ما أعلنته السعودية بداية الأسبوع في شأن مقاتليها في سورية ليس تفصيلاً. هو مؤشر بالغ الخطورة إلى مدى الضغط الأميركي، والتهديد بإلغاء زيارة مرتقبة لباراك أوباما للسعودية.

للقصة بعد آخر أيضاً: تخشى الرياض عودة غير منظمة لهؤلاء المقاتلين إلى بلادهم، فوضعتهم أمام خيارين. أولهما، العودة تحت إشراف الأمن من بوابة السفارة السعودية في تركيا، بحسب ما أعلن السفير في أنقرة أمس، وثانيهما التشرد بين جبهات القتال، في استعادة لتجربة سعوديي الجهاد الأفغاني. في ما يأتي بعض المعلوم من حكاية تخلّي المملكة عن مقاتليها في سورية.

 لا يصدر أمر ملكي في السعودية إلا حين يتعلق بإعفاء أمير أو تعيينه، أو بأمر له صلة بقضايا سيادية تتطلب قراراً من أعلى سلطة في الدولة. الأمر الملكي الصادر الاثنين الماضي، وهو الموعد الثابت لانعقاد الجلسة الأسبوعية لمجلس الوزراء السعودي، يؤشّر بوضوح إلى أن القضية التي صدر الأمر الملكي في شأنها تتجاوز سلطة المجلس، وتستوجب ما يمكن وصفه بـ «تعهّد خطيّ» من الملك نفسه. في رسائل الأمر الملكي، يمكن التوقّف عند ثلاث منها:

 الأولى: أن الأمر الملكي صدر في سياق تجاذب إعلامي حول زيارة مفترضة للرئيس الأميركي باراك أوباما للرياض نهاية آذار المقبل. صحف أميركية، مثل «وول ستريت جورنال» و«نيويورك تايمز»، نشرت مطلع هذا الشهر خبراً عن الزيارة المرتقبة، فسارعت السفارة الأميركية في الرياض إلى الرد في اليوم التالي مؤكّدة «أن البيت الأبيض لم يتحدث عن شيء في هذا الشأن». وأوضح مساعد الملحق الإعلامي في السفارة الأميركية في الرياض ستيوارت وايت «أن ليس لدى السفارة أي معلومات حول هذه الزيارة، ولا يمكنها التعليق على ذلك».

ولكن مع صدور الأمر الملكي في الثالث من شباط الجاري، أعلن البيت الأبيض، في اليوم نفسه، عن زيارة أوباما للرياض في نهاية آذار المقبل. خلاصة الأمر الملكي (وهو للمناسبة يعتبر الأطول في تاريخ الأوامر الملكية، ولا يضاهيه سوى الأوامر الملكية المتعلقة بالميزانية): إدانة شاملة للأعمال الإرهابية بكل أصنافها، التي ثبت فيها تورّط مواطنين سعوديين، من مدنيين وعسكريين ودعاة محرّضين ومنتمين ومتبرّعين، وممجّدين لجماعات دينية وفكرية متطرّفة، وإنزال أقصى العقوبات بهم.

وفي المعلومات، عرض مسؤولون أميركيون على السعوديين ملفاً ضخماً نهاية العام الماضي يشتمل على وثائق دامغة تدين ضلوع السعودية في الإرهاب الذي يضرب العراق وسورية ولبنان واليمن، وصولاً إلى روسيا، وأن الملف بات في تصرّف المجتمع الدولي الذي قد يدفع في اتجاه استصدار قرار إدانة من مجلس الأمن، وتصنيف السعودية دولةً راعية للإرهاب في العالم.

 وصلت الرسالة الأميركية بوضوح إلى السعودية، ومفادها أن من غير الممكن إدخال ملف الإرهاب ضمن معاهدة الحماية والدفاع الاستراتيجي التي وقعت في الأربعينيات من القرن الماضي بين الملك عبد العزيز والرئيس فرانكلن روزفلت، ولا بد من التصرّف على أساس أن قضية الإرهاب ذات طابع دولي، وخارج المعاهدات الثنائية.

 شعرت السعودية بأن الخطر يحدق بالمصير، وتطلّب الأمر موقفاً عاجلاً ومن أعلى مستوى في البلاد، بل هناك من العائلة المالكة من فهم الرسالة الأميركية على أنها شرط لازم لزيارة أوباما للرياض، لإزالة الحرج أمام حلفاء الولايات المتحدة والمجتمع الدولي بصورة عامة الذي لم يعد مرتاباً في شأن تورّط السعودية في غالبية الأنشطة الإرهابية التي تجري في المنطقة وفي العالم كافة.

الرسالة الثانية: وجّه الأمر الملكي رسالة واضحة إلى المقاتلين السعوديين، المدنيين والعسكريين على السواء، في سورية أولاً، وفي العراق ولبنان وغيرهما ثانياً، مفادها أن ثمة خاتمة وخيمة تنتظرهم في حال قرروا العودة إلى الديار. وللحيلولة دون مواجهة المصير الحالك والعقاب العسير، عليهم البقاء خارج الحدود، واستكمال المسيرة حتى الفناء المبرم أو الانتشار في ساحات قتال أخرى، كما فعل الفوج الأول من الأفغان العرب وما بعده من أفواج نشأت في العراق بعد عام 2003، ولبنان بعد معارك نهر البارد أواخر 2007، وحالياً في سورية بعد اتفاق بندر ــ بترايوس صيف عام 2012.

 لا ريب أن أمراً ملكياً بهذه القساوة يمثّل طعنة سامّة في الظهر، يصوّبها الراعي الرسمي، ممثلاً في بندر بن سلطان، الذي وضع الأمر الملكي نهاية لمهمته. تنطوي ردود فعل مناصري «القاعدة»، كما تظهر على مواقع التواصل الاجتماعي، على غضب عارم من السعودية لخداعها للمقاتلين المرة تلو الأخرى، منذ أفغانستان مروراً بالعراق ولبنان وصولاً إلى سورية. ولذلك، ينظر الكثيرون من السعوديين المقاتلين والمناصرين إلى الأمر الملكي على أنه عمل استفزازي، وقد يدفع بالمقاتلين إلى ارتكاب حماقات أمنية لإحباط الهدف من الأمر، أي تشويه صورة المملكة، وترسيخ الانطباع بأنها داعمة للإرهاب.

 بطبيعة الحال، بإمكان النظام السعودي التلطّي وراء ذريعة أنه لم يكن في أي يوم داعماً للقتال في الخارج، ولم يسمح بجمع التبرعات ولا بالتحريض على الهجرة للجهاد. في الشكل، يبدو الاحتجاج مقنعاً، فقد خضع دعاة محرّضون وأئمة مساجد للتحقيق لمنع جمع التبرعات للقتال في سوريا، كما صدرت فتاوى تعتبر ما يحدث في سوريا «فتنة»!

في المقابل، في إمكان المراقب حشد فيض من الأدلة على ضلوع المؤسسات السعودية السياسية والاعلامية والدينية في هجرة آلاف السعوديين الى ما يصفه دعاة التحريض بـ «أرض الرباط» في سوريا، وإلا كيف نفسّر مشاركة مئات العسكريين في القتال هناك، مع أن هؤلاء لا يمكنهم السفر إلى الخارج إلا بإذن خاص من القيادة العسكرية.

 لم يكن ذكر العسكريين والعقوبة القاسية التي تنتظرهم مجرد نافلة، لولا وجود تقارير موثّقة عن انخراط عدد كبير من العسكريين في القتال في سورية، وهم الذين كانوا يتدفقون من الأراضي الأردنية برعاية نائب وزير الدفاع السعودي الأمير سلمان بن سلطان، الأخ غير الشقيق لعرّاب الحرب في سورية الأمير بندر بن سلطان، رئيس الاستخبارات العامة.

والحال أن السعودية أتقنت اللعبة المزدوجة؛ في العلن تبدي تشدّداً مفتعلاً في موضوع مشاركة سعوديين في القتال في الخارج، وفي جمع التبرعات لتنظيم «القاعدة» وفروعه القديمة والجديدة، وفي السر يتدفق المال والرجال والسلاح على سوح القتال من دون رقيب أو حسيب.

 الرسالة الثالثة: ثمّة مؤشرات ثانوية في الأمر الملكي تفيد بأن الحرب في سورية شارفت على نهايتها، وعلى الجماعات المسلّحة تدبّر أمرها، بعد فقدانها الرعاية المالية والتسليحية والتدريبية المطلوبة. وهذا يعني بالضرورة، وبحكم الواقع، أن لا دور بعد الآن يمكن أن يلعبه الأمير بندر بن سلطان الذي غادر إلى الولايات المتحدة تحت عنوان العلاج، في إجازة مفتوحة.

 نشير إلى المقترح الإيراني ــ التركي بتوفير مخرج لائق للسعودية من الوحل السوري، على أن تتخلى تدريجاً عن دعم المسلّحين. فمن الواضح أن الثنائي بدأ تنسيقاً مشتركاً عالي المستوى من أجل مواجهة ملف الإرهاب الذي تردّدت أنقرة في مقاربته سابقاً بصورة جدّية بحسب الرؤية الايرانية، ولكنها تعود الآن، بعد زيارة رجب طيب أردوغان الأخيرة لإيران، لفتحه على أوسع نطاق.

 في النتائج، السعودية خائفة من عودة مواطنيها المقاتلين، ولذلك قرّرت أن تضع قائمة عقوبات صارمة درءاً للارتدادات العنيفة التي تصيبها في مرحلة الحساب. ولكن الأخطر من ذلك، من وجهة نظرها، هو العقاب الدولي الذي ينتظرها في حال لم تدفع أثمان خسارتها الحرب في سوريا، وتفجّر ظاهرة الارهاب على مستوى دولي، ما اضطر أجهزة الاستخبارات الأوروبية الى تكثيف حضورها في المنطقة لمواكبة عودة مواطنيها المقاتلين إلى الديار.

 لا بد من لفت الانتباه إلى ما قدّمته السعودية من تنازلات لإبعاد شبح اتهامها برعاية الإرهاب. في الزيارة الأخيرة لوزير الخارجية الأميركي جون كيري للرياض، وصف موقف القيادة السعودية من موضوع التسوية الاسرائيلية الفلسطينية بعبارة لافتة، حيث قال إنه لمس «حماسة عالية» لديها في هذا الشأن، في وقت لم يكن فيه ما يدفع إلى مثل هذه الحماسة.

هنا تتقاطع المعلومات: ملف الإرهاب الذي عرضه الأميركيون على نظرائهم السعوديين، وملف التسوية الفلسطينية ــــ الاسرائيلية، حيث ذكرت مصادر مقرّبة من السلطة الفلسطينية في رام الله أن كيري طلب من رئيس السلطة محمود عباس الإقرار بيهودية الدولة الإسرائيلية في مقابل إقامة دولة فلسطينية تكون القدس الشرقية عاصمة لها، على أن يتم التخلي عن مبدأ حق العودة، مقابل العمل على إحياء مشروع التوطين على نطاق واسع، بحيث يشمل استيعاب قسم منهم في دول عربية إضافة إلى أستراليا وكندا.

 تضيف المصادر الفلسطينية أن الرئيس محمود عباس تردد في الإعلان عن الموافقة ما لم يحصل على غطاء من دول عربية وازنة، وعلى رأسها السعودية. بادر كيري إلى طمأنة عباس بأنه سيتولى هذه المهمة بنفسه. فهل ثمة علاقة بين طمأنة كيري وحماسة الملك عبدالله؟

في المجمل، الأمر الملكي يؤذن بمرحلة جديدة، قد تؤكل فيها العصي بدلاً من عدّها!

  • فريق ماسة
  • 2014-02-06
  • 12672
  • من الأرشيف

الأمر الملكي: السعودية تتخلّى عن مقاتليها..مرحلة جديدة قد تؤكل فيها العصي بدلاً من عدّها!

ما أعلنته السعودية بداية الأسبوع في شأن مقاتليها في سورية ليس تفصيلاً. هو مؤشر بالغ الخطورة إلى مدى الضغط الأميركي، والتهديد بإلغاء زيارة مرتقبة لباراك أوباما للسعودية. للقصة بعد آخر أيضاً: تخشى الرياض عودة غير منظمة لهؤلاء المقاتلين إلى بلادهم، فوضعتهم أمام خيارين. أولهما، العودة تحت إشراف الأمن من بوابة السفارة السعودية في تركيا، بحسب ما أعلن السفير في أنقرة أمس، وثانيهما التشرد بين جبهات القتال، في استعادة لتجربة سعوديي الجهاد الأفغاني. في ما يأتي بعض المعلوم من حكاية تخلّي المملكة عن مقاتليها في سورية.  لا يصدر أمر ملكي في السعودية إلا حين يتعلق بإعفاء أمير أو تعيينه، أو بأمر له صلة بقضايا سيادية تتطلب قراراً من أعلى سلطة في الدولة. الأمر الملكي الصادر الاثنين الماضي، وهو الموعد الثابت لانعقاد الجلسة الأسبوعية لمجلس الوزراء السعودي، يؤشّر بوضوح إلى أن القضية التي صدر الأمر الملكي في شأنها تتجاوز سلطة المجلس، وتستوجب ما يمكن وصفه بـ «تعهّد خطيّ» من الملك نفسه. في رسائل الأمر الملكي، يمكن التوقّف عند ثلاث منها:  الأولى: أن الأمر الملكي صدر في سياق تجاذب إعلامي حول زيارة مفترضة للرئيس الأميركي باراك أوباما للرياض نهاية آذار المقبل. صحف أميركية، مثل «وول ستريت جورنال» و«نيويورك تايمز»، نشرت مطلع هذا الشهر خبراً عن الزيارة المرتقبة، فسارعت السفارة الأميركية في الرياض إلى الرد في اليوم التالي مؤكّدة «أن البيت الأبيض لم يتحدث عن شيء في هذا الشأن». وأوضح مساعد الملحق الإعلامي في السفارة الأميركية في الرياض ستيوارت وايت «أن ليس لدى السفارة أي معلومات حول هذه الزيارة، ولا يمكنها التعليق على ذلك». ولكن مع صدور الأمر الملكي في الثالث من شباط الجاري، أعلن البيت الأبيض، في اليوم نفسه، عن زيارة أوباما للرياض في نهاية آذار المقبل. خلاصة الأمر الملكي (وهو للمناسبة يعتبر الأطول في تاريخ الأوامر الملكية، ولا يضاهيه سوى الأوامر الملكية المتعلقة بالميزانية): إدانة شاملة للأعمال الإرهابية بكل أصنافها، التي ثبت فيها تورّط مواطنين سعوديين، من مدنيين وعسكريين ودعاة محرّضين ومنتمين ومتبرّعين، وممجّدين لجماعات دينية وفكرية متطرّفة، وإنزال أقصى العقوبات بهم. وفي المعلومات، عرض مسؤولون أميركيون على السعوديين ملفاً ضخماً نهاية العام الماضي يشتمل على وثائق دامغة تدين ضلوع السعودية في الإرهاب الذي يضرب العراق وسورية ولبنان واليمن، وصولاً إلى روسيا، وأن الملف بات في تصرّف المجتمع الدولي الذي قد يدفع في اتجاه استصدار قرار إدانة من مجلس الأمن، وتصنيف السعودية دولةً راعية للإرهاب في العالم.  وصلت الرسالة الأميركية بوضوح إلى السعودية، ومفادها أن من غير الممكن إدخال ملف الإرهاب ضمن معاهدة الحماية والدفاع الاستراتيجي التي وقعت في الأربعينيات من القرن الماضي بين الملك عبد العزيز والرئيس فرانكلن روزفلت، ولا بد من التصرّف على أساس أن قضية الإرهاب ذات طابع دولي، وخارج المعاهدات الثنائية.  شعرت السعودية بأن الخطر يحدق بالمصير، وتطلّب الأمر موقفاً عاجلاً ومن أعلى مستوى في البلاد، بل هناك من العائلة المالكة من فهم الرسالة الأميركية على أنها شرط لازم لزيارة أوباما للرياض، لإزالة الحرج أمام حلفاء الولايات المتحدة والمجتمع الدولي بصورة عامة الذي لم يعد مرتاباً في شأن تورّط السعودية في غالبية الأنشطة الإرهابية التي تجري في المنطقة وفي العالم كافة. الرسالة الثانية: وجّه الأمر الملكي رسالة واضحة إلى المقاتلين السعوديين، المدنيين والعسكريين على السواء، في سورية أولاً، وفي العراق ولبنان وغيرهما ثانياً، مفادها أن ثمة خاتمة وخيمة تنتظرهم في حال قرروا العودة إلى الديار. وللحيلولة دون مواجهة المصير الحالك والعقاب العسير، عليهم البقاء خارج الحدود، واستكمال المسيرة حتى الفناء المبرم أو الانتشار في ساحات قتال أخرى، كما فعل الفوج الأول من الأفغان العرب وما بعده من أفواج نشأت في العراق بعد عام 2003، ولبنان بعد معارك نهر البارد أواخر 2007، وحالياً في سورية بعد اتفاق بندر ــ بترايوس صيف عام 2012.  لا ريب أن أمراً ملكياً بهذه القساوة يمثّل طعنة سامّة في الظهر، يصوّبها الراعي الرسمي، ممثلاً في بندر بن سلطان، الذي وضع الأمر الملكي نهاية لمهمته. تنطوي ردود فعل مناصري «القاعدة»، كما تظهر على مواقع التواصل الاجتماعي، على غضب عارم من السعودية لخداعها للمقاتلين المرة تلو الأخرى، منذ أفغانستان مروراً بالعراق ولبنان وصولاً إلى سورية. ولذلك، ينظر الكثيرون من السعوديين المقاتلين والمناصرين إلى الأمر الملكي على أنه عمل استفزازي، وقد يدفع بالمقاتلين إلى ارتكاب حماقات أمنية لإحباط الهدف من الأمر، أي تشويه صورة المملكة، وترسيخ الانطباع بأنها داعمة للإرهاب.  بطبيعة الحال، بإمكان النظام السعودي التلطّي وراء ذريعة أنه لم يكن في أي يوم داعماً للقتال في الخارج، ولم يسمح بجمع التبرعات ولا بالتحريض على الهجرة للجهاد. في الشكل، يبدو الاحتجاج مقنعاً، فقد خضع دعاة محرّضون وأئمة مساجد للتحقيق لمنع جمع التبرعات للقتال في سوريا، كما صدرت فتاوى تعتبر ما يحدث في سوريا «فتنة»! في المقابل، في إمكان المراقب حشد فيض من الأدلة على ضلوع المؤسسات السعودية السياسية والاعلامية والدينية في هجرة آلاف السعوديين الى ما يصفه دعاة التحريض بـ «أرض الرباط» في سوريا، وإلا كيف نفسّر مشاركة مئات العسكريين في القتال هناك، مع أن هؤلاء لا يمكنهم السفر إلى الخارج إلا بإذن خاص من القيادة العسكرية.  لم يكن ذكر العسكريين والعقوبة القاسية التي تنتظرهم مجرد نافلة، لولا وجود تقارير موثّقة عن انخراط عدد كبير من العسكريين في القتال في سورية، وهم الذين كانوا يتدفقون من الأراضي الأردنية برعاية نائب وزير الدفاع السعودي الأمير سلمان بن سلطان، الأخ غير الشقيق لعرّاب الحرب في سورية الأمير بندر بن سلطان، رئيس الاستخبارات العامة. والحال أن السعودية أتقنت اللعبة المزدوجة؛ في العلن تبدي تشدّداً مفتعلاً في موضوع مشاركة سعوديين في القتال في الخارج، وفي جمع التبرعات لتنظيم «القاعدة» وفروعه القديمة والجديدة، وفي السر يتدفق المال والرجال والسلاح على سوح القتال من دون رقيب أو حسيب.  الرسالة الثالثة: ثمّة مؤشرات ثانوية في الأمر الملكي تفيد بأن الحرب في سورية شارفت على نهايتها، وعلى الجماعات المسلّحة تدبّر أمرها، بعد فقدانها الرعاية المالية والتسليحية والتدريبية المطلوبة. وهذا يعني بالضرورة، وبحكم الواقع، أن لا دور بعد الآن يمكن أن يلعبه الأمير بندر بن سلطان الذي غادر إلى الولايات المتحدة تحت عنوان العلاج، في إجازة مفتوحة.  نشير إلى المقترح الإيراني ــ التركي بتوفير مخرج لائق للسعودية من الوحل السوري، على أن تتخلى تدريجاً عن دعم المسلّحين. فمن الواضح أن الثنائي بدأ تنسيقاً مشتركاً عالي المستوى من أجل مواجهة ملف الإرهاب الذي تردّدت أنقرة في مقاربته سابقاً بصورة جدّية بحسب الرؤية الايرانية، ولكنها تعود الآن، بعد زيارة رجب طيب أردوغان الأخيرة لإيران، لفتحه على أوسع نطاق.  في النتائج، السعودية خائفة من عودة مواطنيها المقاتلين، ولذلك قرّرت أن تضع قائمة عقوبات صارمة درءاً للارتدادات العنيفة التي تصيبها في مرحلة الحساب. ولكن الأخطر من ذلك، من وجهة نظرها، هو العقاب الدولي الذي ينتظرها في حال لم تدفع أثمان خسارتها الحرب في سوريا، وتفجّر ظاهرة الارهاب على مستوى دولي، ما اضطر أجهزة الاستخبارات الأوروبية الى تكثيف حضورها في المنطقة لمواكبة عودة مواطنيها المقاتلين إلى الديار.  لا بد من لفت الانتباه إلى ما قدّمته السعودية من تنازلات لإبعاد شبح اتهامها برعاية الإرهاب. في الزيارة الأخيرة لوزير الخارجية الأميركي جون كيري للرياض، وصف موقف القيادة السعودية من موضوع التسوية الاسرائيلية الفلسطينية بعبارة لافتة، حيث قال إنه لمس «حماسة عالية» لديها في هذا الشأن، في وقت لم يكن فيه ما يدفع إلى مثل هذه الحماسة. هنا تتقاطع المعلومات: ملف الإرهاب الذي عرضه الأميركيون على نظرائهم السعوديين، وملف التسوية الفلسطينية ــــ الاسرائيلية، حيث ذكرت مصادر مقرّبة من السلطة الفلسطينية في رام الله أن كيري طلب من رئيس السلطة محمود عباس الإقرار بيهودية الدولة الإسرائيلية في مقابل إقامة دولة فلسطينية تكون القدس الشرقية عاصمة لها، على أن يتم التخلي عن مبدأ حق العودة، مقابل العمل على إحياء مشروع التوطين على نطاق واسع، بحيث يشمل استيعاب قسم منهم في دول عربية إضافة إلى أستراليا وكندا.  تضيف المصادر الفلسطينية أن الرئيس محمود عباس تردد في الإعلان عن الموافقة ما لم يحصل على غطاء من دول عربية وازنة، وعلى رأسها السعودية. بادر كيري إلى طمأنة عباس بأنه سيتولى هذه المهمة بنفسه. فهل ثمة علاقة بين طمأنة كيري وحماسة الملك عبدالله؟ في المجمل، الأمر الملكي يؤذن بمرحلة جديدة، قد تؤكل فيها العصي بدلاً من عدّها!

المصدر : الأخبار/ فؤاد ابراهيم


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة