دليل ماسة
أكثر الروابط استخداما
تكرّس الانقسام العمودي داخل المعارضة السورية في إطارين يجهدان لاكتساب مشروعية داخلية لا تزال متقدمة على كل من المجلس الوطني «الجذري» من جهة، وهيئة التنسيق «الإصلاحية» من جهة أخرى
قد يمكننا القول اليوم إن وضع المعارضة السورية قد استقرّ في كتلتين: «هيئة التنسيق للتغيير الوطني الديموقراطي» في الداخل، ولها امتداد خارجي، و«المجلس الوطني السوري» في الخارج، وله وجود في الداخل. ولكل منهما استراتيجية مختلفة، وربما متناقضة. في بداية الانتفاضة، ظهر دور بعض الأحزاب المعارضة ضمن الحراك الشعبي، وخصوصاً حزب «الاتحاد الاشتراكي» في درعا ودوما وريف دمشق، لكنه ظل يعتمد على فاعلية أفراد من الحزب في هذه المناطق. ثمّ أصدر «إعلان دمشق» بياناً يدعو الجامعة العربية إلى التدخل كما حدث في ليبيا. وتوالت البيانات من التشكيلات القائمة منذ زمن سابق، «التجمع الوطني الديموقراطي» و«إعلان دمشق». وفي الخارج، بدأ نشاط «مؤتمراتي» يهدف إلى تأليف «مجلس انتقالي»، وأصدرت جماعة الإخوان المسلمين بياناً تعلن الانضمام إلى الانتفاضة، وُوجه بشعار «لا سلفية ولا إخوان»، من المنتفضين، تردّد في «المناطق التقليدية» لهذه الجماعة (حمص وحماه وبانياس وتلكلخ والتل وحوران).
كان سياق الخارج يدفع لـ«فرض» تأليف مجلس وطني انتقالي، وقد تتالت المؤتمرات من أجل ذلك، من إسطنبول إلى أنطاليا إلى بروكسل إلى إسطنبول مجدداً، وهي التي أصبحت مركز النشاط هذا. في الداخل كان برهان غليون يرعى حواراً لتوحيد أطياف المعارضة في الداخل بين «التجمع الوطني الديموقراطي» و«إعلان دمشق»، لكن الجهد وصل إلى تأليف «هيئة التنسيق لقوى التغيير الوطني الديموقراطي»، التي سرعان ما أعلن غليون انسحابه منها. وجرت محاولة أخيرة في الدوحة لتحقيق الوحدة أفشلها «إعلان دمشق» و«الإخوان المسلمون» عبر إعلان تأليف المجلس الوطني في إسطنبول بغياب غليون، الذي أصبح يتحرك منذ أعلنت مجموعة من الشباب في أنقرة تأليف مجلس وطني (من دون استشارة الأعضاء المعينين)، وتعيين غليون رئيساً له (وقد وافق على ذلك). ثم تأسس المجلس الوطني في إسطنبول وجرى التعامل مع غليون على أنه بمثابة رئيس له، ليعتبر المجلس نفسه أنه يمثل الانتفاضة والشعب السوريين، فاتحاً الباب أمام انضمام من يوافق على مواقفه.
بذلك، أصبحت المعارضة حائرة بين «هيئة التنسيق» و«المجلس الوطني»، رغم كل الضخ الإعلامي الذي أُعطي للمجلس من خلال التحريك الشعبي، لإظهار أن المجلس يمثل الانتفاضة. ولا شك في أنه كسب في ذلك جولةً مهمة، أوضحت الخسارة الفادحة التي طاولت «هيئة التنسيق». ويمكن تلخيص أساس الخلاف في مسألتين، هما: أولاً الموقف من النظام، وبالتالي الشعار الذي يرفعه الشعب في انتفاضته، وثانياً الموقف من التدخل العسكري «الخارجي»، حيث يبدو أن في «المجلس الوطني» هناك قوى أساسية لديها استعداد لدعم التدخل العسكري، بينما ترفض هيئة التنسيق ذلك جذرياً.
فهيئة التنسيق طرحت ما يُفهم منه أنها ترى الحل في اقتناع السلطة بضرورة «التغيير»، وبالتالي الحوار مع المعارضة لتحقيق «الانتقال السلمي الآمن من حالة الاستبداد إلى الديموقراطية». لهذا، لم ترَ في ما يجري سوى أزمة لا تُحل إلا عبر الحوار، وبالتالي على السلطة توفير بيئة تسمح بذلك من خلال وقف الحل الأمني العسكري والسماح بالتظاهر السلمي وإطلاق سراح المعتقلين. وقد لخّصت الهيئة في مطالبها، جوهر ما تريده لتحقيق ذلك، وهي مطالب بدت متواضعة، وأقل من إصلاحية. وإذا كان تبلور «هيئة التنسيق» قد سبق تبلور المجلس الوطني في الخارج، فإن هذا «السقف المتدنّي» لم يسمح لها باستقطاب الشعب المنتفض، على العكس بدا أنها تعلن القطيعة معه. ذلك أن الشعب المنتفض ليس في لحظة «حوار سياسي» لكي يناقش إمكان إسقاط النظام، بل قرر إسقاط النظام، ولم يخرج إلى الشارع إلا من أجل ذلك، وهو يعيش «حالة ثورية» طالما انتظرت الأحزاب حدوثها، ووضعت الجميع أمام خيارين: إما الاندماج بالشعب، أو «التفذلك» السياسي بشأن إمكان أو عدم إمكان إسقاط النظام. وحتى إن كان التقدير يشير إلى الاستحالة، فليس من الممكن الوقوف على الحياد، بل لا بد من الاندماج بالانتفاضة.
«التفذلك» طغى على الاندفاع، فأضاعت معارضة الداخل لحظة مهمة، سمحت بنجاح النشاط المحموم الذي كان قد بدأ مع انفجار الانتفاضة. فقد فرض الفراغ الداخلي، وكذلك فشل قوى الانتفاضة في تأليف الهيئات التي تعبّر عنها نتيجة القمع الشديد (الاعتقال والقتل)، أن تتحرّك معارضة الخارج بحرّية لصوغ «تحالف» يبدو أنه الممثل «الشرعي والوحيد» للانتفاضة.
وقد تزامن تأليف «المجلس الوطني» مع تصاعد الخطاب الذي يدعو للحماية والتدخل الدوليين، وخصوصاً من طرف جماعة الإخوان المسلمين، والمجموعات الليبرالية «المتأمركة». وإذا كان غليون قد حاول المراوغة في توضيح معنى الحماية الدولية، فقد جاءت تصريحات المراقب العام لجماعة الإخوان المسلمين محمد رياض الشقفة، ورضوان زيادة، مسؤول العلاقات الخارجية في المجلس الوطني، وآخرين كثر، لتوضح أن الاستراتيجية التي تُصاغ، تعتمد الميل إلى تصعيد الضغط، وصولاً إلى التدخل الدولي. حينها، بدأ النشاط من أجل سحب اعتراف الدول بالسلطة السورية والاعتراف بالمجلس الوطني ممثلاً للشعب السوري.
ورغم أن المجلس لاقى «اعترافاً» سورياً، نتيجة الشعور بضرورة وجود «قيادة سياسية» للانتفاضة، ستشير الفترة المقبلة إلى المدى الذي سيصمد فيه «ممثلاً» للانتفاضة، لأن الشعب المنتفض يريد دعماً يفتح الأفق لتحقيق التغيير. هل يمتلك المجلس مثل هذا الأفق، من دون الحديث عن استحالة حصول حماية دولية وتدخل دولي؟ هل سيحل مشكلة غياب القيادة الميدانية للانتفاضة، ويقوم بدور في دفع الفئات الاجتماعية التي لا تزال متخوفة، للاندماج بالانتفاضة؟ المنتفضون ينتظرون، حتى الذين أعطوا المجلس التأييد.
وإذا أردنا تلخيص الوضع، فصحيح أن المعارضة السورية باتت منقسمة إلى شقين، لكنهما ينطلقان من مبدأ مشترك، هو عدم ثقتهما بقدرة الشعب على تحقيق التغيير، وإسقاط السلطة بقوة هذا الشعب.
المصدر :
الأخبار\سلامة كيلة
اكتب تعليق
كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة