دليل ماسة
أكثر الروابط استخداما
حين وصل السؤال إلى "ماذا تعلمت واشنطن من الربيع العربي؟"، غصت قاعة المحاضرات الكبرى في مؤتمر اتحاد المؤسسات الدراسية حول الشرق الأوسط في دنفر ــ كولورادو. فاضت حتى الردهات الجانبية، بأكثر من 300 باحث ومئات طلاب الدكتوراه من كبريات جامعات أميركا ومعاهدها، افترشوا الأرض متسلحين بآي باداتهم، تدفق منها الأفكار دفقاً، بين صاحب مداخلة وسؤال وجواب ونقاش بين المتداخلين.
ست خلاصات انتهى خبراء أميركا إلى أنهم تعلموها من منطقتنا في العامين الماضيين:
أولاً، تعلمنا أن هذا الربيع هو في حد ذاته إشكالية. وأننا لم ننتبه إلى براعمه الأولى قبل زمن. لا بل غالباً عملنا على فرطها قبل أن تعقد وتثمر: جزائر العام 1998، بحرين ما بين 1994 و1999، دمشق العام 2000، مصر حركة "كفاية" سنة 2004… من دون أن ينسوا طبعاً "ثورة الأرز" في بيروت سنة 2005.
ثانياً، تعلمنا أيضاً أن الدولة في تلك المنطقة من العالم مفهوم غير ثابت. لم ينضج بعد. لا يزال ثانوياً مقارنة بالعائلة والطائفة. اليوم فقط اكتشف الأميركيون ذلك. ثم اكتشفنا أن الملكيات ومشيخات النفط محيدة عن رياح الربيع وثوراته، لا لأن مفهوم الدولة فيها أقوى، بل لأن مفهوم المجتمع فيها أضعف ومفهوم الشعب فيها أسخف ومفهوم المواطن فيها أوهى. ولأن مسألة الهوية والمسألة الثقافية في تلك الكيانات أقرب إلى العدم.
ثالثاً، تعلمنا أن دولة القانون والحق لها حظوظ في تلك المنطقة، رغم قوة الإسلاميين. فالأحداث والتطورات أثبتت أنهم ليسوا أكثرية، وأن أجسامهم متفسخة، وأن لا إجماع حتى داخل وحداتهم المختلفة على أجنداتهم المعلنة أو المخفية. فضلاً عن كون وصولهم إلى السلطة، قد بدأ فعلاً باستنزافهم أسرع مما كنا نتوقع، وأكثر مما يجهلون.
وتعلمنا رابعاً أن ثمة قضايا تبدو مستعصية الحل بالنسبة إلى الصحوة الإسلامية. وهي ستكون كافية لإنهائها. منها الإرهاب الإسلامي الذي سيتحول الآن عبئاً على الإسلاميين في السلطة، بعدما كان رافعة لهم في المعارضة. ومنها عملية السلام مع اسرائيل، هذا المأزق الذي لا حل له إطلاقاً في العقل الإسلامي، إلا بثمن تحلل هذا العقل. ومنها عملية الدمقرطة، التي ستكبر يوماً فيوم (والكلام كان قبل أزمة القاهرة الأخيرة) فإما أن يتغير الإسلاميون، وإما أن يغيرهم ناس الميادين. اولئك الذين استذوقوا طعم التظاهرات وصناديق الاقتراع، لن يستكينوا قبل ديموقراطية كاملة، كما يعتقد الأميركيون أنهم تعلموا. ومن مآزق حكم الإسلاميين ايضاً، الوضع الاقتصادي، وخصوصاً محاولات إصلاحه. فبين دعوة هدم الأهرام وجلد السائح إذا رشف جرعة بيرة، ماذا سيبقى لمليون مصري يرمون في سوق العمل سنوياً؟ فيما مجرد التلميح إلى سياسات الحد من الإنجاب كاد يوحِّد الأزهر والإخوان والسلفيين تحت راية جهاديي مالي، بقيادة الشهيد الكوسوفي الأول في سوريا… صحيح أن الإسلاميين لم يقودوا الثورات، بل قطفوها. لكن الصحيح ايضاً ان الثوار الحقيقيين لن ينصاعوا للإسلاميين طويلاً، بل سيستهلكونهم.
خامساً، يقول الأميركيون إنهم تعلموا من هذا "الربيع" ان مفتاح قوننته وشرعنته ربيعاً فعلياً هو المرأة. قصة "الجندر" تلك يلهج بها كل باحث غربي حول المنطقة والإسلام. ويروحون يرددون إحصاءاتها المذهلة: اكتب "المرأة ومصر" على محرك غوغل، تحصد أكثر من مليوني مدخل بحث، في جزء من الثانية…
وسادساً وأخيراً يقول الأميركيون إنهم تعلموا من منطقتنا وثوراتها، أن منطق التدخل الخارجي لا يجدي ولا ينفع. فضلاً عن تحوله غالباً كرة ثلج تأكل راميها. أمضينا عقوداً طويلة هناك بصفة "تدخليين"، يقول باحثو أميركا. تحت عنوان الاستعمار أو الانتداب أو حتى الحرب الباردة. بعدها أوهام الاستقلال لنا ولتلك الشعوب، دخلنا في دوامة جديدة من التدهور التدخلي. سنة 1991 تدخلنا عسكرياً في الكويت، بحجة ان العراق اجتاحها. ثم سنة 2003 اجتحنا العراق لأنها قد تهدد جوارها. فوصلنا سنة 2011 إلى اجتياح ليبيا بحجة تهديدها لداخلها نفسه. آن الأوان لنتعلم أن حق تقرير المصير هو البديل عن انزلاقات فلسفة التدخل، قبل أن نتدخل من دون سبب ولا حتى ذريعة…
بعد ساعات من البحث، قال الأميركيون كل ما تعلموه من منطقتنا. إلا الأساس. لم يعترفوا بأن اسرائيل هي خلاصة الفكر التدخلي والعنصري الكافي لتفجير كل الشرق. ولم يتعلموا أن ممارستهم "فليرت" سياسياً مع تيوقراطيات النفط وتوتاليتاريته، تبريراً لقيام اسرائيل، جعلت شعوباً كاملة في عصر ما قبل العصر. ولم يتعلموا أخيراً ان إهمالهم لنموذج العصرنة الوحيد في هذه المنطقة، لبنان، على بدائيته وعرجه ونواقصه، قضى على أي نموذج ولو برعماً… بالإذن من أصحاب الحقد الذاتي، المتشظي على كل لبنان وكل الكون.
المصدر :
جان عزيز
اكتب تعليق
كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة