في أول أثر لنتائج حرب غزة الثانية، أعلن وزير الدفاع الإسرائيلي إيهود باراك اعتزاله الحياة السياسية. وبالرغم من أن القرار كان مفاجئاً من ناحية التوقيت، وشكّل نوعاً من تفجير قنبلة مدوية، إلا أن البعض في إسرائيل لم يتفاجأ، وقالها مرة أخرى: إيهود هرب. وبديهي أن الاعتزال في توقيته لا يمكن فصله لا عن الحرب التي انتهت للتو، ولا عن الانتخابات العامة الوشيكة.
وأعلن إيهود باراك اعتزاله الحياة السياسية قائلاً «تبادلت الحيرة بضعة أسابيع مع أصحاب وأصدقاء. بودي أن أتعلم، أكتب، أعيش وأيضاً أتمتع بالحياة»، مضيفاً «اتخذت القرار ليس من دون حيرة، لكن بقلب سليم». وتابع ان «قراري اعتزال الحياة السياسية ينبع من واقع رغبتي في تكريس المزيد من الوقت لعائلتي»، شارحاً «انني أشعر بأنني استنفدت اهتماماتي السياسية التي لم تكن أبداً بالنسبة الي شيئاً أتوق إليه. هناك طرق كثيرة للإسهام للوطن، وليس فقط عبر السياسة».
وأوضح أنه سينهي بشكل عملي مهام عمله مع تشكيل الحكومة الإسرائيلية المقبلة بعد حوالي ثلاثة أشهر. وأنكر باراك أن يكون قراره نابعاً من وضع حزبه الصعب في استطلاعات الرأي، مشيراً إلى أن «وضع الحزب الآن في استطلاعات الرأي ليس سيئاً، وأننا بهذه الوتيرة قد نصل إلى 11 مقعداً في الانتخابات». ومازح وزير الدفاع الصحافيين قائلاً «بمعنى ما أنا أتبع خطى موشي كحلون (وزير من حزب الليكود اعتزل منذ فترة)، أي خطى الكبار. أنا أخلي الميدان لرئيس الوزراء الأسبق إيهود أولمرت، من أجل أن تتمكنوا أنتم الصحافيون، من مواصلة العمل».
وأثار إعلان باراك ردود فعل متضاربة في الحلبة السياسية مالت بأغلبها نحو الترحيب، وبعضها إلى الشماتة، وقليل منها إلى الأسى. ويكاد باراك يكون معدوم الشعبية في الحلبة السياسية، ومكروهاً من اليمين واليسار على حد سواء. وينظر إليه أغلب السياسيين على أنه مدرسة كاملة في الانتهازية السياسية، سواء بسبب تقلب مواقفه، أو بفضل انتقالاته من معسكر إلى آخر. بل ان سمعة باراك الأمنية التي طالما منحته مكانة مميزة، سقطت في اختبارات عديدة، آخرها حرب غزة.
ولا ينسى اليسار لباراك أنه كان من بين أشد من وجهوا ضربات قاتلة للعملية السياسية مع الفلسطينيين. ففي عهده تم الإعلان عن انعدام الشريك في الجانب الفلسطيني بعد مفاوضات كامب ديفيد، التي قال انه هدف من خلالها إلى تمزيق القناع عن وجه الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات. وفي عهده كرئيس حكومة نشبت الانتفاضة الفلسطينية الثانية التي تكاد لم تنته حتى الآن، وقادت العلاقات الإسرائيلية الفلسطينية إلى الدرك الأسفل بتتويجها اليمين على رئاسة الحكومة من أرييل شارون إلى إيهود أولمرت إلى رئيس الحكومة الحالي بنيامين نتنياهو.
كما أن اليمين الإسرائيلي لا ينسى لباراك أنه كان في حكومة نتنياهو «الشارة اليسارية» التي كثيراً ما أشاعت الأوهام بشأن التسوية مع الفلسطينيين، ومثّلت الاختراق الأميركي لتلك الحكومة خصوصاً في كل ما يتعلق بسياسة الاستيطان. وكان الغضب على أشده حين فرضت الإدارة الأميركية على إسرائيل بالتعاون مع باراك مسألة تجميد الاستيطان لتسعة أشهر.
وعن الوسط، حدث ولا حرج. فإيهود باراك كان من بين العوامل التي قادت إلى إسقاط حكم إيهود أولمرت. كما أنه قاد الانشقاق في حزب العمل وتشكيل «حزب الاستقلال» بعدما كان جرّ «العمل» إلى مواقع اليمين الإسرائيلي.
إلى ذلك، تشير تفاصيل ما جرى مع باراك في الآونة الأخيرة بوضوح إلى العزلة التي بات يعيش فيها جراء الكراهية العميقة التي تطورت نحوه من جميع الاتجاهات تقريباً في المجتمع والحلبة السياسية الإسرائيلية. فالسيرة السياسية لوزير الدفاع معروفة وهي قادته، كما هو معلوم في العامين الأخيرين، إلى الارتماء في أحضان نتنياهو وصولاً، كما سلف، إلى الانشقاق عن حزب العمل وتشكيل «حزب الاستقلال». ومنذ ذلك الحين وجهود باراك تنصب على تأمين مستقبله السياسي الذي دار في اتجاهين: محاولة تشكيل حزب وسط يكون فيه الشخص الأول أو الثاني، أو ضمان موقع له ضمن الليكود يتيح له تولي وزارة الدفاع في الحكومة المقبلة.
غير أن هذه الجهود باءت بالفشل في الاتجاهين. على صعيد الوسط تكاد تكون الثقة بباراك معدومة في الأوساط السياسية من جهة، فضلاً عن أن اسمه لم تعد له قيمة كبيرة على الصعيد الشعبي من جهة ثانية. وفي الليكود تكتلت ضده قوة هائلة حالت دون تحصين أي موقع له داخل الحزب، وطالبت بأن ينال العضوية كأي شخص آخر ويخوض الانتخابات من أدنى. وهذا يعني أن مكانه غير مضمون في قائمة الليكود فضلاً عن انعدام الفرصة لرفاقه من «حزب الاستقلال» فيها أيضاً.
وحول تفكيره في البقاء كحزب سياسي مُني بفشل ذريع، إذ أظهرت استطلاعات الرأي أنه غير قادر على تجاوز نسبة الحسم في أي انتخابات. وهذا ما دفع كثيرين للاعتقاد أنه كان محفزاً لنتنياهو لشن الحرب على غزة اعتقاداً منه أنها ستحسن فرصته الانتخابية.
وأشارت الاستطلاعات الأخيرة إلى أن الفرصة تحسنت فعلاً، لكن بشكل لا يضمن فعلاً النجاح. فقد أعطته الاستطلاعات بين ثلاثة وأربعة مقاعد وليس 11 كما ادعى. وظلت هذه المقاعد في دائرة نسبة الخطأ العلمي المتوقع. لهذا السبب قرر باراك اعتزال الحياة السياسية، بدلا من تكبد عناء مواجهة الجمهور الإسرائيلي في انتخابات عامة بعد حرب فاشلة.
 
  • فريق ماسة
  • 2012-11-26
  • 12907
  • من الأرشيف

باراك يختـار الهـرب سـياسـياً .. مكـروهـاً ومعـزولاً ومهـزومـاً

في أول أثر لنتائج حرب غزة الثانية، أعلن وزير الدفاع الإسرائيلي إيهود باراك اعتزاله الحياة السياسية. وبالرغم من أن القرار كان مفاجئاً من ناحية التوقيت، وشكّل نوعاً من تفجير قنبلة مدوية، إلا أن البعض في إسرائيل لم يتفاجأ، وقالها مرة أخرى: إيهود هرب. وبديهي أن الاعتزال في توقيته لا يمكن فصله لا عن الحرب التي انتهت للتو، ولا عن الانتخابات العامة الوشيكة. وأعلن إيهود باراك اعتزاله الحياة السياسية قائلاً «تبادلت الحيرة بضعة أسابيع مع أصحاب وأصدقاء. بودي أن أتعلم، أكتب، أعيش وأيضاً أتمتع بالحياة»، مضيفاً «اتخذت القرار ليس من دون حيرة، لكن بقلب سليم». وتابع ان «قراري اعتزال الحياة السياسية ينبع من واقع رغبتي في تكريس المزيد من الوقت لعائلتي»، شارحاً «انني أشعر بأنني استنفدت اهتماماتي السياسية التي لم تكن أبداً بالنسبة الي شيئاً أتوق إليه. هناك طرق كثيرة للإسهام للوطن، وليس فقط عبر السياسة». وأوضح أنه سينهي بشكل عملي مهام عمله مع تشكيل الحكومة الإسرائيلية المقبلة بعد حوالي ثلاثة أشهر. وأنكر باراك أن يكون قراره نابعاً من وضع حزبه الصعب في استطلاعات الرأي، مشيراً إلى أن «وضع الحزب الآن في استطلاعات الرأي ليس سيئاً، وأننا بهذه الوتيرة قد نصل إلى 11 مقعداً في الانتخابات». ومازح وزير الدفاع الصحافيين قائلاً «بمعنى ما أنا أتبع خطى موشي كحلون (وزير من حزب الليكود اعتزل منذ فترة)، أي خطى الكبار. أنا أخلي الميدان لرئيس الوزراء الأسبق إيهود أولمرت، من أجل أن تتمكنوا أنتم الصحافيون، من مواصلة العمل». وأثار إعلان باراك ردود فعل متضاربة في الحلبة السياسية مالت بأغلبها نحو الترحيب، وبعضها إلى الشماتة، وقليل منها إلى الأسى. ويكاد باراك يكون معدوم الشعبية في الحلبة السياسية، ومكروهاً من اليمين واليسار على حد سواء. وينظر إليه أغلب السياسيين على أنه مدرسة كاملة في الانتهازية السياسية، سواء بسبب تقلب مواقفه، أو بفضل انتقالاته من معسكر إلى آخر. بل ان سمعة باراك الأمنية التي طالما منحته مكانة مميزة، سقطت في اختبارات عديدة، آخرها حرب غزة. ولا ينسى اليسار لباراك أنه كان من بين أشد من وجهوا ضربات قاتلة للعملية السياسية مع الفلسطينيين. ففي عهده تم الإعلان عن انعدام الشريك في الجانب الفلسطيني بعد مفاوضات كامب ديفيد، التي قال انه هدف من خلالها إلى تمزيق القناع عن وجه الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات. وفي عهده كرئيس حكومة نشبت الانتفاضة الفلسطينية الثانية التي تكاد لم تنته حتى الآن، وقادت العلاقات الإسرائيلية الفلسطينية إلى الدرك الأسفل بتتويجها اليمين على رئاسة الحكومة من أرييل شارون إلى إيهود أولمرت إلى رئيس الحكومة الحالي بنيامين نتنياهو. كما أن اليمين الإسرائيلي لا ينسى لباراك أنه كان في حكومة نتنياهو «الشارة اليسارية» التي كثيراً ما أشاعت الأوهام بشأن التسوية مع الفلسطينيين، ومثّلت الاختراق الأميركي لتلك الحكومة خصوصاً في كل ما يتعلق بسياسة الاستيطان. وكان الغضب على أشده حين فرضت الإدارة الأميركية على إسرائيل بالتعاون مع باراك مسألة تجميد الاستيطان لتسعة أشهر. وعن الوسط، حدث ولا حرج. فإيهود باراك كان من بين العوامل التي قادت إلى إسقاط حكم إيهود أولمرت. كما أنه قاد الانشقاق في حزب العمل وتشكيل «حزب الاستقلال» بعدما كان جرّ «العمل» إلى مواقع اليمين الإسرائيلي. إلى ذلك، تشير تفاصيل ما جرى مع باراك في الآونة الأخيرة بوضوح إلى العزلة التي بات يعيش فيها جراء الكراهية العميقة التي تطورت نحوه من جميع الاتجاهات تقريباً في المجتمع والحلبة السياسية الإسرائيلية. فالسيرة السياسية لوزير الدفاع معروفة وهي قادته، كما هو معلوم في العامين الأخيرين، إلى الارتماء في أحضان نتنياهو وصولاً، كما سلف، إلى الانشقاق عن حزب العمل وتشكيل «حزب الاستقلال». ومنذ ذلك الحين وجهود باراك تنصب على تأمين مستقبله السياسي الذي دار في اتجاهين: محاولة تشكيل حزب وسط يكون فيه الشخص الأول أو الثاني، أو ضمان موقع له ضمن الليكود يتيح له تولي وزارة الدفاع في الحكومة المقبلة. غير أن هذه الجهود باءت بالفشل في الاتجاهين. على صعيد الوسط تكاد تكون الثقة بباراك معدومة في الأوساط السياسية من جهة، فضلاً عن أن اسمه لم تعد له قيمة كبيرة على الصعيد الشعبي من جهة ثانية. وفي الليكود تكتلت ضده قوة هائلة حالت دون تحصين أي موقع له داخل الحزب، وطالبت بأن ينال العضوية كأي شخص آخر ويخوض الانتخابات من أدنى. وهذا يعني أن مكانه غير مضمون في قائمة الليكود فضلاً عن انعدام الفرصة لرفاقه من «حزب الاستقلال» فيها أيضاً. وحول تفكيره في البقاء كحزب سياسي مُني بفشل ذريع، إذ أظهرت استطلاعات الرأي أنه غير قادر على تجاوز نسبة الحسم في أي انتخابات. وهذا ما دفع كثيرين للاعتقاد أنه كان محفزاً لنتنياهو لشن الحرب على غزة اعتقاداً منه أنها ستحسن فرصته الانتخابية. وأشارت الاستطلاعات الأخيرة إلى أن الفرصة تحسنت فعلاً، لكن بشكل لا يضمن فعلاً النجاح. فقد أعطته الاستطلاعات بين ثلاثة وأربعة مقاعد وليس 11 كما ادعى. وظلت هذه المقاعد في دائرة نسبة الخطأ العلمي المتوقع. لهذا السبب قرر باراك اعتزال الحياة السياسية، بدلا من تكبد عناء مواجهة الجمهور الإسرائيلي في انتخابات عامة بعد حرب فاشلة.  

المصدر : السفير :حلمي موسى


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة