الإنسانية في هذه المنطقة. ولكنها الآن تطرح مقاربات نظرية ذات مرجعيات تآمرية في الأساس، على اعتبار أن "عمليات دمشق ضد المسلحة المعارضة هي التي أسفرت عن تقوية شوكة التنظيم في الاراضي السورية.. وأن ما يجري حاليا لا يعفي دمشق من المسؤولية عن (العنف ضد شعبها)، وأن واشنطن تنطلق من أن استبدال الهمجية التي يمثلها داعش ب"أستبداد النظام" ليس حلا جيدا"، وذلك وفقا لتعبيرات المتحدث باسم الخارجية الأمريكية مارك تونر.

 

المثير أن تونر أدلى بهذه التصريحات في الوقت الذي كان وزير الخارجية الأمريكي جون كيري يجري مباحثات مهمة مع نظيره الروسي سيرغي لافروف والرئيس فلاديمير بوتين. هذه المباحثات استغرقت 8 ساعات، ما يعني أن الطرفين الروسي والأمريكي كان لديهما الكثير من المقترحات والخلافات والتوافقات. ولكن الأهم أنهما اتفقا على ضرورة التعجيل بعملية الحل السياسي ووضع دستور لسوريا. ومع ذلك قام تونر بالإدلاء بمثل هذا التصريح الغريب الذي يعطي انطباعا بأن واشنطن تماطل أو تساوم لأسباب غير مفهومة. وربما تكون مفهومة فقط للأمريكيين.

 

وإذا تحرينا الدقة، فهناك تناقضات حادة بين خطاب الإدارة الأمريكية في مناهضة الإرهاب، وبين محاربته ميدانيا، وخصوصا بعد ظهور حقائق كثيرة تبرز امتلاك واشنطن جميع المعلومات الاستخباراتية والوسائل اللوجيستية الكفيلة بوقف تمدد الجماعات المسلحة والتيارات الظلامية في سوريا، ولكنها لم تتحرك أو تبد أي رغبة حقيقية في ذلك. ما دفع، حلفاء واشنطن، من الدول والجماعات والتنظيمات، إلى التساؤل حول سياسة أوباما في المنطقة، ومدى تأرجحها بين التخاذل وبين النوايا المُبيّتة.

 

في صيف 2015، ظهرت التساؤلات حول نوايا الولايات المتحدة عندما تم وضع برنامج تدريبي متكامل لعناصر عسكرية مؤهلة من أجل الدخول إلى سوريا وإيقاف تقدم جبهة النصرة وداعش. ولكن واشنطن لم توفر غطاء جويا، فنجحت جبهة النصرة من نزع أسلحة تلك العناصر العسكرية. وفي الوقت نفسه كان تعاون الولايات المتحدة مع وحدات حماية الشعب الكردية ودعمها اللامحدود واضحا للغاية. وبالتالي، نال الأكراد مكاسب ميدانية في وجه داعش والجماعات المسلحة.

 

المهم هنا أن واشنطن كانت تتسلم تقارير مفصلة من عملائها وعناصر استخباراتها عن تحركات داعش ومخططاته في الرقة، ومعلومات تفصيلية حول الجماعات الجهادية، ومع ذلك بقيت "الرقة" طوال هذا الوقت عاصمة ما يُسمى بـ "الدولة الإسلامية".

 

أما في ما يتعلق بالطريقة المُذهلة التي سقطت بها مدينة تدمر في أيدي تنظيم داعش في يوليو/ تموز 2015، فالأمر يثير الشك والغضب. لقد كانت واشنطن تمتلك المعلومات الكاملة عن أحد أرتال مركبات "جيب" لتنظيم داعش، والذي كان يتجه نحو تدمر. والغريب أن وكالة الاستخبارات الأمريكية والبنتاغون كانا يتابعان تحركات هذه المركبات. ومع ذلك لم تقم قوات التحالف، أو القوات الأمريكية، بقصف الإرهابيين. وبررت واشنطن ذلك بأن "الطيار القريب من المركبات لمح في إحدى الشاحنات وجود بعض الأطفال والصغار". وطبعا هذه النظرة "الإنسانية جدا" لها مفعول السحر على وسائل الإعلام ومنظمات حقوق الإنسان، ولكنها لم تمنع الصحفيين والخبراء من توجيه سؤال آخر تماما: "لماذا لم يقصفوا بقية السيارات؟!"

 

في الحقيقة، كانت الولايات المتحدة تعرف جيدا أن رتل المركبات الداعشي يتوجه لاحتلال تدمر. ولكنها لم تقم حتى بإعاقته!

 

كل هذه الخطط والتحركات والمواقف الغريبة تثير شكوك ليس فقط المعارضة السورية، بل وأيضا الدول الحليفة لواشنطن، ولكن هذه مشكلتهم في نهاية المطاف. فالأهم هنا أنها تقلص مساحة شفافية ومصداقية الولايات المتحدة مع شركائها الكبار.

  • فريق ماسة
  • 2016-03-25
  • 13535
  • من الأرشيف

من سلم تدمر لداعش ولماذا تثير واشنطن شكوك حلفائها؟

في الوقت الذي اقتربت فيه قوات الجيش السوري، بغطاء جوي روسي، من مدينة تدمر، خرجت واشنطن لتعرب عن عدم ترحيبها بما يجري.   المعروف أن واشنطن أيضا كانت تستنكر بشكل مأساوي ما كان يجري طوال الأشهر العشرة الماضية، عندما كانت عصابات داعش تقوم بهدم الآثار التاريخية وتدمير الحضارة الإنسانية في هذه المنطقة. ولكنها الآن تطرح مقاربات نظرية ذات مرجعيات تآمرية في الأساس، على اعتبار أن "عمليات دمشق ضد المسلحة المعارضة هي التي أسفرت عن تقوية شوكة التنظيم في الاراضي السورية.. وأن ما يجري حاليا لا يعفي دمشق من المسؤولية عن (العنف ضد شعبها)، وأن واشنطن تنطلق من أن استبدال الهمجية التي يمثلها داعش ب"أستبداد النظام" ليس حلا جيدا"، وذلك وفقا لتعبيرات المتحدث باسم الخارجية الأمريكية مارك تونر.   المثير أن تونر أدلى بهذه التصريحات في الوقت الذي كان وزير الخارجية الأمريكي جون كيري يجري مباحثات مهمة مع نظيره الروسي سيرغي لافروف والرئيس فلاديمير بوتين. هذه المباحثات استغرقت 8 ساعات، ما يعني أن الطرفين الروسي والأمريكي كان لديهما الكثير من المقترحات والخلافات والتوافقات. ولكن الأهم أنهما اتفقا على ضرورة التعجيل بعملية الحل السياسي ووضع دستور لسوريا. ومع ذلك قام تونر بالإدلاء بمثل هذا التصريح الغريب الذي يعطي انطباعا بأن واشنطن تماطل أو تساوم لأسباب غير مفهومة. وربما تكون مفهومة فقط للأمريكيين.   وإذا تحرينا الدقة، فهناك تناقضات حادة بين خطاب الإدارة الأمريكية في مناهضة الإرهاب، وبين محاربته ميدانيا، وخصوصا بعد ظهور حقائق كثيرة تبرز امتلاك واشنطن جميع المعلومات الاستخباراتية والوسائل اللوجيستية الكفيلة بوقف تمدد الجماعات المسلحة والتيارات الظلامية في سوريا، ولكنها لم تتحرك أو تبد أي رغبة حقيقية في ذلك. ما دفع، حلفاء واشنطن، من الدول والجماعات والتنظيمات، إلى التساؤل حول سياسة أوباما في المنطقة، ومدى تأرجحها بين التخاذل وبين النوايا المُبيّتة.   في صيف 2015، ظهرت التساؤلات حول نوايا الولايات المتحدة عندما تم وضع برنامج تدريبي متكامل لعناصر عسكرية مؤهلة من أجل الدخول إلى سوريا وإيقاف تقدم جبهة النصرة وداعش. ولكن واشنطن لم توفر غطاء جويا، فنجحت جبهة النصرة من نزع أسلحة تلك العناصر العسكرية. وفي الوقت نفسه كان تعاون الولايات المتحدة مع وحدات حماية الشعب الكردية ودعمها اللامحدود واضحا للغاية. وبالتالي، نال الأكراد مكاسب ميدانية في وجه داعش والجماعات المسلحة.   المهم هنا أن واشنطن كانت تتسلم تقارير مفصلة من عملائها وعناصر استخباراتها عن تحركات داعش ومخططاته في الرقة، ومعلومات تفصيلية حول الجماعات الجهادية، ومع ذلك بقيت "الرقة" طوال هذا الوقت عاصمة ما يُسمى بـ "الدولة الإسلامية".   أما في ما يتعلق بالطريقة المُذهلة التي سقطت بها مدينة تدمر في أيدي تنظيم داعش في يوليو/ تموز 2015، فالأمر يثير الشك والغضب. لقد كانت واشنطن تمتلك المعلومات الكاملة عن أحد أرتال مركبات "جيب" لتنظيم داعش، والذي كان يتجه نحو تدمر. والغريب أن وكالة الاستخبارات الأمريكية والبنتاغون كانا يتابعان تحركات هذه المركبات. ومع ذلك لم تقم قوات التحالف، أو القوات الأمريكية، بقصف الإرهابيين. وبررت واشنطن ذلك بأن "الطيار القريب من المركبات لمح في إحدى الشاحنات وجود بعض الأطفال والصغار". وطبعا هذه النظرة "الإنسانية جدا" لها مفعول السحر على وسائل الإعلام ومنظمات حقوق الإنسان، ولكنها لم تمنع الصحفيين والخبراء من توجيه سؤال آخر تماما: "لماذا لم يقصفوا بقية السيارات؟!"   في الحقيقة، كانت الولايات المتحدة تعرف جيدا أن رتل المركبات الداعشي يتوجه لاحتلال تدمر. ولكنها لم تقم حتى بإعاقته!   كل هذه الخطط والتحركات والمواقف الغريبة تثير شكوك ليس فقط المعارضة السورية، بل وأيضا الدول الحليفة لواشنطن، ولكن هذه مشكلتهم في نهاية المطاف. فالأهم هنا أنها تقلص مساحة شفافية ومصداقية الولايات المتحدة مع شركائها الكبار.

المصدر : أشرف الصباغ


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة