تنطوي زيارة وفد «حزب الله» الى موسكو، برئاسة رئيس كتلة الوفاء للمقاومة النائب محمد رعد، على أهمية سياسية وإستراتيجية، لما تشكله روسيا من وزن على المستوى الدولي، ولما يمثله «حزب الله» من حضور على الصعيدين اللبناني والإقليمي، فكيف إذا جاءت الزيارة في هذا التوقيت، حيث تختلط الاوراق وترتسم التحولات في المنطقة، وسط سعي غربي محموم للاستثمار على «المرحلة الانتقالية» في العالم العربي، من أجل حجز مقاعد في الصفوف الأمامية للمرحلة المقبلة، واقتطاع حصة من الثورة.. والثروة.

وقد أتت رحلة الحج العلنية الى موسكو بعد مقدمات متدرجة، اتخذت شكل تواصل بعيد عن الأضواء بين الجانبين، على مستويات سياسية وأكاديمية، خلال الفترة الماضية، الى ان قرر الجانبان إخراج علاقتهما من الظل الى النور، مع الإشارة الى ان الدعوة الروسية البرلمانية لزيارة موسكو وُجهت الى الحزب منذ أشهر، وتمت تلبيتها الآن، في توقيت يناسب الطرفين اللذين يملك كل منهما حوافزه ودوافعه لتطوير الانفتاح المتبادل.

ومن الواضح ان استقبال موسكو لوفد «حزب الله» في هذه الظروف الدولية والاقليمية، إنما يعكس تصاعدا في اهتمامها بقضايا المنطقة وباللاعبين المعنيين بها، وبالتالي يشير الى ان الروس تقدموا خطوة إضافية في اتجاه خطوط المواجهة الأمامية في الشرق الأوسط، خارج مجالهم الحيوي التقليدي، لحماية مصالحهم ونفوذهم، على قاعدة ان أفضل طريقة للدفاع هي الهجوم، ناهيك عما يحمله فتح الأبواب أمام الحزب من إشارة الى فهم روسيا لأهمية دوره، وهي القاعدة نفسها التي تنطبق على حركة «حماس».

وفي هذا السياق، لا يمكن عزل لحظة الزيارة عن مسار الضغوط الدولية التي تتعرض لها دمشق، وكأن الروس يريدون ابلاغ من يهمه الامر ان سياساتهم المتعلقة بسورية ليست سورية فقط، بل هي تملك قابلية التمدد لتغطي المواقع التي تواجه مشكلة مع واشنطن والناتو، بما يوحي ان هناك اتجاها نحو توسيع نطاق «جبهة الممانعة».

وبهذا المعنى، يأتي استقبال موسكو لـ«حزب الله»، منسجما مع السلوك الروسي الإجمالي في المنطقة، بما يستكمل الموقف الداعم للنظام السوري والرافض لاستنساخ «النموذج الليبي» مرة أخرى، في تعبير واضح عن سعي الروس الى لجم الاندفاعة الغربية نحو العالم العربي، والحد من الأضرار التي تلحقها بمصالحهم ودورهم، وهذا يتطلب بطبيعة الحال نوعا من «إعادة التأهيل» لعلاقتهم بالحلفاء والأصدقاء التقليديين، الى جانب توسيع آفاق الانفتاح على القوى التي تتقاطع مع روسيا في نظرتها الشرق أوسطية، كما هي الحال بالنسبة الى «حزب الله» الذي ترى فيه موسكو «قوة إقليمية» تتجاوز بمفاعيلها السقف اللبناني.

ولئن كانت الرسائل الروسية موجهة بالدرجة الاولى الى الولايات المتحدة وأوروبا، إلا ان بعضها يطال أنقرة ايضا، ذلك ان موسكو لا يناسبها ان يتطور حجم تركيا وطموحها الى الحد الذي يجعلها تتصرف كـ«دولة عظمى» في المنطقة، مع ما يعنيه ذلك من تأثير على المدى الحيوي لروسيا والمتمثل في دول آسيا الوسطى التي تشكل مساحة تنازع دولي، عدا عن وجود تحسس روسي من تقديم أنقرة تسهيلات لحلف «الناتو» لنشر الدرع الصاروخي على الأراضي التركية.

ولعل روسيا وجدت الفرصة مناسبة لتصفية حساب قديم مع الغرب الذي سدد لها، في السابق، أكثر من ضربة تحت الحزام، حتى عندما كان يتعلق الامر بمداها الحيوي، كما حصل حين امتدت الاصابع الاميركية الى جورجيا التي كانت جزءا من الاتحاد السوفياتي الراحل، علما ان واشنطن لا تتوقف عن محاولة «قضم» المصالح الروسية او «تطويقها»، كلما وجدت ذلك متاحا.

ومن هنا، فإن موسكو باتت تدرك جيدا حاجتها الى تطوير شبكة تحالفاتها وعلاقاتها على المستويين الدولي والاقليمي، بغية تصحيح التوازنات المختلة لصالح الأميركيين والأوروبيين، وبالتالي تحصين مواقع نفوذها خارج الحدود وتحسين شروطها التفاوضية، علما ان أصدقاء روسيا يعلمون جيدا انها لم تتخل عن براغماتيتها، وهي ربما لن تتردد في عقد التسويات، متى شعرت بأنها ستحصل على الثمن المناسب.

ولكن، ماذا عن «حزب الله»، وكيف يقارب إطلالته من على «الشرفة الروسية»؟

لن يتوانى الحزب طبعا عن فعل كل ما يمكن ان يساهم في «التشويش» على العزف الاميركي المنفرد في المنطقة، ولعله وجد ما يكفي من التقاطعات مع «اللاعب الروسي»، ليتبادل وإياه تمرير الكرة، في هذه المرحلة الملتهبة عربيا، على إيقاع الحراك الشعبي العربي ومحاولات الاستثمار الغربي.

وينطلق الحزب في انفتاحه على موسكو من قناعة لديه بوجوب الاستفادة من أي فرصة متاحة، لإعادة الاعتبار الى مفهوم تعددية الأقطاب على الساحة الدولية وكسر الدور الأحادي، لان التعددية، برأيه، تصنع التوازن الذي من شأنه ان يحمي الاستقرار الدولي ويلجم الحصان الاميركي الجامح، في حين ان الأحادية تطلق العنان للحروب وترفع منسوب التوتر وهذا ما ثبت من خلال سلوك الولايات المتحدة بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، وذلك خلافا لنظرية واشنطن التي قامت في الحقبة الماضية على فرضية ان تعددية الأقطاب تسبب الصراع وأن الأحادية تحقق الاستقرار العالمي.

وانطلاقا من هذه الرؤية، خاض الحزب في بدايات هذا العقد، وتحديدا بين 2002 و2005 تجربة الانفتاح على الاتحاد الاوروبي الذي كان راغبا بدوره في مد الجسور مع الحزب، متمايزا آنذاك عن السياسة الاميركية، وبالفعل التقى السيد حسن نصر الله في تلك الفترة سفير المفوضية الاوروبية في لبنان، على قاعدة تعزيز قابلية أوروبا للوقوف على مسافة من خيارات واشنطن واتخاذ موقف أكثر توازنا حيال الصراع العربي - الاسرائيلي، ولكن التجربة أخفقت لاحقا، بعدما تفوقت النزعة الأطلسية لدى الأوروبيين على النزعة المتوسطية.

هل يمكن التعويل كثيرا على الدور الروسي؟

يتعاطى «حزب الله» بواقعية مع الدور الروسي، من دون مبالغة في التوقعات، ذلك أن الحوارات السابقة، على مستوى السفارة الروسية في بيروت، أو من خلال مشاركة بعض المستشرقين والخبراء الروس في فعاليات معينة في لبنان، أو اللقاءات التي كانت تعقد على هامش المشاركة في مناسبات برلمانية دولية، كانت قد بينت للحزب كيفية مقاربة موسكو للمواضيع والاشكاليات اللبنانية والاقليمية والدولية، في سياق متدرج من مرحلة انعدام الوزن والتأثير بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وصولا الى تبلور النظرة ومعها منظومة المصالح المعقدة والمتداخلة مع استقرار الوضع الداخلي الروسي، سياسيا واقتصاديا.

  • فريق ماسة
  • 2011-10-20
  • 9202
  • من الأرشيف

واشنطن تجمع موسكو.. و«حزب الله» في الساحة الحمراء

تنطوي زيارة وفد «حزب الله» الى موسكو، برئاسة رئيس كتلة الوفاء للمقاومة النائب محمد رعد، على أهمية سياسية وإستراتيجية، لما تشكله روسيا من وزن على المستوى الدولي، ولما يمثله «حزب الله» من حضور على الصعيدين اللبناني والإقليمي، فكيف إذا جاءت الزيارة في هذا التوقيت، حيث تختلط الاوراق وترتسم التحولات في المنطقة، وسط سعي غربي محموم للاستثمار على «المرحلة الانتقالية» في العالم العربي، من أجل حجز مقاعد في الصفوف الأمامية للمرحلة المقبلة، واقتطاع حصة من الثورة.. والثروة. وقد أتت رحلة الحج العلنية الى موسكو بعد مقدمات متدرجة، اتخذت شكل تواصل بعيد عن الأضواء بين الجانبين، على مستويات سياسية وأكاديمية، خلال الفترة الماضية، الى ان قرر الجانبان إخراج علاقتهما من الظل الى النور، مع الإشارة الى ان الدعوة الروسية البرلمانية لزيارة موسكو وُجهت الى الحزب منذ أشهر، وتمت تلبيتها الآن، في توقيت يناسب الطرفين اللذين يملك كل منهما حوافزه ودوافعه لتطوير الانفتاح المتبادل. ومن الواضح ان استقبال موسكو لوفد «حزب الله» في هذه الظروف الدولية والاقليمية، إنما يعكس تصاعدا في اهتمامها بقضايا المنطقة وباللاعبين المعنيين بها، وبالتالي يشير الى ان الروس تقدموا خطوة إضافية في اتجاه خطوط المواجهة الأمامية في الشرق الأوسط، خارج مجالهم الحيوي التقليدي، لحماية مصالحهم ونفوذهم، على قاعدة ان أفضل طريقة للدفاع هي الهجوم، ناهيك عما يحمله فتح الأبواب أمام الحزب من إشارة الى فهم روسيا لأهمية دوره، وهي القاعدة نفسها التي تنطبق على حركة «حماس». وفي هذا السياق، لا يمكن عزل لحظة الزيارة عن مسار الضغوط الدولية التي تتعرض لها دمشق، وكأن الروس يريدون ابلاغ من يهمه الامر ان سياساتهم المتعلقة بسورية ليست سورية فقط، بل هي تملك قابلية التمدد لتغطي المواقع التي تواجه مشكلة مع واشنطن والناتو، بما يوحي ان هناك اتجاها نحو توسيع نطاق «جبهة الممانعة». وبهذا المعنى، يأتي استقبال موسكو لـ«حزب الله»، منسجما مع السلوك الروسي الإجمالي في المنطقة، بما يستكمل الموقف الداعم للنظام السوري والرافض لاستنساخ «النموذج الليبي» مرة أخرى، في تعبير واضح عن سعي الروس الى لجم الاندفاعة الغربية نحو العالم العربي، والحد من الأضرار التي تلحقها بمصالحهم ودورهم، وهذا يتطلب بطبيعة الحال نوعا من «إعادة التأهيل» لعلاقتهم بالحلفاء والأصدقاء التقليديين، الى جانب توسيع آفاق الانفتاح على القوى التي تتقاطع مع روسيا في نظرتها الشرق أوسطية، كما هي الحال بالنسبة الى «حزب الله» الذي ترى فيه موسكو «قوة إقليمية» تتجاوز بمفاعيلها السقف اللبناني. ولئن كانت الرسائل الروسية موجهة بالدرجة الاولى الى الولايات المتحدة وأوروبا، إلا ان بعضها يطال أنقرة ايضا، ذلك ان موسكو لا يناسبها ان يتطور حجم تركيا وطموحها الى الحد الذي يجعلها تتصرف كـ«دولة عظمى» في المنطقة، مع ما يعنيه ذلك من تأثير على المدى الحيوي لروسيا والمتمثل في دول آسيا الوسطى التي تشكل مساحة تنازع دولي، عدا عن وجود تحسس روسي من تقديم أنقرة تسهيلات لحلف «الناتو» لنشر الدرع الصاروخي على الأراضي التركية. ولعل روسيا وجدت الفرصة مناسبة لتصفية حساب قديم مع الغرب الذي سدد لها، في السابق، أكثر من ضربة تحت الحزام، حتى عندما كان يتعلق الامر بمداها الحيوي، كما حصل حين امتدت الاصابع الاميركية الى جورجيا التي كانت جزءا من الاتحاد السوفياتي الراحل، علما ان واشنطن لا تتوقف عن محاولة «قضم» المصالح الروسية او «تطويقها»، كلما وجدت ذلك متاحا. ومن هنا، فإن موسكو باتت تدرك جيدا حاجتها الى تطوير شبكة تحالفاتها وعلاقاتها على المستويين الدولي والاقليمي، بغية تصحيح التوازنات المختلة لصالح الأميركيين والأوروبيين، وبالتالي تحصين مواقع نفوذها خارج الحدود وتحسين شروطها التفاوضية، علما ان أصدقاء روسيا يعلمون جيدا انها لم تتخل عن براغماتيتها، وهي ربما لن تتردد في عقد التسويات، متى شعرت بأنها ستحصل على الثمن المناسب. ولكن، ماذا عن «حزب الله»، وكيف يقارب إطلالته من على «الشرفة الروسية»؟ لن يتوانى الحزب طبعا عن فعل كل ما يمكن ان يساهم في «التشويش» على العزف الاميركي المنفرد في المنطقة، ولعله وجد ما يكفي من التقاطعات مع «اللاعب الروسي»، ليتبادل وإياه تمرير الكرة، في هذه المرحلة الملتهبة عربيا، على إيقاع الحراك الشعبي العربي ومحاولات الاستثمار الغربي. وينطلق الحزب في انفتاحه على موسكو من قناعة لديه بوجوب الاستفادة من أي فرصة متاحة، لإعادة الاعتبار الى مفهوم تعددية الأقطاب على الساحة الدولية وكسر الدور الأحادي، لان التعددية، برأيه، تصنع التوازن الذي من شأنه ان يحمي الاستقرار الدولي ويلجم الحصان الاميركي الجامح، في حين ان الأحادية تطلق العنان للحروب وترفع منسوب التوتر وهذا ما ثبت من خلال سلوك الولايات المتحدة بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، وذلك خلافا لنظرية واشنطن التي قامت في الحقبة الماضية على فرضية ان تعددية الأقطاب تسبب الصراع وأن الأحادية تحقق الاستقرار العالمي. وانطلاقا من هذه الرؤية، خاض الحزب في بدايات هذا العقد، وتحديدا بين 2002 و2005 تجربة الانفتاح على الاتحاد الاوروبي الذي كان راغبا بدوره في مد الجسور مع الحزب، متمايزا آنذاك عن السياسة الاميركية، وبالفعل التقى السيد حسن نصر الله في تلك الفترة سفير المفوضية الاوروبية في لبنان، على قاعدة تعزيز قابلية أوروبا للوقوف على مسافة من خيارات واشنطن واتخاذ موقف أكثر توازنا حيال الصراع العربي - الاسرائيلي، ولكن التجربة أخفقت لاحقا، بعدما تفوقت النزعة الأطلسية لدى الأوروبيين على النزعة المتوسطية. هل يمكن التعويل كثيرا على الدور الروسي؟ يتعاطى «حزب الله» بواقعية مع الدور الروسي، من دون مبالغة في التوقعات، ذلك أن الحوارات السابقة، على مستوى السفارة الروسية في بيروت، أو من خلال مشاركة بعض المستشرقين والخبراء الروس في فعاليات معينة في لبنان، أو اللقاءات التي كانت تعقد على هامش المشاركة في مناسبات برلمانية دولية، كانت قد بينت للحزب كيفية مقاربة موسكو للمواضيع والاشكاليات اللبنانية والاقليمية والدولية، في سياق متدرج من مرحلة انعدام الوزن والتأثير بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وصولا الى تبلور النظرة ومعها منظومة المصالح المعقدة والمتداخلة مع استقرار الوضع الداخلي الروسي، سياسيا واقتصاديا.

المصدر : عماد مرمل/ السفير


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة