يمكن اختصار جوهر زيارة داوود أوغلو لبكركي ومغزاها، بعبارة واحدة: تخلوا عن حزب الله وعن بشار الأسد، ولكم منا كل ما تريدون.

ولو أن داوود أوغلو تذكر "مغامرة الإنقاذ" إثر لقائه الرئيس أمين الجميّل، كما تذكر زميله في الإنزال الأممي، بان كي مون، ابن خلدون، لكان قد أسرَّ للبطريرك بوضوح أكبر: انقلب معنا عليهم، ولك منا ما يدهشكم.

في العمق، لا شيء مختلفاً في رسالة وزير خارجية "السلطنة الجديدة"، عن رسالة مساعد ناظرة خارجية "روما الجديدة"، جفري فلتمان، في زيارته للصرح في 8 كانون الأول الماضي. مع فارق بسيط في محاولات الإيحاء التاريخية والمقدمات الشكلية. فالمسؤول الأميركي حاول الاستعانة بشيء من لغة الأناجيل والتراث الإبراهيمي وما كتبته أمته من "إيمان" على ورقة الدولار. أما الأكاديمي التركي فكاد يستذكر زمن إصلاحات السلطنة وازدهار "نظام الملل"، وبدايات الكيان اللبناني في ظل الرعاية العثمانية... لولا "فاصلة" جمال باشا.

المهم أن المطلوب من بكركي هو تماماً ما كتبه فلتمان أسود على أبيض عقب تلك الزيارة: أن تغدر بقسم من لبنان وتحرض على قسم من سوريا، لقاء وعود الحكم والسلطة في حد أقصى، أو الخبز والذمة في حد أدنى.

وقد يكون سيد بكركي عقب الزيارتين، وكلتاهما كانتا مسائيتين، مع ما للعشية من فتح لشفافية الذاكرة، قد عاد عقدين ونيف إلى الوراء. فالمشهد هو نفسه، كما كان في خريف سنة 1989. ويومها كان البطريرك الراعي هو أيضاً في بكركي، إلى جانب سلفه البطريرك صفير. يوم جاؤوا إليها وفوداً وفوداً، عرباً وغُرباً وأمميين وحتى فاتيكانيين، طالبين من الصرح دعم اتفاق الطائف. المشهد نفسه يتكرر، بكل دقة وتفصيل وإخراج. يومها كانت ثمة حرب في لبنان، وكانت قد أنهكت أطرافها. وكان العالم يأتي إلينا وعينه على سوانا. ولأسباب كثيرة باتت معروفة، ولا علاقة لنا بها إطلاقاً، قرر "زعيم الأرض" يومها وضع لبنان تحت وصاية سوريا، بإشراف كونسورسيوم ثلاثي، بين واشنطن والرياض ودمشق. كونسورسيوم شيطاني باركته تل أبيب، فيما عواصم التوازن الثلاث المقابلة تنهار تباعاً أو تزامناً، بسقوط "الأشرفية" في جنون التدمير الذاتي، وسقوط بغداد في مغامرة الكويت، وسقوط موسكو المصطدمة بجدار برلين، والمصدومة به.

كان واضحاً يومها أن العم سام لا يرانا ولا يحسب لنا حساباً. لكن موافقتنا حاجة لمخططه. فاستنفر الموفدين واستنفدهم: السعودي والجزائري والمغربي والتونسي... كلهم بلغة واحدة: امشوا معنا ولكم كل الضمانات. والمشي معهم يومها كان له عنوان واحد: التخلي عن ميشال عون. وفي لحظة تخلٍّ حصلت الكارثة. في أسابيع كأنها لحظات: سقط عون، فسقطت فجأة كل ضمانات أمم الطائف، بل سقط الطائف نفسه. غاب سعود الفيصل عن السمع، واعتزل الأخضر الإبراهيمي السياسة، وصار جايمس بايكر منهمكاً بمؤتمر مدريد، ولم يعد ثمة من يرد على صراخ مسيحيي الطائف، أكانوا بطريركاً أم "قائداً" أم حتى كرسياً رسولياً. حتى اضطر صفير ذات يوم إلى إقفال باب بكركي، واضطر "القائد" للذهاب إلى شرْك النظارة بدل شراكة الوزارة، واضطرت روما إلى دعوة كل أحبار الأرض بحثاً عن "رجاء جديد للبنان"، من دون نتيجة ولا جدوى.

المشهد نفسه يتكرر اليوم. مع فارق أن "زعيم الأرض" قرر هذه المرة معاقبة دمشق بدل مكافأتها. ولأسباب لا علاقة لنا بها أيضاً. هكذا، يوم كافأها مع "الطائف السوري للبنان"، قرر الأميركي أن تكون بيروت الجزرة. ويوم يعاقبها مع "الطائف التركي لدمشق"، يريد الأميركي من بيروت أن تكون العصا. وفي اليومين يضحك علينا، يومها باسم السلام والأمن، واليوم باسم الحرية والديموقراطية.

من يحب الذهاب أبعد في المماثلات التاريخية، فقد يجد في المقارنة ما يرضي حس شماتته. فطائفنا السوري يومها تحول كارثة؛ لأن وسيطه، أي سوريا نفسها، لم يكن نزيهاً، ولا على مسافة واحدة من أطراف الصراع، ولأنه توسل الغدر والخبث والتلاعب بالثوابت والحقائق. والطائف التركي لسوريا اليوم يهدد بالفظائع نفسها: وسيطاً غير نزيه، هو تركيا، على مسافة غير متساوية من القوى السورية المتحاربة، يقبل أن يكون قناعاً على الأرض للشيخ العرعور، وواجهة في حسابات الأرصدة، لخط الغاز الجنوبي، في إطار الحرب الأميركية الكونية ضد نصف الأرض، من روسيا إلى الصين.

المهم أنهم في كل تلك المسرحية، كانت لهم الجرأة، بل الوقاحة حتى الصفاقة، لأن يأتوا إلى بكركي مرة ثانية، ليعيدوا معها ـ بل عليها - المهزلة مرة ثانية. كلام أوغلو وقبله فلتمان كان واضحاً بلا شك. لكن الجواب قطعاً أكثر وضوحاً: إذا كان بان قد تعلم عندنا ابن خلدون، فلا شك في أن وزيراً تركياً يعرف ابن هريرة، ويعرف الحديث المنقول عنه: لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين، ونحن لم نكفر بعد...

 

  • فريق ماسة
  • 2012-01-16
  • 9705
  • من الأرشيف

داوود أوغلو في بكركي: لدغة عمرها عقدان ..

يمكن اختصار جوهر زيارة داوود أوغلو لبكركي ومغزاها، بعبارة واحدة: تخلوا عن حزب الله وعن بشار الأسد، ولكم منا كل ما تريدون. ولو أن داوود أوغلو تذكر "مغامرة الإنقاذ" إثر لقائه الرئيس أمين الجميّل، كما تذكر زميله في الإنزال الأممي، بان كي مون، ابن خلدون، لكان قد أسرَّ للبطريرك بوضوح أكبر: انقلب معنا عليهم، ولك منا ما يدهشكم. في العمق، لا شيء مختلفاً في رسالة وزير خارجية "السلطنة الجديدة"، عن رسالة مساعد ناظرة خارجية "روما الجديدة"، جفري فلتمان، في زيارته للصرح في 8 كانون الأول الماضي. مع فارق بسيط في محاولات الإيحاء التاريخية والمقدمات الشكلية. فالمسؤول الأميركي حاول الاستعانة بشيء من لغة الأناجيل والتراث الإبراهيمي وما كتبته أمته من "إيمان" على ورقة الدولار. أما الأكاديمي التركي فكاد يستذكر زمن إصلاحات السلطنة وازدهار "نظام الملل"، وبدايات الكيان اللبناني في ظل الرعاية العثمانية... لولا "فاصلة" جمال باشا. المهم أن المطلوب من بكركي هو تماماً ما كتبه فلتمان أسود على أبيض عقب تلك الزيارة: أن تغدر بقسم من لبنان وتحرض على قسم من سوريا، لقاء وعود الحكم والسلطة في حد أقصى، أو الخبز والذمة في حد أدنى. وقد يكون سيد بكركي عقب الزيارتين، وكلتاهما كانتا مسائيتين، مع ما للعشية من فتح لشفافية الذاكرة، قد عاد عقدين ونيف إلى الوراء. فالمشهد هو نفسه، كما كان في خريف سنة 1989. ويومها كان البطريرك الراعي هو أيضاً في بكركي، إلى جانب سلفه البطريرك صفير. يوم جاؤوا إليها وفوداً وفوداً، عرباً وغُرباً وأمميين وحتى فاتيكانيين، طالبين من الصرح دعم اتفاق الطائف. المشهد نفسه يتكرر، بكل دقة وتفصيل وإخراج. يومها كانت ثمة حرب في لبنان، وكانت قد أنهكت أطرافها. وكان العالم يأتي إلينا وعينه على سوانا. ولأسباب كثيرة باتت معروفة، ولا علاقة لنا بها إطلاقاً، قرر "زعيم الأرض" يومها وضع لبنان تحت وصاية سوريا، بإشراف كونسورسيوم ثلاثي، بين واشنطن والرياض ودمشق. كونسورسيوم شيطاني باركته تل أبيب، فيما عواصم التوازن الثلاث المقابلة تنهار تباعاً أو تزامناً، بسقوط "الأشرفية" في جنون التدمير الذاتي، وسقوط بغداد في مغامرة الكويت، وسقوط موسكو المصطدمة بجدار برلين، والمصدومة به. كان واضحاً يومها أن العم سام لا يرانا ولا يحسب لنا حساباً. لكن موافقتنا حاجة لمخططه. فاستنفر الموفدين واستنفدهم: السعودي والجزائري والمغربي والتونسي... كلهم بلغة واحدة: امشوا معنا ولكم كل الضمانات. والمشي معهم يومها كان له عنوان واحد: التخلي عن ميشال عون. وفي لحظة تخلٍّ حصلت الكارثة. في أسابيع كأنها لحظات: سقط عون، فسقطت فجأة كل ضمانات أمم الطائف، بل سقط الطائف نفسه. غاب سعود الفيصل عن السمع، واعتزل الأخضر الإبراهيمي السياسة، وصار جايمس بايكر منهمكاً بمؤتمر مدريد، ولم يعد ثمة من يرد على صراخ مسيحيي الطائف، أكانوا بطريركاً أم "قائداً" أم حتى كرسياً رسولياً. حتى اضطر صفير ذات يوم إلى إقفال باب بكركي، واضطر "القائد" للذهاب إلى شرْك النظارة بدل شراكة الوزارة، واضطرت روما إلى دعوة كل أحبار الأرض بحثاً عن "رجاء جديد للبنان"، من دون نتيجة ولا جدوى. المشهد نفسه يتكرر اليوم. مع فارق أن "زعيم الأرض" قرر هذه المرة معاقبة دمشق بدل مكافأتها. ولأسباب لا علاقة لنا بها أيضاً. هكذا، يوم كافأها مع "الطائف السوري للبنان"، قرر الأميركي أن تكون بيروت الجزرة. ويوم يعاقبها مع "الطائف التركي لدمشق"، يريد الأميركي من بيروت أن تكون العصا. وفي اليومين يضحك علينا، يومها باسم السلام والأمن، واليوم باسم الحرية والديموقراطية. من يحب الذهاب أبعد في المماثلات التاريخية، فقد يجد في المقارنة ما يرضي حس شماتته. فطائفنا السوري يومها تحول كارثة؛ لأن وسيطه، أي سوريا نفسها، لم يكن نزيهاً، ولا على مسافة واحدة من أطراف الصراع، ولأنه توسل الغدر والخبث والتلاعب بالثوابت والحقائق. والطائف التركي لسوريا اليوم يهدد بالفظائع نفسها: وسيطاً غير نزيه، هو تركيا، على مسافة غير متساوية من القوى السورية المتحاربة، يقبل أن يكون قناعاً على الأرض للشيخ العرعور، وواجهة في حسابات الأرصدة، لخط الغاز الجنوبي، في إطار الحرب الأميركية الكونية ضد نصف الأرض، من روسيا إلى الصين. المهم أنهم في كل تلك المسرحية، كانت لهم الجرأة، بل الوقاحة حتى الصفاقة، لأن يأتوا إلى بكركي مرة ثانية، ليعيدوا معها ـ بل عليها - المهزلة مرة ثانية. كلام أوغلو وقبله فلتمان كان واضحاً بلا شك. لكن الجواب قطعاً أكثر وضوحاً: إذا كان بان قد تعلم عندنا ابن خلدون، فلا شك في أن وزيراً تركياً يعرف ابن هريرة، ويعرف الحديث المنقول عنه: لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين، ونحن لم نكفر بعد...  

المصدر : جان عزيز/ الاخبار


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة