لم يعد كافياً أن يقال: إن تجربة "الإخوان" في الحكم قد فشلت، صار السؤال المقلق: كيف ومتى وبمن يمكن إخراج مصر من هذا المأزق المصيري الذي يكاد يعيد الاعتبار إلى عصر الطغيان، مهدداً الدولة ووحدة شعبها

تتهاوى الآمال العراض التي أطلقتها ثورة الشعب المصري العظيمة في "25 يناير" 2011 والإنجاز التاريخي "لشباب الميدان" الذين قدموا نموذجاً فذاً للجيل الجديد من الفتية الذين آمنوا ببلادهم، وهبوا لإسقاط نظامها بشيخوخته وعجزه وضعفه أمام العدو واستقوائه على أهل مصر، إلى حد تجويعهم ودفعهم إلى الهجرة، بكفاءاتهم، وبيع قدراتهم لمن يقدم لهم أسباب الحياة.

وها إن القلق على مصر والخوف على الثورة ـ الأمل، والغضب والنقمة على السلطة الإخوانية التي أوصلتها المصادفات، وارتباك الميدان وافتقاده القيادة الموحدة، يسود مصر جميعاً، ويتخطاها إلى الشعوب العربية التي رأت في ثورة مصر مدخلاً للعودة إلى التاريخ، بعدما أخرجتها أنظمة العنف والعجز منه، وكادت تخرج البلاد من الجغرافيا، موحدة على الأقل (نموذج السودان، العراق، سوريا، ليبيا؟..).

بل إن كلمات وتعابير مثل "الحرب الأهلية" و"الانفجار الواسع" و"الفتنة" باتت رائجة ومتداولة مترافقة مع أمثلة حسية عن تهاوي "الدولة" و"فقدان السيطرة" واللجوء إلى الجيش لحفظ الأمن في أكثر من منطقة وجهة في أرض المحروسة.. وبقدر ما يقلق هذا الواقع المر المصريين فإنه يحبط الآمال بالتغيير نحو الأفضل في البلاد العربية جميعاً، استناداً إلى أحقية مصر في دور القائد والى نصاعة الشعارات التي رفعت والشجاعة المميزة التي طبعت تصرفات شباب الميدان، فقدروا أن اللحظة التاريخية التي انتظروها طويلاً لكي تعود القاهرة عاصمة الغد العربي وقاطرة التقدم وقيادة التغيير نحو الأفضل في أربع رياح الأرض العربية، قد دقت ساعتها.

ولم يعد كافياً أن يقال: إن تجربة "الإخوان المسلمين" في الحكم قد فشلت! فهذا ليس حلاً للأزمة الخانقة التي تشل قدرات مصر وتزرع الفتنة في صفوف شعبها الذي ظل موحداً طيلة تاريخه، والذي عاد فأكد صلابة هذه الوحدة في "الميدان".

صار السؤال المقلق: كيف ومتى وبمن يمكن إخراج مصر من هذا المأزق المصيري الذي يكاد يعيد الاعتبار إلى عصر الطغيان الذي يتبدى مع ما هو واقع الآن كاريكاتورياً، خصوصاً انه يهدد في هذه اللحظة دولتها جميعاً ووحدة شعبها، فضلاً عن انه يلغي دورها القيادي، بل الريادي في أمتها ومنطقتها والعالم الإسلامي ومعسكر عدم الانحياز.

اللافت أن العالم كله، والعرب بالدرجة الأولى، وأهل مصر أساساً يُشغلهم القلق على أوضاع مصر في يومها وفي غدها أكثر مما تظهر تصرفات الحكم بقيادته الإخوانية في مواجهة موجة الاضطراب الواسع التي تكاد تذهب بهيبة الدولة وتضعف دور مؤسساتها العريقة، وتنذر بمخاطر غير محدودة على الغد.

ويبدو الفارق جلياً بين التجربة الإخوانية في السلطة في تونس وتجربة الإخوان في مصر... إذ كان إخوان تونس"أذكى" وأكثر حكمة، (حتى الآن على الأقل) من رفاقهم المصريين وحاولوا امتصاص حالة الغضب الواسعة التي كانت جاهزة للتفجر، اعتراضاً على هيمنة "الإخوان" على مراكز القرار وعجزهم عن حل أزمات البلاد الاقتصادية والاجتماعية... فلما وقعت جريمة اغتيال المناضل شكري بلعيد سارعوا إلى تعديل في واجهة حكمهم، قد لا تكون العلاج لمأزق جنوحهم إلى الهيمنة، ولكنها قد تعطي شعبهم فرصة للتنفس والتسليم مؤقتاً بهذا الحكم الائتلافي بالقيادة الإخوانية الذي لم ينجح في حل الأزمات الاجتماعية - الاقتصادية التي تختنق في ظلها تونس... ولا تنفع في التخفيف منها تعهدات القائد الإخواني راشد الغنوشي الذي فضحته بسالة "رفيقه" المناضل الذي لبط كرسي رئاسة الحكومة واستقال، حمادي الجبالي.

إن ابسط استنتاج يمكن الخلوص إليه أن "الإخوان المسلمين" في مصر يكررون أخطاء تنظيمات الأحزاب السياسية ذات التوجه القومي في المشرق العربي، البعث وحركة القوميين العرب واليساريين عموماً (حتى لا ننسى تجربة اليمن الجنوبي) في محاولة الهيمنة المطلقة على السلطة واستبعاد الآخرين عن طريق الطعن بوطنيتهم أو بكفاءتهم وقدرتهم على خدمة بلادهم.

بل إن "الإخوان" الذين يصلون الآن، متأخرين جداً عن زمان بلادهم والعالم، لا ينتبهون إلى أن الشعوب قد عاشت تجارب مع كل القوى التي استولت على السلطة - بصورة أو بأخرى - ثم احتكرت الوطنية والقومية والتقدمية، والدين جميعاً في بعض الأحيان (حتى لا ننسى صدام حسين وفرضه كتابة "الله أكبر" على علم العراق مع انطلاق حربه على إيران..)... قبل أن تقرر أنها المرجعية العليا في التعليم وفي التطبيب، في الاقتصاد وفي التصميم، في الشؤون الخارجية والعلاقات العربية، في التحالفات والمخاصمات، بل وفي العادات الشعبية وأصول الحديث والضيافة، وصولاً إلى رسم إطار للآداب، شعراً ونثراً، رواية وقصة (ولقد كتب صدام، أيضاً، روايات وفرض تدريسها باعتبارها فتحاً في تاريخ الأدب العربي وفن السيرة..وكذلك فعل القذافي!).

لعله الشبق إلى السلطة بعد طول حرمان منها، برغم ادّعاء "الإخوان" الدائم بأنهم الأولىَ بها لأنهم الأعلم والأثقف والأكفأ، فضلاً عن أنهم الأطهر والأنظف بشهادة "السجادة" و"الزبيبة" وأداء الصلاة في المكتب، وسط استعجال أصحاب الحاجات...

لعله الإحساس بضيق الوقت والرغبة المتلهفة إلى اقتناص الفرصة: تهيمن الآن أو تخسر فرصتك إلى الأبد!

أو لعلها بعض الإيحاءات والإشارات المشجعة التي صدرت وتصدر عن الجهات النافذة دولياً: لقد هبت رياحكم، بعدما أثبتم براءتكم من اعتماد سياسة الإرهاب ضدنا، فاغتنموها، وإلا ضاعت فرصتكم!

لقد تبدت صورة "الإخوان" الذين اختطفوا السلطة في مصر بمصادفة قدرية، وأساساً بسبب كونهم التنظيم الوحيد الذي تتسع قاعدته الشعبية باتساع البلاد بعاصمتها ومدنها وجهاتها جميعاً وصولاً إلى الصعيد وشبه جزيرة سيناء والصحراء الغربية، وكأنهم يتمتعون - منفردين - بالأهلية والقدرة على حكم مصر.

ولقد تقدموا إلى مركز القرار وهم ممتلئون بأنفسهم: بينهم أصحاب كفاءات واختصاصات في مختلف المجالات. هم المهندسون والأطباء، الخبراء في مجال المال والأعمال والربح الحلال عبر تثمير المدخرات، ثم أنهم المدرسون المميزون، وهم العارفون بالدنيا وقد جالوا- كدارسين أو كمنفيين او كمبتعثين - دول الغرب والشرق جميعاً. هم العارفون بالدنيا، والذين اكتسبوا ثقة أصحاب القرار في مراكز القرار وأثبتوا أهليتهم لمواجهة الخطر النووي الإيراني ومعه "التشييع" الأشد فتكاً وتدميراً... وهنا تجلت أخطر كفاءاتهم: ليس مهماً ما سوف ينجزه حكمهم في خدمة شعبهم، بل المهم صد الخطر الإيراني الزاحف على بلاد العرب والمسلمين، والذي يهدد المصالح الغربية وأعظمها إسرائيل.

أي أن الصورة التي قدموها عن أنفسهم تتلخص في كل ما يطلبه الغرب الاميركي: إنهم إسلاميون ولكنهم ليسوا من "القاعدة" وليسوا فيها، بل إنهم "عدوها الأول"، فهم شرقيو الدين غربيي الهوى السياسي... كذلك فهم ليسوا متطرفين وليسوا معادين للغرب في أي حال، وبالتالي فعلاقتهم مع الكيان الذي ألغى فلسطين مبررة انطلاقاً من أن "أهله" الإسرائيليين هم أهل الدين.

كان المهم تقديم شهادة حسن سلوك إلى الخارج والحصول على التزكية المطلوبة، أما الداخل فغير مهم. شهادة إسرائيل هي الأهم.

ثم، ولأنهم إسلاميون وغربيو الهوى، فقد افترضوا أنهم يستطيعون الحصول على تزكية من أهل النفط والغاز في الجزيرة والخليج... ولكنهم وجدوا أنفسهم مضطرين - مرة أخرى - إلى تحديد هويتهم الإسلامية أكثر فأكثر، فالإسلام الإيراني مرفوض، والإسلام المستنير مرفوض، والإسلام السلفي إلى حدود القاعدة مرفوض، والإسلام المعادي للغرب وإسرائيل مرفوض، والإسلام العربي بما هو دعوة إلى الجهاد من اجل التحرر والتحرير مرفوض..

إذن، ليس من حل إلا في إشراك قوى الثورة في السلطة، والتنازل عن بعض المواقع الحاكمة، وإقامة حكم على قاعدة جبهة وطنية تتمثل فيها القوى الحية في المجتمع، وهذا بالضبط مقتل السلطة الإخوانية...

يكفي والحالة هذه تقريب بعض التنظيمات ذات الوجود الرمزي، إذ لا قاعدة لها ولا برنامج، ورأسمالها أسماء بعض وجاهات المال والسياسة ممن كانوا مع نظام مبارك ولا مانع من أن يزين بهم نظام "الإخوان" شبابيك سلطته...

... وهذه أقصر الطرق لسقوط حكم "الإخوان"..

لكن الكارثة هنا أن هذا السقوط قد يكلف تدمير مصر..

وها هي المقدمات تنذر بالنتيجة المحزنة: الثورة المجيدة تتوارى خلف سلطان لم يعرف كيف يسوس الحكم، فضلاً عن أن ذلك ليس من حقه، فباشر خلعه ولكن بكلفة باهظة جداً.

  • فريق ماسة
  • 2013-03-12
  • 11068
  • من الأرشيف

حكم "الإخوان" يغتال الثورة ولا يبني مصر

لم يعد كافياً أن يقال: إن تجربة "الإخوان" في الحكم قد فشلت، صار السؤال المقلق: كيف ومتى وبمن يمكن إخراج مصر من هذا المأزق المصيري الذي يكاد يعيد الاعتبار إلى عصر الطغيان، مهدداً الدولة ووحدة شعبها تتهاوى الآمال العراض التي أطلقتها ثورة الشعب المصري العظيمة في "25 يناير" 2011 والإنجاز التاريخي "لشباب الميدان" الذين قدموا نموذجاً فذاً للجيل الجديد من الفتية الذين آمنوا ببلادهم، وهبوا لإسقاط نظامها بشيخوخته وعجزه وضعفه أمام العدو واستقوائه على أهل مصر، إلى حد تجويعهم ودفعهم إلى الهجرة، بكفاءاتهم، وبيع قدراتهم لمن يقدم لهم أسباب الحياة. وها إن القلق على مصر والخوف على الثورة ـ الأمل، والغضب والنقمة على السلطة الإخوانية التي أوصلتها المصادفات، وارتباك الميدان وافتقاده القيادة الموحدة، يسود مصر جميعاً، ويتخطاها إلى الشعوب العربية التي رأت في ثورة مصر مدخلاً للعودة إلى التاريخ، بعدما أخرجتها أنظمة العنف والعجز منه، وكادت تخرج البلاد من الجغرافيا، موحدة على الأقل (نموذج السودان، العراق، سوريا، ليبيا؟..). بل إن كلمات وتعابير مثل "الحرب الأهلية" و"الانفجار الواسع" و"الفتنة" باتت رائجة ومتداولة مترافقة مع أمثلة حسية عن تهاوي "الدولة" و"فقدان السيطرة" واللجوء إلى الجيش لحفظ الأمن في أكثر من منطقة وجهة في أرض المحروسة.. وبقدر ما يقلق هذا الواقع المر المصريين فإنه يحبط الآمال بالتغيير نحو الأفضل في البلاد العربية جميعاً، استناداً إلى أحقية مصر في دور القائد والى نصاعة الشعارات التي رفعت والشجاعة المميزة التي طبعت تصرفات شباب الميدان، فقدروا أن اللحظة التاريخية التي انتظروها طويلاً لكي تعود القاهرة عاصمة الغد العربي وقاطرة التقدم وقيادة التغيير نحو الأفضل في أربع رياح الأرض العربية، قد دقت ساعتها. ولم يعد كافياً أن يقال: إن تجربة "الإخوان المسلمين" في الحكم قد فشلت! فهذا ليس حلاً للأزمة الخانقة التي تشل قدرات مصر وتزرع الفتنة في صفوف شعبها الذي ظل موحداً طيلة تاريخه، والذي عاد فأكد صلابة هذه الوحدة في "الميدان". صار السؤال المقلق: كيف ومتى وبمن يمكن إخراج مصر من هذا المأزق المصيري الذي يكاد يعيد الاعتبار إلى عصر الطغيان الذي يتبدى مع ما هو واقع الآن كاريكاتورياً، خصوصاً انه يهدد في هذه اللحظة دولتها جميعاً ووحدة شعبها، فضلاً عن انه يلغي دورها القيادي، بل الريادي في أمتها ومنطقتها والعالم الإسلامي ومعسكر عدم الانحياز. اللافت أن العالم كله، والعرب بالدرجة الأولى، وأهل مصر أساساً يُشغلهم القلق على أوضاع مصر في يومها وفي غدها أكثر مما تظهر تصرفات الحكم بقيادته الإخوانية في مواجهة موجة الاضطراب الواسع التي تكاد تذهب بهيبة الدولة وتضعف دور مؤسساتها العريقة، وتنذر بمخاطر غير محدودة على الغد. ويبدو الفارق جلياً بين التجربة الإخوانية في السلطة في تونس وتجربة الإخوان في مصر... إذ كان إخوان تونس"أذكى" وأكثر حكمة، (حتى الآن على الأقل) من رفاقهم المصريين وحاولوا امتصاص حالة الغضب الواسعة التي كانت جاهزة للتفجر، اعتراضاً على هيمنة "الإخوان" على مراكز القرار وعجزهم عن حل أزمات البلاد الاقتصادية والاجتماعية... فلما وقعت جريمة اغتيال المناضل شكري بلعيد سارعوا إلى تعديل في واجهة حكمهم، قد لا تكون العلاج لمأزق جنوحهم إلى الهيمنة، ولكنها قد تعطي شعبهم فرصة للتنفس والتسليم مؤقتاً بهذا الحكم الائتلافي بالقيادة الإخوانية الذي لم ينجح في حل الأزمات الاجتماعية - الاقتصادية التي تختنق في ظلها تونس... ولا تنفع في التخفيف منها تعهدات القائد الإخواني راشد الغنوشي الذي فضحته بسالة "رفيقه" المناضل الذي لبط كرسي رئاسة الحكومة واستقال، حمادي الجبالي. إن ابسط استنتاج يمكن الخلوص إليه أن "الإخوان المسلمين" في مصر يكررون أخطاء تنظيمات الأحزاب السياسية ذات التوجه القومي في المشرق العربي، البعث وحركة القوميين العرب واليساريين عموماً (حتى لا ننسى تجربة اليمن الجنوبي) في محاولة الهيمنة المطلقة على السلطة واستبعاد الآخرين عن طريق الطعن بوطنيتهم أو بكفاءتهم وقدرتهم على خدمة بلادهم. بل إن "الإخوان" الذين يصلون الآن، متأخرين جداً عن زمان بلادهم والعالم، لا ينتبهون إلى أن الشعوب قد عاشت تجارب مع كل القوى التي استولت على السلطة - بصورة أو بأخرى - ثم احتكرت الوطنية والقومية والتقدمية، والدين جميعاً في بعض الأحيان (حتى لا ننسى صدام حسين وفرضه كتابة "الله أكبر" على علم العراق مع انطلاق حربه على إيران..)... قبل أن تقرر أنها المرجعية العليا في التعليم وفي التطبيب، في الاقتصاد وفي التصميم، في الشؤون الخارجية والعلاقات العربية، في التحالفات والمخاصمات، بل وفي العادات الشعبية وأصول الحديث والضيافة، وصولاً إلى رسم إطار للآداب، شعراً ونثراً، رواية وقصة (ولقد كتب صدام، أيضاً، روايات وفرض تدريسها باعتبارها فتحاً في تاريخ الأدب العربي وفن السيرة..وكذلك فعل القذافي!). لعله الشبق إلى السلطة بعد طول حرمان منها، برغم ادّعاء "الإخوان" الدائم بأنهم الأولىَ بها لأنهم الأعلم والأثقف والأكفأ، فضلاً عن أنهم الأطهر والأنظف بشهادة "السجادة" و"الزبيبة" وأداء الصلاة في المكتب، وسط استعجال أصحاب الحاجات... لعله الإحساس بضيق الوقت والرغبة المتلهفة إلى اقتناص الفرصة: تهيمن الآن أو تخسر فرصتك إلى الأبد! أو لعلها بعض الإيحاءات والإشارات المشجعة التي صدرت وتصدر عن الجهات النافذة دولياً: لقد هبت رياحكم، بعدما أثبتم براءتكم من اعتماد سياسة الإرهاب ضدنا، فاغتنموها، وإلا ضاعت فرصتكم! لقد تبدت صورة "الإخوان" الذين اختطفوا السلطة في مصر بمصادفة قدرية، وأساساً بسبب كونهم التنظيم الوحيد الذي تتسع قاعدته الشعبية باتساع البلاد بعاصمتها ومدنها وجهاتها جميعاً وصولاً إلى الصعيد وشبه جزيرة سيناء والصحراء الغربية، وكأنهم يتمتعون - منفردين - بالأهلية والقدرة على حكم مصر. ولقد تقدموا إلى مركز القرار وهم ممتلئون بأنفسهم: بينهم أصحاب كفاءات واختصاصات في مختلف المجالات. هم المهندسون والأطباء، الخبراء في مجال المال والأعمال والربح الحلال عبر تثمير المدخرات، ثم أنهم المدرسون المميزون، وهم العارفون بالدنيا وقد جالوا- كدارسين أو كمنفيين او كمبتعثين - دول الغرب والشرق جميعاً. هم العارفون بالدنيا، والذين اكتسبوا ثقة أصحاب القرار في مراكز القرار وأثبتوا أهليتهم لمواجهة الخطر النووي الإيراني ومعه "التشييع" الأشد فتكاً وتدميراً... وهنا تجلت أخطر كفاءاتهم: ليس مهماً ما سوف ينجزه حكمهم في خدمة شعبهم، بل المهم صد الخطر الإيراني الزاحف على بلاد العرب والمسلمين، والذي يهدد المصالح الغربية وأعظمها إسرائيل. أي أن الصورة التي قدموها عن أنفسهم تتلخص في كل ما يطلبه الغرب الاميركي: إنهم إسلاميون ولكنهم ليسوا من "القاعدة" وليسوا فيها، بل إنهم "عدوها الأول"، فهم شرقيو الدين غربيي الهوى السياسي... كذلك فهم ليسوا متطرفين وليسوا معادين للغرب في أي حال، وبالتالي فعلاقتهم مع الكيان الذي ألغى فلسطين مبررة انطلاقاً من أن "أهله" الإسرائيليين هم أهل الدين. كان المهم تقديم شهادة حسن سلوك إلى الخارج والحصول على التزكية المطلوبة، أما الداخل فغير مهم. شهادة إسرائيل هي الأهم. ثم، ولأنهم إسلاميون وغربيو الهوى، فقد افترضوا أنهم يستطيعون الحصول على تزكية من أهل النفط والغاز في الجزيرة والخليج... ولكنهم وجدوا أنفسهم مضطرين - مرة أخرى - إلى تحديد هويتهم الإسلامية أكثر فأكثر، فالإسلام الإيراني مرفوض، والإسلام المستنير مرفوض، والإسلام السلفي إلى حدود القاعدة مرفوض، والإسلام المعادي للغرب وإسرائيل مرفوض، والإسلام العربي بما هو دعوة إلى الجهاد من اجل التحرر والتحرير مرفوض.. إذن، ليس من حل إلا في إشراك قوى الثورة في السلطة، والتنازل عن بعض المواقع الحاكمة، وإقامة حكم على قاعدة جبهة وطنية تتمثل فيها القوى الحية في المجتمع، وهذا بالضبط مقتل السلطة الإخوانية... يكفي والحالة هذه تقريب بعض التنظيمات ذات الوجود الرمزي، إذ لا قاعدة لها ولا برنامج، ورأسمالها أسماء بعض وجاهات المال والسياسة ممن كانوا مع نظام مبارك ولا مانع من أن يزين بهم نظام "الإخوان" شبابيك سلطته... ... وهذه أقصر الطرق لسقوط حكم "الإخوان".. لكن الكارثة هنا أن هذا السقوط قد يكلف تدمير مصر.. وها هي المقدمات تنذر بالنتيجة المحزنة: الثورة المجيدة تتوارى خلف سلطان لم يعرف كيف يسوس الحكم، فضلاً عن أن ذلك ليس من حقه، فباشر خلعه ولكن بكلفة باهظة جداً.

المصدر : السفير/طلال سلمان


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة