سيدتان تونسيتان منقبتان تتوجهان صوب رجل الجمارك في مطار الحبيب بورقيبة في تونس. يبتسم الرجل، يفتح جوازي سفرهما. لا يطلب كشف الوجهين. يتبادل المجاملات معهما. يختم الجوازين ويتمنى للمنقبتين السلامة وطيب الإقامة. لو عدنا بالمشهد إلى ما قبل ثورة الياسمين، لكانت السيدتان عوملتا بقسوة واحتقار وتم التحقيق معهما ومع عائلتيهما واضطرتا لنزع النقاب. كانت المرأة المنقبة أو المحجبة في تونس زين العابدين بن علي، مثارا للتهم والشبهات فصارت اليوم موضع ترحيب وود... ولكن ليس من قبل الجميع.

سائق التاكسي يبتسم لنا، يبادر للسؤال عن لبنان وأهله، يطمئن إلى أحوال الناس والمقاومة. نسأله عما تغيّر منذ هروب بن علي صوب السعودية، فيجيب بلهجته التونسية المحببة: "يا خي أيام بن علي منجموش نحل فمنا كل واحد منا كان يتربص بالآخر" (لم نكن قادرين على فتح أفواهنا فكل منا كان جاسوسا على الآخر" ... يروي السائق الشاب بكثير من الحيوية كيف صارت الناس تنعم بالحرية وتقول كل شيء. يتذكر كيف كان يصمت حين يسأله احد الركاب عن أي موضوع خشية أن يكون الراكب من الأمن السياسي، يضحك. يسحب علبة التبغ من جيبه ويقترح سيجارة، نشكر له صنيعه، فيعود للسؤال عن المقاومة... السائق كمعظم أهل تونس والمغرب العربي، لا يزالون يضعون المقاومة وفلسطين في القلب والوجدان.

تكاد ثورة الياسمين في تونس تبدو وسط المشهد العربي الحالي الوحيدة التي اُنجزت بأقل خسائر ممكنة وأرخت بظلال الحرية على داخل البلاد رغم الامتعاض من هيمنة إسلامية وحضور سلفي مقلق. تقول إحصاءات الأمم المتحدة انه بين 17 كانون الأول 2010 و17 كانون الثاني 2011، يوم سقوط بن علي، قدَّمت الثورة 300 شهيد و700 جريح.

يبدو التونسيون فخورين بما قدموه على مذبح الحرية والديموقراطية وغير مصدقين حتى اليوم، كما غيرهم من الشعوب العربية والعالمية، بأن حكم بن علي انتهى بتلك السرعة وعلى ذاك النحو المذل للرئيس الذي تحول إلى ديكتاتور برجوازي بسبب هيمنة عائلة زوجته على كل قطاعات البلاد، كما تحول إلى أبرز رجال الغرب، من أميركا إلى أوروبا، في المنطقة.

كل شيء في تونس يتنفس الحرية. نسير على جادة بورقيبة في محيط فندق "أفريقيا". يتوزع الشبان التونسيون حول طاولات مقاهي الرصيف. تختلف الوجوه والأمزجة. تجالس المحجبات رفيقات لهن سافرات وتلبسن آخر صيحات الموضة. تختلط الأحاديث وتتنوع. كل شيء صار قابلا للنقاش، وكل مسؤول قابل للانتقاد والمحاسبة.

كثر الحجاب في تونس. انفجر الغضب الكامن في وجه المنع والقمع. كانت المرأة المحجبة في عهد بن علي غير قادرة على العمل والسير في الشوارع من دون تحقيق أو مضايقة أو مطالبة برفع حجابها. كانت الجوامع تفتح فقط في وقت الصلاة ثم تغلق بعدها بيد أمنية غليظة. لم يستطع خطيب جامع أن يحتل هذه المكانة إلا إذا وافقت عليه أجهزة بن علي. مطاردة الإسلاميين بدأت منذ عهد الرئيس الأول لتونس المستقلة. كان الحبيب بورقيبة، الذي درس في فرنسا وبقي معجبا بفكرها وأدبها وتاريخها أكثر من تاريخ العرب، يرفع كأس العصير في عز شهر رمضان عندما ينتصف النهار ويدعو الناس للعمل لا للصوم. جاء بن علي ليمنع بالقوة ما حاول بورقيبة منعه بالخطابات المسلية أيام الجمعة.

ما توجس منه بن علي حصل. الرجل الذي خاف من الإسلام الاجتماعي والسياسي سقط في فخ خوفه. تبدو "حركة النهضة" اليوم معتدلة جدا قياسا لتنظيمات إسلامية سلفية أخرى. روايات كثيرة في الشارع التونسي حول تدخلات السلفيين في حياة الناس. الدعوات إلى الحجاب والنقاب والصلاة تتكاثر. تشكو بعض الفتيات والسيدات التونسيات من سماع كلمات مجرحة بحقهن. يحكى عن هجمات على بعض محال بيع المشروبات الروحية. ضجت تونس بأخبار ما سميت بـ"إمارة سجنان". قيل إن السلفيين أقاموا إمارة إسلامية في تلك الضاحية التونسية. تضاربت المعلومات بين تكذيب وتأكيد، لكن الخبر انتشر كالنار في الهشيم.

نعرِّج على مكتبة "الكتاب" المتوسطة جادة بورقيبة. يكاد المرء لا يصدق ما يرى. المكتبة التي كانت في عهد بن علي تضم كتبا تمجِّد الرئيس المخلوع وزوجته وأقرباءه وكتبا أخرى عن الأدب الفرنسي الكلاسيكي وأشياء غير ذات أهمية، صارت رفوفها اليوم تمتلئ بالكتب العربية ذات العناوين اللافتة: "الشارع العربي يدق ساعة الحرية...تشريح للمؤامرة الجيوسياسية الغربية"، "سنوات البروستاتا"، "سقوط الدولة البوليسية في تونس" ، "الإسلاميون والمرأة مشروع الاضطهاد"، وكتب أخرى فرنسية لعبد الوهاب المؤدب بعنوان "ربيع تونس تحول التاريخ"، أو للدبلوماسي الفرنسي العريق ايف اوبان دولاميسوزيير بعنوان "سنواتي مع بن علي"، يروي أسرار عمله كسفير في تونس ...

بين هذه وتلك يبدو كتاب الرئيس التونسي الحالي منصف المرزوقي الأكثر لفتا للانتباه وربما الأكثر جذبا للقراء. يقدم المرزوقي القادم من سنوات المنع والقمع والمنافي إلى رئاسة الجمهورية، قراءة دقيقة وعميقة لواقع الحال. يحمل كتابه عنوان "إنها الثورة يا مولاي ... القرن الواحد والعشرون قرن الثورة العربية".

يبقى المرزوقي وفيِّا لصدق التزامه وشفافية أفكاره. يبدو غير معجب بتجربة الأميركيين على عكس كل ما قيل عن قادة الثورة. يقول: "إن النظم الغربية الحالية في تعاملها معنا واقعة في ورطة حيث تملي عليها مبادئها دعم الديموقراطية وتملي عليها مصالحها دعم الاستبداد. القاعدة التي حاول (الرئيس الأميركي السابق جورج) بوش خرقها ثم عاد للالتزام بها سريعا، والتي لم ولن يخرج عنها (الرئيس باراك) أوباما، وهي تغليب المصالح على المبادئ".

يذهب المرزوقي إلى حد القول : "إن الاستخبارات الغربية تبحث اليوم عن وكلاء جدد يحافظون في مصر وتونس وبقية الجملكيات (الجمهوريات الملكية) على نفس النظام الضامن لمصالحهم الاستراتيجية، لكن مع تقديم بعض الفتات للمجتمعات. المشكلة أن نفس الأسباب تؤدي إلى نفس النتائج ومن ثم سنعود عاجلا أو آجلا للبحث عن بديل للبديل المغشوش".

ينضوي المرزوقي اليساري والقومي الانتماء اليوم في ائتلاف مع حركة النهضة. يقال في تونس إن التآلف الحكومي الحالي (حركة النهضة الإسلامية، التكتل من اجل العمل والحريات، والمؤتمر من اجل الجمهورية) حوَّل البلاد من "نظام الدكتاتور إلى نظام الديكور". ذريعة هؤلاء أن النهضة حوَّلت الرئاسة إلى مجرد منصب بلا صلاحيات. يقال بالمقابل إن المرزوقي كغيره من المناضلين القدامى يدركون أن تونس تمر في مخاض تشكيل الدولة الحديثة بعد الثورة، ولا بد من تنازلات لبناء صرح ديموقراطي وإن المناصب ليست أساسية في هذه المرحلة المؤقتة. ثم إن النهضة ربحت الانتخابات الحرة فلماذا لا تكون سيدة الحكم؟

قطفت "النهضة" الثمار الأهم لثورة تونس. لا بد إذا من أن تسلط عليها الأضواء. الحركة التي قُمعت ونُفي قادتها في عهد بن علي تتولى حاليا الوزارات السيادية. كان لافتا مثلا أن رفيق بن عبد السلام صهر الشيخ راشد الغنوشي هو من تولى الخارجية، الأمر الذي دفع معارضين لاتهام النهضة بالعودة إلى ممارسات العهد الطرابلسي (نسبة إلى عائلة طرابلسي التي تنتمي إليها السيدة ليلى زوجة بن علي).

لم يكن هذا السبب الوحيد لبداية الغضب على النهضة. فوزير الداخلية الجديد علي العريض، وهو أيضا من صفوف الحركة الإسلامية، أجرى حركة مناقلات في وزارته طالت إدارة وحدات التدخل بالنيابة، والمصالح المشتركة والحدود والأجانب. وفي وزارة الإعلام ارتفعت الضجة والصيحات بعد عدد من التعيينات على رأس مؤسسات إعلامية عامة. كل الاتهامات صبت في سياق القول إن حركة الشيخ راشد الغنوشي تهيمن على مقاليد البلاد.

تجوب بنا السيارة شوارع العاصمة. ننزل صوب منطقة القصبة. إحدى ساحات الثورة في العاصمة. عشرات السيدات والشبان يتجمعون أمام مقر رئاسة الحكومة. شريط شائك يحيط بالمكان. تبدو الحركة مشابهة لتلك التي تحصل في أكثر الدول الأوروبية ديموقراطية. المجاهرة بالمطالب أو رفع صوت الاحتجاجات ما عاد يُقابل بالقمع.

ليس كل مناصري حركة النهضة إسلاميين. يناصرها شبان غربيو الملبوس والتفكير. يساندها ليبراليون وفتيات من أنصار كل صرعات العصر. يدعمها شباب «الفيسبوك» وشبكات التواصل الاجتماعي. لا يخيفهم إسلام حركة الغنوشي. يهمهم أكثر ما فعلته الحركة للبلاد والوعود الكثيرة التي تغدقها لتحسين ظروف الحياة وإرخاء مناخ ديموقراطي حر.

الناس بحاجة إلى ظروف اقتصادية أفضل. فضحت الثورة كل الدعاية المضللة التي نجح بن علي ووكالة الإعلام الخارجي في عهده في تسريبها. كان يقال إن القمع السياسي وكم الأفواه يقابلهما وضع اقتصادي جيد وسياحة عامرة. انكشف القناع بعد هروب الرئيس. البلاد تعيش مآسيَ اقتصادية كثيرة، البطالة تقارب عتبة الـ20 في المئة، مئات آلاف متخرجي الجامعات لا يجدون عملا، النمو كان كذبة أحسن النظام تسويقها. كان رجال الإعلام في عهد بن علي يشترون الصحافة العربية وينشرون فيها تحقيقات مطولة عن الرفاهية والرخاء. كان الأمر وهماً ساهم الغرب في تسويقه، لأن بن علي كان سداً في وجه الإسلام السياسي في المغرب العربي وبيدقاً لضرب الإرهاب.

تدرك حركة الشيخ راشد خطورة القنبلة الاقتصادية الاجتماعية. يسعى الغنوشي لتعميم خطاب انفتاحي. يتحدث عن السماح بـ"مايوه" النساء وبعدم التعرض لبيع الخمور. ليس ذلك ناجماً فقط عن احتكاك الغنوشي بالغرب وعيشه طويلا في ضواحي لندن، وإنما مرده رغبة الشيخ السبعيني في طمأنة شعبه من جهة على وسطية واعتدال حركته الإخوانية الإسلامية، وطمأنة الغرب أيضا على أن تونس الإخوانية لا تشبه مطلقاً المجتمعات الإسلامية المنغلقة. هو كان قد قال كلاماً خلال جولته في الولايات المتحدة ينتقد حتى ممالك وإمارات الخليج، لكنه اضطر لتصحيح الأمر لاحقا. تونس بحاجة إلى كل مساعدة استثمارية خارجية غربية كانت أم عربية.

ترتفع من الاذاعة الوطنية التونسية اغنية جديدة هي واحدة من عشرات الأغاني التي أنتجتها الثورة. يقول مطلعها "من تونس الخضراء شب لهيبها ... فرد صداها النيل والهرم". الاغنية تشمل معظم الدول التي عاشت ثورات وانتفاضات، او تلك التي لا يزال وضعها ضبابياً كسوريا. يترنح السائق على انغام النشيد. أساله عن سوريا ونظرة التونسيين لها، يسارع الى الاجابة قبل انتهاء السؤال: "سوريا مش كيف تونس" (سوريا ليست كتونس). يقول ان الناس هناك ايضا بحاجة الى تغيير وحرية وديموقراطية ولكن ثمة من يتربص شرا بالبلد من إسرائيل الى أميركا وصولا إلى عدد من الدول العربية.

لا يختلف الحال مع شبان كثيرين في تونس. تقلقهم الرياح القادمة من دمشق. قلة منهم تصدق الفضائيات. الأكثرية تؤكد ان المقاومة تبقى الأساس وأن الرئيس بشار الأسد دعم المقاومة ولذلك تتم معاقبته. لكن الجميع يريد لسوريا ان تنعم بحرية كتلك التي تنعم بها تونس حاليا، شرط ان تبقى دمشق قوية وداعمة لخط المقاومة ويتوقف الدم. نسأل عن حزب الله، يأتي جواب الشباب التونسي مماثلا. يبدو ان التأجيج المذهبي لم يلق صدى في قلب ثورة الياسمين. الشباب التونسي مؤيد بقوة للحزب والمقاومة. مواقع "الفيسبوك" التابعة لهم تعكس جزءا كبيرا من هذه الآراء. اسرائيل لا تزال عدوة، ولعلها عدوة اكثر من أي وقت مضى في عيون الشباب العابق بروح الثورة والانعتاق.

ضجت تونس قبل ايام بزيارة رئيس الحكومة الفلسطينية المقالة في غزة اسماعيل هنية. صدحت حناجر تونسية كثيرة بهتافات معادية لاسرائيل. حملت اللافتات شعارات تقول: "قتل اليهود واجب، تحرير فلسطين واجب". صدح آخرون بالهتاف الإسلامي المعهود: "خيبر خيبر يا يهود، جيش محمد سوف يعود" ... انتفض المدافعون عن إسرائيل من الدول الغربية الداعمة لتونس حاليا. جاء بعض النصح من دول عربية راعية لحركة النهضة ... سارعت حركة الشيخ راشد للاعتذار عما وُصف باللاسامية حيال اليهود. التونسي معتاد على العيش مع اليهود. هؤلاء عاشوا طويلا في تونس ونعموا برفاهية الحياة فيها وصار منهم مسؤولين أو فنانين كبار في فرنسا. لم يكن شعار قتل اليهود يليق، ولكن الشباب التونسي لم يقصد اليهود كشعب وإنما قصد الإسرائيليين.

ما كان لمثل هذه الشعارات، او لذاك الاستقبال لهنية ان يحصل لو ان بن علي لا يزال في الحكم. تفلت الشعب التونسي من قيود التعبير عن دفاعه عن فلسطين السليبة. انقسم الرأي العام التونسي حيال مشاركة أمير قطر الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني في احتفالات الثورة. رحب به أهل النظام والسلطة. نزلت تظاهرات الى الشوارع تندد وتقول ان الرجل ربيب اميركا واسرائيل وانه يزرع الفتنة في الدول العربية. وصل بعض المتظاهرين الى امام مقر اقامته في تونس يطالبوه بالرحيل.

هكذا تبدو تونس في الذكرى الأولى لثورتها. ثورة تحفونة (جميلة في اللهجة التونسية) وبركان من الانفتاح والديموقراطية، قلبها على فلسطين والعرب والمقاومة، وعقلها ينشد تعميم التجربة إلى باقي الدول العربية شرط أن يكون ذلك صنيعة الشعب لا على دبابات حلف شمال الأطلسي. يصيح ابو القاسم الشابي من قبره «اذا الشعب يوماً اراد الحياة... «. يقول شباب تونس ان الشابي قصد الشعوب ولم يقصد "الأطلسي"...

ينام محمد البوعزيزي في قبره قرير العين... نجحت الثورة ... ولكن ماذا بعد؟ هل تصمد ام تأكل ابناءها على وقع مشكلة تبدو قادمة لا محالة بين الاسلاميين والآخرين... ؟ لا شك ان ما فيها اليوم افضل بمرات عديدة عما كانت عليه ايام بن علي.

 

                   

 

  • فريق ماسة
  • 2012-01-16
  • 11670
  • من الأرشيف

ثـورة الياسـمين فـي تونـس ...تحجّبـت ..

    سيدتان تونسيتان منقبتان تتوجهان صوب رجل الجمارك في مطار الحبيب بورقيبة في تونس. يبتسم الرجل، يفتح جوازي سفرهما. لا يطلب كشف الوجهين. يتبادل المجاملات معهما. يختم الجوازين ويتمنى للمنقبتين السلامة وطيب الإقامة. لو عدنا بالمشهد إلى ما قبل ثورة الياسمين، لكانت السيدتان عوملتا بقسوة واحتقار وتم التحقيق معهما ومع عائلتيهما واضطرتا لنزع النقاب. كانت المرأة المنقبة أو المحجبة في تونس زين العابدين بن علي، مثارا للتهم والشبهات فصارت اليوم موضع ترحيب وود... ولكن ليس من قبل الجميع. سائق التاكسي يبتسم لنا، يبادر للسؤال عن لبنان وأهله، يطمئن إلى أحوال الناس والمقاومة. نسأله عما تغيّر منذ هروب بن علي صوب السعودية، فيجيب بلهجته التونسية المحببة: "يا خي أيام بن علي منجموش نحل فمنا كل واحد منا كان يتربص بالآخر" (لم نكن قادرين على فتح أفواهنا فكل منا كان جاسوسا على الآخر" ... يروي السائق الشاب بكثير من الحيوية كيف صارت الناس تنعم بالحرية وتقول كل شيء. يتذكر كيف كان يصمت حين يسأله احد الركاب عن أي موضوع خشية أن يكون الراكب من الأمن السياسي، يضحك. يسحب علبة التبغ من جيبه ويقترح سيجارة، نشكر له صنيعه، فيعود للسؤال عن المقاومة... السائق كمعظم أهل تونس والمغرب العربي، لا يزالون يضعون المقاومة وفلسطين في القلب والوجدان. تكاد ثورة الياسمين في تونس تبدو وسط المشهد العربي الحالي الوحيدة التي اُنجزت بأقل خسائر ممكنة وأرخت بظلال الحرية على داخل البلاد رغم الامتعاض من هيمنة إسلامية وحضور سلفي مقلق. تقول إحصاءات الأمم المتحدة انه بين 17 كانون الأول 2010 و17 كانون الثاني 2011، يوم سقوط بن علي، قدَّمت الثورة 300 شهيد و700 جريح. يبدو التونسيون فخورين بما قدموه على مذبح الحرية والديموقراطية وغير مصدقين حتى اليوم، كما غيرهم من الشعوب العربية والعالمية، بأن حكم بن علي انتهى بتلك السرعة وعلى ذاك النحو المذل للرئيس الذي تحول إلى ديكتاتور برجوازي بسبب هيمنة عائلة زوجته على كل قطاعات البلاد، كما تحول إلى أبرز رجال الغرب، من أميركا إلى أوروبا، في المنطقة. كل شيء في تونس يتنفس الحرية. نسير على جادة بورقيبة في محيط فندق "أفريقيا". يتوزع الشبان التونسيون حول طاولات مقاهي الرصيف. تختلف الوجوه والأمزجة. تجالس المحجبات رفيقات لهن سافرات وتلبسن آخر صيحات الموضة. تختلط الأحاديث وتتنوع. كل شيء صار قابلا للنقاش، وكل مسؤول قابل للانتقاد والمحاسبة. كثر الحجاب في تونس. انفجر الغضب الكامن في وجه المنع والقمع. كانت المرأة المحجبة في عهد بن علي غير قادرة على العمل والسير في الشوارع من دون تحقيق أو مضايقة أو مطالبة برفع حجابها. كانت الجوامع تفتح فقط في وقت الصلاة ثم تغلق بعدها بيد أمنية غليظة. لم يستطع خطيب جامع أن يحتل هذه المكانة إلا إذا وافقت عليه أجهزة بن علي. مطاردة الإسلاميين بدأت منذ عهد الرئيس الأول لتونس المستقلة. كان الحبيب بورقيبة، الذي درس في فرنسا وبقي معجبا بفكرها وأدبها وتاريخها أكثر من تاريخ العرب، يرفع كأس العصير في عز شهر رمضان عندما ينتصف النهار ويدعو الناس للعمل لا للصوم. جاء بن علي ليمنع بالقوة ما حاول بورقيبة منعه بالخطابات المسلية أيام الجمعة. ما توجس منه بن علي حصل. الرجل الذي خاف من الإسلام الاجتماعي والسياسي سقط في فخ خوفه. تبدو "حركة النهضة" اليوم معتدلة جدا قياسا لتنظيمات إسلامية سلفية أخرى. روايات كثيرة في الشارع التونسي حول تدخلات السلفيين في حياة الناس. الدعوات إلى الحجاب والنقاب والصلاة تتكاثر. تشكو بعض الفتيات والسيدات التونسيات من سماع كلمات مجرحة بحقهن. يحكى عن هجمات على بعض محال بيع المشروبات الروحية. ضجت تونس بأخبار ما سميت بـ"إمارة سجنان". قيل إن السلفيين أقاموا إمارة إسلامية في تلك الضاحية التونسية. تضاربت المعلومات بين تكذيب وتأكيد، لكن الخبر انتشر كالنار في الهشيم. نعرِّج على مكتبة "الكتاب" المتوسطة جادة بورقيبة. يكاد المرء لا يصدق ما يرى. المكتبة التي كانت في عهد بن علي تضم كتبا تمجِّد الرئيس المخلوع وزوجته وأقرباءه وكتبا أخرى عن الأدب الفرنسي الكلاسيكي وأشياء غير ذات أهمية، صارت رفوفها اليوم تمتلئ بالكتب العربية ذات العناوين اللافتة: "الشارع العربي يدق ساعة الحرية...تشريح للمؤامرة الجيوسياسية الغربية"، "سنوات البروستاتا"، "سقوط الدولة البوليسية في تونس" ، "الإسلاميون والمرأة مشروع الاضطهاد"، وكتب أخرى فرنسية لعبد الوهاب المؤدب بعنوان "ربيع تونس تحول التاريخ"، أو للدبلوماسي الفرنسي العريق ايف اوبان دولاميسوزيير بعنوان "سنواتي مع بن علي"، يروي أسرار عمله كسفير في تونس ... بين هذه وتلك يبدو كتاب الرئيس التونسي الحالي منصف المرزوقي الأكثر لفتا للانتباه وربما الأكثر جذبا للقراء. يقدم المرزوقي القادم من سنوات المنع والقمع والمنافي إلى رئاسة الجمهورية، قراءة دقيقة وعميقة لواقع الحال. يحمل كتابه عنوان "إنها الثورة يا مولاي ... القرن الواحد والعشرون قرن الثورة العربية". يبقى المرزوقي وفيِّا لصدق التزامه وشفافية أفكاره. يبدو غير معجب بتجربة الأميركيين على عكس كل ما قيل عن قادة الثورة. يقول: "إن النظم الغربية الحالية في تعاملها معنا واقعة في ورطة حيث تملي عليها مبادئها دعم الديموقراطية وتملي عليها مصالحها دعم الاستبداد. القاعدة التي حاول (الرئيس الأميركي السابق جورج) بوش خرقها ثم عاد للالتزام بها سريعا، والتي لم ولن يخرج عنها (الرئيس باراك) أوباما، وهي تغليب المصالح على المبادئ". يذهب المرزوقي إلى حد القول : "إن الاستخبارات الغربية تبحث اليوم عن وكلاء جدد يحافظون في مصر وتونس وبقية الجملكيات (الجمهوريات الملكية) على نفس النظام الضامن لمصالحهم الاستراتيجية، لكن مع تقديم بعض الفتات للمجتمعات. المشكلة أن نفس الأسباب تؤدي إلى نفس النتائج ومن ثم سنعود عاجلا أو آجلا للبحث عن بديل للبديل المغشوش". ينضوي المرزوقي اليساري والقومي الانتماء اليوم في ائتلاف مع حركة النهضة. يقال في تونس إن التآلف الحكومي الحالي (حركة النهضة الإسلامية، التكتل من اجل العمل والحريات، والمؤتمر من اجل الجمهورية) حوَّل البلاد من "نظام الدكتاتور إلى نظام الديكور". ذريعة هؤلاء أن النهضة حوَّلت الرئاسة إلى مجرد منصب بلا صلاحيات. يقال بالمقابل إن المرزوقي كغيره من المناضلين القدامى يدركون أن تونس تمر في مخاض تشكيل الدولة الحديثة بعد الثورة، ولا بد من تنازلات لبناء صرح ديموقراطي وإن المناصب ليست أساسية في هذه المرحلة المؤقتة. ثم إن النهضة ربحت الانتخابات الحرة فلماذا لا تكون سيدة الحكم؟ قطفت "النهضة" الثمار الأهم لثورة تونس. لا بد إذا من أن تسلط عليها الأضواء. الحركة التي قُمعت ونُفي قادتها في عهد بن علي تتولى حاليا الوزارات السيادية. كان لافتا مثلا أن رفيق بن عبد السلام صهر الشيخ راشد الغنوشي هو من تولى الخارجية، الأمر الذي دفع معارضين لاتهام النهضة بالعودة إلى ممارسات العهد الطرابلسي (نسبة إلى عائلة طرابلسي التي تنتمي إليها السيدة ليلى زوجة بن علي). لم يكن هذا السبب الوحيد لبداية الغضب على النهضة. فوزير الداخلية الجديد علي العريض، وهو أيضا من صفوف الحركة الإسلامية، أجرى حركة مناقلات في وزارته طالت إدارة وحدات التدخل بالنيابة، والمصالح المشتركة والحدود والأجانب. وفي وزارة الإعلام ارتفعت الضجة والصيحات بعد عدد من التعيينات على رأس مؤسسات إعلامية عامة. كل الاتهامات صبت في سياق القول إن حركة الشيخ راشد الغنوشي تهيمن على مقاليد البلاد. تجوب بنا السيارة شوارع العاصمة. ننزل صوب منطقة القصبة. إحدى ساحات الثورة في العاصمة. عشرات السيدات والشبان يتجمعون أمام مقر رئاسة الحكومة. شريط شائك يحيط بالمكان. تبدو الحركة مشابهة لتلك التي تحصل في أكثر الدول الأوروبية ديموقراطية. المجاهرة بالمطالب أو رفع صوت الاحتجاجات ما عاد يُقابل بالقمع. ليس كل مناصري حركة النهضة إسلاميين. يناصرها شبان غربيو الملبوس والتفكير. يساندها ليبراليون وفتيات من أنصار كل صرعات العصر. يدعمها شباب «الفيسبوك» وشبكات التواصل الاجتماعي. لا يخيفهم إسلام حركة الغنوشي. يهمهم أكثر ما فعلته الحركة للبلاد والوعود الكثيرة التي تغدقها لتحسين ظروف الحياة وإرخاء مناخ ديموقراطي حر. الناس بحاجة إلى ظروف اقتصادية أفضل. فضحت الثورة كل الدعاية المضللة التي نجح بن علي ووكالة الإعلام الخارجي في عهده في تسريبها. كان يقال إن القمع السياسي وكم الأفواه يقابلهما وضع اقتصادي جيد وسياحة عامرة. انكشف القناع بعد هروب الرئيس. البلاد تعيش مآسيَ اقتصادية كثيرة، البطالة تقارب عتبة الـ20 في المئة، مئات آلاف متخرجي الجامعات لا يجدون عملا، النمو كان كذبة أحسن النظام تسويقها. كان رجال الإعلام في عهد بن علي يشترون الصحافة العربية وينشرون فيها تحقيقات مطولة عن الرفاهية والرخاء. كان الأمر وهماً ساهم الغرب في تسويقه، لأن بن علي كان سداً في وجه الإسلام السياسي في المغرب العربي وبيدقاً لضرب الإرهاب. تدرك حركة الشيخ راشد خطورة القنبلة الاقتصادية الاجتماعية. يسعى الغنوشي لتعميم خطاب انفتاحي. يتحدث عن السماح بـ"مايوه" النساء وبعدم التعرض لبيع الخمور. ليس ذلك ناجماً فقط عن احتكاك الغنوشي بالغرب وعيشه طويلا في ضواحي لندن، وإنما مرده رغبة الشيخ السبعيني في طمأنة شعبه من جهة على وسطية واعتدال حركته الإخوانية الإسلامية، وطمأنة الغرب أيضا على أن تونس الإخوانية لا تشبه مطلقاً المجتمعات الإسلامية المنغلقة. هو كان قد قال كلاماً خلال جولته في الولايات المتحدة ينتقد حتى ممالك وإمارات الخليج، لكنه اضطر لتصحيح الأمر لاحقا. تونس بحاجة إلى كل مساعدة استثمارية خارجية غربية كانت أم عربية. ترتفع من الاذاعة الوطنية التونسية اغنية جديدة هي واحدة من عشرات الأغاني التي أنتجتها الثورة. يقول مطلعها "من تونس الخضراء شب لهيبها ... فرد صداها النيل والهرم". الاغنية تشمل معظم الدول التي عاشت ثورات وانتفاضات، او تلك التي لا يزال وضعها ضبابياً كسوريا. يترنح السائق على انغام النشيد. أساله عن سوريا ونظرة التونسيين لها، يسارع الى الاجابة قبل انتهاء السؤال: "سوريا مش كيف تونس" (سوريا ليست كتونس). يقول ان الناس هناك ايضا بحاجة الى تغيير وحرية وديموقراطية ولكن ثمة من يتربص شرا بالبلد من إسرائيل الى أميركا وصولا إلى عدد من الدول العربية. لا يختلف الحال مع شبان كثيرين في تونس. تقلقهم الرياح القادمة من دمشق. قلة منهم تصدق الفضائيات. الأكثرية تؤكد ان المقاومة تبقى الأساس وأن الرئيس بشار الأسد دعم المقاومة ولذلك تتم معاقبته. لكن الجميع يريد لسوريا ان تنعم بحرية كتلك التي تنعم بها تونس حاليا، شرط ان تبقى دمشق قوية وداعمة لخط المقاومة ويتوقف الدم. نسأل عن حزب الله، يأتي جواب الشباب التونسي مماثلا. يبدو ان التأجيج المذهبي لم يلق صدى في قلب ثورة الياسمين. الشباب التونسي مؤيد بقوة للحزب والمقاومة. مواقع "الفيسبوك" التابعة لهم تعكس جزءا كبيرا من هذه الآراء. اسرائيل لا تزال عدوة، ولعلها عدوة اكثر من أي وقت مضى في عيون الشباب العابق بروح الثورة والانعتاق. ضجت تونس قبل ايام بزيارة رئيس الحكومة الفلسطينية المقالة في غزة اسماعيل هنية. صدحت حناجر تونسية كثيرة بهتافات معادية لاسرائيل. حملت اللافتات شعارات تقول: "قتل اليهود واجب، تحرير فلسطين واجب". صدح آخرون بالهتاف الإسلامي المعهود: "خيبر خيبر يا يهود، جيش محمد سوف يعود" ... انتفض المدافعون عن إسرائيل من الدول الغربية الداعمة لتونس حاليا. جاء بعض النصح من دول عربية راعية لحركة النهضة ... سارعت حركة الشيخ راشد للاعتذار عما وُصف باللاسامية حيال اليهود. التونسي معتاد على العيش مع اليهود. هؤلاء عاشوا طويلا في تونس ونعموا برفاهية الحياة فيها وصار منهم مسؤولين أو فنانين كبار في فرنسا. لم يكن شعار قتل اليهود يليق، ولكن الشباب التونسي لم يقصد اليهود كشعب وإنما قصد الإسرائيليين. ما كان لمثل هذه الشعارات، او لذاك الاستقبال لهنية ان يحصل لو ان بن علي لا يزال في الحكم. تفلت الشعب التونسي من قيود التعبير عن دفاعه عن فلسطين السليبة. انقسم الرأي العام التونسي حيال مشاركة أمير قطر الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني في احتفالات الثورة. رحب به أهل النظام والسلطة. نزلت تظاهرات الى الشوارع تندد وتقول ان الرجل ربيب اميركا واسرائيل وانه يزرع الفتنة في الدول العربية. وصل بعض المتظاهرين الى امام مقر اقامته في تونس يطالبوه بالرحيل. هكذا تبدو تونس في الذكرى الأولى لثورتها. ثورة تحفونة (جميلة في اللهجة التونسية) وبركان من الانفتاح والديموقراطية، قلبها على فلسطين والعرب والمقاومة، وعقلها ينشد تعميم التجربة إلى باقي الدول العربية شرط أن يكون ذلك صنيعة الشعب لا على دبابات حلف شمال الأطلسي. يصيح ابو القاسم الشابي من قبره «اذا الشعب يوماً اراد الحياة... «. يقول شباب تونس ان الشابي قصد الشعوب ولم يقصد "الأطلسي"... ينام محمد البوعزيزي في قبره قرير العين... نجحت الثورة ... ولكن ماذا بعد؟ هل تصمد ام تأكل ابناءها على وقع مشكلة تبدو قادمة لا محالة بين الاسلاميين والآخرين... ؟ لا شك ان ما فيها اليوم افضل بمرات عديدة عما كانت عليه ايام بن علي.                        

المصدر : سامي كليب /السفير


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة