دليل ماسة
أكثر الروابط استخداما
الحقيقة لا تموت، تبقى حية ما دمنا نكتب عنها.. ما دمنا نبحث عنها.. ونناضل من أجل إعلانها وإعلائها.. إنها الصرخة الأولى المدوية التي أطلقها ناصر السعيد أول معارض لنظام آل سعود منذ سمى هؤلاء نجد والحجاز باسمهم عام 1932.
.. والكلمة الشجاعة لا تموت، تبقى حية حتى لو غيب القتل والغدر جسد قائلها، ويخطئ من يرتكب القتل باعتقاده أنه يقتل الكلمة بقتل صاحبها بل هو على العكس يبقيها حية لتؤرقه وتطارده حتى آخر أيامه لأن هناك دائماً في كل زمان ومكان من يلتقط تلك الكلمة الشجاعة وينقلها من جيل إلى جيل، ومثالنا الحي هنا هو ناصر السعيد الذي يبقى حياً رغم مرور 33 عاماً على مقتله بيد آل سعود عام 1979 بعد صدور كتابه «تاريخ آل سعود» الذي كشف فيه أصلهم وفصلهم.
فكر ناصر السعيد ونضاله بوجه الظلم والاستبداد لم يسقط بالتقادم وما تشهده السعودية اليوم من ثورة شعبية يكرسه بقوة باعتباره المناضل الأول والشهيد الأول من أجل نهضة بلاده وتحررها، ونحن نعتقد أن الاغلبية الكبيرة في السعودية تعرف جيداً من هو السعيد.. كيف عاش وتربى وناضل بالقلم والكلمة وكيف قضى؟
خارج السعودية نعتقد أيضاً أن أغلبية كبيرة قرأت كتابه أو سمعت به وإن كانت لا تعرف الكثير عن كاتبه ومسيرته الفكرية والنضالية والاجتماعية.
ولد ناصر السعيد في مدينة حائل لقبيلة شمر عام 1923 بعد عام على سقوطها في يد عبد العزيز آل سعود فكان من أوائل الذين عاشوا قمع آل سعود، وكانت الكراهية لهم في المدينة على أشدها لدرجة أنهم أطلقوا على مواليد ذلك العام اسم أولاد السقوط، ويقول ناصر: إنهم نظروا إليه حين مولده نظرة عدم استحسان وكأنهم لا يريدون أن يولد أحد بعد سقوط حائل بيد الأعداء.
في هذا المناخ تربى ناصر وعايش سقوط العديد من الضحايا من أسرته على يد آل سعود ومواليهم في المدينة التي عاشت كل ألوان القهر والتنكيل بأبنائها.. ويذكر السعيد أنه دخل السجن مع جدته وهو لم يتجاوز السابعة من عمره عندما رفضت صدقة أرسلها إليهم والي حائل آنذاك عبد العزيز بن مساعد بن جلوي –وهو أحد أقرباء الملك- مع أحد الخدم، فما كان من الجدة إلا أن ضربت الخادم فقُبض عليها ولم يُفرج عنها إلا بوساطة أهل حائل وبعد أن قام ابن جلوي بشتمها، وكان ذلك في عام 1930.
وما إن شب حتى وجد نفسه في صميم المعارضة للنظام خصوصاً وهو يرى استمرار الظلم والقهر وفوقهما التبعية للولايات المتحدة.
لم يخف السعيد معارضته وقاد علناً المظاهرات والاحتجاجات خصوصاً في الظهران التي شد الرحال إليها طلباً للعمل في حقول النفط مثله مثل آلاف من أبناء بلده ومن الوافدين العرب والأجانب، وهناك هاله الوضع المزري لعمال شركة آرامكو ونظام العنصرية التي فرضها المسؤولون الأميركيون فيها.
ولم يمض وقت طويل حتى بدأت المواجهة بين العمال والشركة عندما نظم ناصر السعيد أولى التجمهرات والإضرابات والتي ردت عليها السلطات الملكية بحملة اعتقالات بعدما طالبها الأميركيون بالتدخل لقمع العمال المطالبين بحقوقهم.
اعتقل عدة مرات قبل أن يتم ترحيله إلى مسقط رأسه حائل ثم أعيد إلى عمله خوفاً من أن ينقل التظاهرات والاحتجاجات إليها.. وانتهت هذه المرحلة عام 1956 عندما نظم احتجاجاً صاخباً لاستقبال الملك سعود الذي كان يجول في المناطق ومنها حائل لحشد التأييد لولايته بعد وفاة الملك عبد العزيز.
وفي هذا الاحتجاج ألقى أول خطاب له مندداً باستغلال موارد النفط واحتكارها وتقاسمها بين العائلة المالكة وحرمان أبناء البلد منها، وتحدث باسم الشعب العظيم في السعودية الذي حُرم نور العلم والذي يعاني بأغلبيته الساحقة الفقر والمرض والبطالة وحتى أبسط وسائل العيش بكرامة.
وفي الخطاب طالب ناصر بدستور للبلاد وإصلاحات اجتماعية وحماية الحقوق السياسية وحرية التعبير للمواطنين، وإقامة برلمان حر ينتخب الشعب أعضاءه، وملاحقة الفساد وتطهير الدولة من الدخلاء والخونة المرتزقة والظلمة والجهلاء.
ولم يكتف ناصر بالإصلاح الداخلي وإنما التفت إلى إصلاح السياسات الخارجية فطالب بالتحرر من التبعية لأميركا والتمسك بسياسة الحياد الإيجابي والسير في قافلة التحرر العربي بقيادة جمال عبد الناصر وتجنب مبدأ إيزنهاور اللعين وعدم التدخل في شؤون البلاد الأخرى.
بعد عام 1956 وبعد تعرضه لسلسلة اعتقالات، غادر ناصر إلى دمشق وتنقل بين عدة عواصم عربية منها بغداد وصنعاء والقاهرة لمواصلة نضاله السلمي وتسليط الأضواء على ما تعانيه بلاده من قمع وتسلط واستبداد.
أشرف ناصر على سلسلة برامج إذاعية في إذاعة صوت العرب في مصر، وعندما انتقل إلى اليمن الجنوبي عام 1963 التقى هناك بأحد العسكر بين الشباب المعارضين (المنشقين) وهو عبد الكريم أحمد مقبل القحطاني حيث أسسا معاً تنظيم اتحاد شعب الجزيرة في القاهرة منتصف الستينيات.
بعد وفاة عبد الناصر عاد إلى دمشق، وعندما اندلعت ثورة جهيمان العتيبي عام 1977 والتي سميت ثورة مكة حيث ساندتها المنطقة الشرقية، انتقل إلى بيروت.
وفي 17 كانون الثاني 1979 اختفى ناصر، وعُرف في اليوم التالي أنه اختطف لمصلحة آل سعود الذين أهدروا دمه بعد طباعة كتابه تاريخ آل سعود.
وكانت السلطات السعودية أصدرت عفواً عنه ودعته للعودة وشغل أحد المناصب لكنه رفض قائلاً: إنه لن يعود إلى بلاده الغارقة في الرذيلة والجريمة... وبعد اختطافه انتشرت روايات كثيرة لكيفية تصفيته وكانت أغلبها تتطابق حول رميه من طائرة فوق صحراء الربع الخالي وهو حي وذلك بعد تعذيبه لأيام..
رحل ناصر السعيد غدراً.. صحراء بلاده كانت الحضن الأخير الذي ضمه وللأبد، ولكن هل ارتاح قاتلوه؟، وهل استطاعوا إزالته من العقول رغم المحاولات التي بذلوها في سبيل ذلك؟.
لقد أخذت الأجيال من السعوديين بعد ناصر عنه أبجدية التنظيم ومعنى الرفض ومفهوم الجماعة وهي ليست بحالة استكانة كما تظهرها السلطات والدليل ما يجري منذ أشهر وخصوصاً في المنطقة الشرقية من حراك شعبي عارم للمطالبة بالحقوق والحريات.. حراك زرع ناصر بذرته الأولى وناضل طوال عمره لاستكمال بنائه قبل أن تخطفه يد غادرة وتسلمه إلى أخرى قاتلة.
المصدر :
الماسة السورية
اكتب تعليق
كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة