دليل ماسة
أكثر الروابط استخداما
ضرب تفجير جادة الاستقلال في اسطنبول يوم السبت الماضي قلب العاصمة السياحية لتركيا، بعدما كان تفجير سابق استهدف سائحين ألمان في منطقة السلطان احمد السياحية أيضاً.
تفجير جادة الاستقلال اختلف عن التفجيرات السابقة بأن ثلاثة من ضحاياه الأربعة كانوا إسرائيليين وواحدا إيرانيا. وهنا تباينت المعطيات والتحليلات عما إذا كان التفجير الانتحاري يستهدف إسرائيليين بالذات، أم أن وجودهم كان محض صدفة.
الملاحظة الأولى أن السلطات التركية نسبت انتماء منفذ التفجير، وهو تركي، إلى تنظيم «داعش». وهي المرة الثالثة التي تتهم فيها أنقرة «داعش» بالوقوف وراء عمليات تفجير. مرة في سوروتش في 20 تموز الماضي، وثانية في أنقرة في العاشر من تشرين الأول الماضي، والثالثة الآن في تفجير جادة الاستقلال.
لكن في كل مرة لم يتبنَّ «داعش» أيا منها. وهو حتى الآن لم يتبنَّ أي عملية، لا كبيرة ولا صغيرة في تركيا.
وهذا أمر لافت، إذ إن من عادة التنظيم ومن مصلحته تبني العمليات مباشرة فور وقوعها، من اندونيسيا إلى الجزائر ومن بروكسل وباريس إلى الصومال. إذ يؤكد ذلك حضوره وقوته، وأنه لا يتأثر بالعمليات ضده هنا وهناك. فلماذا يستثني تركيا من إعلانات التبني؟
الجواب هو أن تفجيرَي سوروتش وأنقرة المذكورَين استهدفا مباشرة الناخب الكردي واليساري، وجاءا في سياق إستراتيجية حكومة «حزب العدالة والتنمية» لترويع وتغيير مزاج الناخب في طريق انتخابات الإعادة في الأول من تشرين الثاني، والتي حققت أكلها في استعادة «العدالة والتنمية» الغالبية المطلقة في البرلمان.
وفي التفجيرَين اللذين استهدفا حافلات العسكريين في أنقرة في 17 شباط وساحة قيزيل آي في 13 آذار الحالي، فإن المسؤولين الأتراك وزعوا في البداية الاتهامات بين «داعش» و «حزب العمال الكردستاني»، قبل أن ترسو بورصة تحميل المسؤولية على «حزب العمال الكردستاني»، والذي تبناهما لاحقاً.
في جميع حالات التفجير كان اسم «داعش» يمر على لسان المسؤولين الأتراك في مجال تحميل المسؤولية. والهدف واضح وهو إظهار أن تركيا عدو فعلي لهذا التنظيم.
يمكن أن يكون «داعش» متواطئاً في بعض عمليات التفجير عبر تقديم عناصر انتحارية لكنه بالتأكيد ليس المسؤول حتى الآن على الأقل عن تفجيري أنقرة ولا عن تفجير السلطان أحمد ولا عن تفجير جادة الاستقلال.
أولا لأن تنظيم «داعش لا يستهدف أبداً مصالح الدولة التركية وحكومتها. وتفجير أنقرة الأول كان موجها مباشرة إلى المؤسسة العسكرية والثاني إلى الاستقرار الاجتماعي. كما انه ليس مسؤولا عن قتل السائحين الألمان لأن في ذلك استهداف للقطاع السياحي التركي.
ثانيا إن تنظيم «داعش» لا يمكن أن يكون وراء عملية يمكن أن تستهدف تحديدا سائحين إسرائيليين كما حصل في جادة الاستقلال، لأنه ليس من عادة وأدبيات هذا التنظيم أن يستهدف المصالح الإسرائيلية، لا مباشرة في فلسطين المحتلة ولا في العالم. وبالتالي فإن الاحتمال الأقوى ألا يكون السائحون الإسرائيليون مستهدفين بحد ذاتهم، وألا يكون «داعش» وراء العملية، لأنها تضر أيضاً بالاقتصاد التركي واستقرار البلاد.
أما «حزب العمال الكردستاني» فلم يتبن العملية حتى الآن، لتبقى علامات الاستفهام سيدة الموقف حول الجهة التي تقف وراءها. لكن ما يلفت النظر أن الاستغلال السياسي لعملية جادة الاستقلال انطلق على مصراعيه بين أنقرة وتل أبيب كأنهما كانا ينتظرانها.
تعازي المسؤولين في إسرائيل للمسؤولين الأتراك بالضحايا كانت حماسية، كما الدعوة إلى التشارك في محاربة الإرهاب. وبلغت ذروة الحركة السياسية باتصال مباشر من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بنظيره الإسرائيلي رؤوفين ريفلين.
ولم يكن رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو بعيداً عن توظيف الحادثة، ليقول لأردوغان إن الإرهاب واحد من اسطنبول إلى القدس المحتلة. كان يشير هنا بالتأكيد إلى دعم تركيا لحركة «حماس».
وصول مدير عام الخارجية الإسرائيلية دوري غولد والشريك الإسرائيلي في محادثات تطبيع العلاقات مع أنقرة مباشرة إلى تركيا بعد الحادثة، بل قطعه زيارة كان يقوم بها إلى الولايات المتحدة، كان يعكس الرغبة الإسرائيلية لتوظيف الحادثة وانتزاع تنازلات من تركيا بشأن «حماس» وغزة.
استعادة الحرارة في الاتصالات بين تركيا وإسرائيل لا شك يقرب أكثر من إكمال التوصل إلى اتفاق نهائي بين البلدين من أجل التطبيع الكامل للعلاقات الثنائية.
بعد ثلاثة أيام فقط من تفجير اسطنبول، كانت بروكسل تشهد التفجيرات الكبرى في تاريخها في المطار وفي محطة قطارات. عشرات القتلى والجرحى. وبخلاف تفجير اسطنبول، فإن «داعش» سارع إلى تبني التفجيرات الانتحارية.
وصلا بتفجيرات بروكسل، يمكن تسجيل الملاحظات التالية:
1- عند كل عملية تفجير في أوروبا من صحيفة «شارلي إيبدو» إلى مسرح باتاكلان كانت الأنظار تتوجه الى تركيا. كان دائما هناك من الانتحاريين، أو المهاجمين، من كان له ماض يتصل بتركيا، سواء بالمرور عبرها إلى سوريا أو باستخدام أراضيها ومطاراتها للتنقل بين أوروبا وسوريا.
الكل بات يعرف أن كل هؤلاء الإرهابيين الذين ينفذون عمليات في فرنسا أو بلجيكا أو ألمانيا أو بريطانيا كانت تركيا ممراً إجبارياً لهم للوصول إلى سوريا. وهذا يفضي إلى الاستنتاج أن أية محاولة لتجفيف منابع الإرهاب في أوروبا يفرض أن يكون لتركيا دور أساسي فيه، لأنها تحولت إلى ممر لعبور الإرهابيين إلى سوريا وعودتهم منها. أما عن مسؤولية أوروبا الواضحة عن هؤلاء الإرهابيين فهذا له حديث آخر.
2- توقف العديد من المحللين الأتراك عند الكلمة التي قالها الرئيس التركي رجب طيب اردوغان في اليوم الثاني لتفجير اسطنبول الأخير، وقبل يومين من تفجيرات بروكسل.
يقول الكاتب المعروف في صحيفة «راديكال» جنكيز تشاندار إن كلام أردوغان بعد عمليات بروكسل عن تضامنه مع أوروبا في الحرب ضد الإرهاب لم يكن مقنعا. وقال أردوغان إن «تركيا في هذه الأيام العصيبة تقف إلى جانب بلجيكا. إن شعبنا الذي تعرض لاعتداءات دنيئة من تنظيمات إرهابية مختلفة يقاسم الشعب البلجيكي مشاعر الألم».
تشكيك تشاندار بصدقية كلام أردوغان سببه ما كان أدلى به نهار الأحد الماضي، أي بعد يوم واحد من تفجير اسطنبول، ويومين قبل هجمات بروكسل. ماذا قال أردوغان؟ «إن دولا كثيرة لم تقف موقفاً مبدئياً في مواجهة هذه المنظمات الإرهابية (وكان يقصد حزب العمال الكردستاني وليس داعش). هؤلاء (الدول) ليسوا مستقيمين وليسوا صادقين. إنهم يتصرفون برياء. ولن يخدعوا الأمة التركية. هؤلاء استسلموا للإرهاب. ليس هناك أي سبب كي لا تحصل تفجيرات في بروكسل أو أية مدينة أوروبية. هذا مثل الرقص في حقل ألغام. لا تستطيعون أن تعرفوا متى تدوس أقدامكم اللغم لكن من الواضح أنها ستكون نهاية لا مفر منها. إنكم تغذون أفعى يمكن أن تلسعكم في أي لحظة. إن التفجيرات التي حصلت في تركيا لا تعني لكم شيئا. عندما تنفجر القنابل في مدنكم ستعرفون حينها ما الذي نحس به. لكن بعد فوات الأوان».
يقول تشاندار إن كلام أردوغان لا يعني أنه على حق، لأنه كان يقصد «حزب العمال الكردستاني» وليس تنظيم «داعش»، والدليل أن نائب رئيس الحكومة بادر فور حدوث تفجير اسطنبول إلى اتهام الأكراد به، وهو حال أردوغان، قبل أن تنكشف حقيقة أن «داعش» قام به.
وفي هذا الإطار لم تكن مصادفة أن يبادر أردوغان إلى الكشف عن أن أحد منفذي هجمات بروكسل كان في تركيا، وسلمته السلطات التركية إلى السفارة البلجيكية التي قال إنها إعادته إلى بلجيكا من دون أن يتم اعتقاله. هذا يذكر بحياة بومدين زوجة احد منفذي هجمات باريس التي تبين انها مرت في تركيا في طريقها إلى سوريا في وقت سابق على تلك الهجمات.
لكن هنا لا يأتي أردوغان بجديد، ولا يختلف اتهامه لبلجيكا عما يحصل في تركيا نفسها. أحد منفذي تفجير محطة القطارات في أنقرة في العاشر من تشرين الأول الماضي كان ضمن قائمة المشتبه بهم والمطلوبين للعدالة. ومع ذلك عبر الحدود من سوريا واختبأ في غازي عينتاب وفجر نفسه في أنقرة. وحين حمّلت المعارضةُ الحكومةَ المسؤوليةَ عن ذلك، قال رئيس الحكومة أحمد داود أوغلو: «نحن دولة قانون لا يمكن أن نعتقل أحداً لمجرد الشبهة. فقط يمكن ذلك في حال حصول عملية تفجير!»
تفجيرات بروكسل، ومن قبلها هجمات باريس، تعكس تلك الشراكة المثلثة بين أوروبا وتركيا و «داعش». الجميع على علم بالإرهابيين. بريطانيا أعلنت أن 700 «جهادي» انكليزي يحاربون في سوريا، ومثلهم المئات بل الآلاف وربما أكثر من دولة أوروبية أخرى. يغادرون بلادهم الغربية وتستقبلهم تركيا ويودعون محملين بالمال والسلاح إلى سوريا، ثم يعودون إلى الغرب، وعبر الطريق التركي نفسه. يعودون إلى بلادهم كأنهم لا ذهبوا ولا عادوا. لا تحقيقات جدية ولا ملاحقات، إلا بعد حصول هجمات ومن بعدها تتجدد حكاية إبريق الزيت. أما وزير الاتحاد الأوروبي في الحكومة التركية فولكان بوزكير فيقول في حوار مع صحيفة «ميللييت» إن أكثر من 37 ألف «داعشي» منعوا من دخول تركيا أو أبعدتهم أنقرة من أراضيها موجودون الآن في أوروبا ويشكلون تهديداً لها.
مسؤولية الجميع مثبتة بالوثائق وبالسياسات المغامرة التي لم تتوقف رغم كل الخسائر والمخاطر التي تعرضت لها تركيا والأوروبيون في الأرواح والاقتصاد، وفي حالات عدم الاستقرار والهلع المفتوحة التي لم تتعود عليها أوروبا وظنت هي وتركيا أنهما ستبقيان بمنأى عنها.
لنستمع إلى زعيم «حزب الشعب الجمهوري» المعارض كمال كيليتشدار أوغلو يتحدث بعد هجمات بروكسل: «لقد تحولت تركيا إلى ساحة تدريب للانتحاريين. هل تريد أن تكون انتحاريا؟ إذا إذهب إلى تركيا وتدرب هناك. تنفجر القنابل. تلغى مباراة فنر باهتشه - غلطه سراي. أنت عاجز عن توفير الأمن لمباراة كرة قدم. لماذا إذا يأتي السياح؟ لقد أدخلت تركيا في الفوضى. الأحداث الأخيرة في تركيا لم نعلم بها مما يقوله المسؤولون، بل من التحذيرات التي وجهها السفراء الأجانب».
وأضاف كيليتشدار أوغلو: «لقد كان بلاء حزب العمال الكردستاني موجودا منذ زمن طويل. لكنهم (المسؤولين الأتراك) جاؤوا ببلاء داعش أيضا. لكن أي عمل لكم في سوريا؟ لقد انقلبت كل التوازنات في الشرق الأوسط رأساً على عقب. وتحولت تركيا إلى بركة دم. حصلت تفجيرات في باريس وبروكسل. كل الأعمال الإرهابية خلفها مسؤول واحد: حكومة حزب العدالة والتنمية. أرسلوا الأسلحة بشاحنات النقل الخارجي إلى سوريا. ضربوا الأخ بأخيه. وأحالوا سوريا إلى بركة دم. يوجد مقاتلون في داعش من سبعين محافظة تركية. وهم (الحكومة) يتفرجون».
هل هي مجرد مصادفة أو الرغبة فقط بالانتقام أو التشهير أن تعلن روسيا حالة تأهب لمواجهة احتمال دخول 16 انتحارية قالت إنهن تدربن في تركيا؟ أم إنها تعكس الحقيقة المرة التي لم تعد خافية على أحد والتي لا يكلّ كيليتشدار أوغلو من الحديث عنها والتنبيه منها؟
لقد رفع معمر القذافي شعار «شركاء لا إجراء» في الإشارة إلى شراكة العمال في الإنتاج والإدارة. لكن هذا الشعار سيكون خاطئا في حال أردنا تطبيقه على داعمي الإرهاب وحماته ليكون الشعار «شركاء و.. أجراء».
المصدر :
محمد نور الدين
اكتب تعليق
كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة