استعاد الجيش السوري المدينة الدرة التي خسرها العالم. لن يقول التاريخ إن تدمر ضاعت إلى الأبد، وأن معابدها لم توجد يوماً على هذا الكوكب، أو أن تلك الواحة في الصحراء لم تكن إلا مجرد سراب، وأن أهلها القدامى لم يدفنوا تحت حجارتها إرث حضارة كاملة. الذاكرة لا يمكن ان تُسبى هنا حيث لا مجال للفناء بل تظاهرة متواصلة للحب والحياة، اسمها تدمر.

الكتابة عن المدن التي لم تزرها من قبل، ولم تعرف ملامحها إلا في عز حروبها تبدو ظلماً كبيراً للتاريخ. عندما شاهدت قلعة تدمر الأثرية، للمرة الأولى، كانت تعبر مسامعي أصوات المقاتلات والحوامات السورية والقاذفات الروسية وهي تمشط السماء بصوت هادر، وتقترب من الأرض كثيراً، وعلى الأرض كل أنواع راجمات الصواريخ والمدفعية والرشاشات التي لا تهدأ، ورصاص قناص يقطع أمام عينيك في الاتجاهين.

تغريك القلعة بسلامتها التامة من بعيد، لكنك كلما اقتربت تتكشف أمامك أجزاء من الجدران المطوية. شاهدت أحجار القلعة وأجزاءً من جدرانها وهي تتساقط على وقع القصف الذي كان يزلزل الأرض بكاملها. أما المدينة الأثرية فقد امتلأت بطلقات رصاص فارغة، أو بقايا قذائف وقنابل. وسوى التدمير الذي لحق بمعبد بل وبعلشمين وقوس النصر، فقد أُحيلت بعض المعالم الأثرية في المدينة المدرجة على لائحة التراث العالمي إلى نقاط عسكرية. حمام الملكة زنوبيا تحول إلى محرس «لجنود الخلافة»، وواجهة المسرح الروماني الشهير إلى مركز للرصد والمراقبة، واللافتات التي وضعت سابقاً للترحيب بالسياح وإرشادهم، استُبدلت اليوم بلافتات تحذير من غارات «الطيران النصيري».

أبواب منازل المدينة السكنية تُركت مشرَّعة، كأن أهل تدمر الراحلين عنها قسراً أرادوا الترحيب بالفاتحين الجدد. دمار مهول يطوف في كل شارع وحي في المدينة الخاوية على عروشها، كتابات غريبة وأعلام سوداء ومتاريس وتحصينات، هنا كانت مقار «الأمراء» و«دواوين الدولة الإسلامية» في تدمر.

للحجر في المدينة المنبسطة وسط رمال الصحراء السورية خفقات وأحاديث تسمعها ما إن تعبر الطرق وتتجول بين الأعمدة والأوابد، لكن البشر لهم حكاياتهم أيضاً، فمنذ أيار الماضي وحتى اليوم ابتلعت المدينة آثار الكثيرين وأخبارهم، فُقِدَ العشرات من جنود الجيش السوري وضباطه يوم سقوطها في 20 أيار العام 2015، قتل المئات من أبناء المدينة الصغيرة وغاب أثر آخرين.

خلال دخولنا عند ساعات الصباح الأولى إلى قلب تدمر، استوقفني جندي سوري بلباسه العسكري الكامل يجوب الحارات وحيداً، وينادي على أصحاب البيوت أملاً بالعثور على أي منهم. وائل جورية، ملازم في الجيش السوري، فقد والده العقيد الركن في الجيش السوري والمسؤول عن المستودعات في العامرية شمال المدينة. كان ذلك يوم غزو تدمر من قبل تنظيم «داعش». غادر وائل قطعته العسكرية في حلب مؤخراً بعد أن طلب نقله للمشاركة في معارك تحرير تدمر، وعاد ليبحث عن والده الضائع. يقول «قبل شهرين خرجت امرأة من تدمر واتصلت بنا، قالت إن التنظيم نادى على اسم والدي في الجوامع وهدد من يؤويه بحز رأسه وسط الساحة العامة. هذا الخبر أعاد الأمل لي ولعائلتي لذلك جئت أبحث عنه».

قاتل وائل على محور جبل الطار وصولاً إلى المستودعات، حررها ورفاقه واستعاد مقر أبيه، واصل البحث عنه كأنه سيعثر عليه متخفياً في أحد بيوتها. يعتقد وائل أن والده موجود في مكان ما، ينتظر إشارات من ابنه الملازم الشجاع الذي سبق له وأصيب ثماني مرات. ويقول وائل «أصوات القصف تعني أن الجيش هنا، إذا كان قريباً فإنه سيعود، أعتقد أنه عند البدو، سيعود سيعود». ويكرر 10 مرات من دون ملل «رح يرجع، رح يرجع، أنا متأكد».

يستذكر وائل «يوم الانسحاب من تدمر كان بإمكانه المغادرة، قرر تأمين أطول اشتباك مع مقاتلي التنظيم ليتمكن عناصره المصابون من النجاة. كان لديه ثقة أن بقائه قد ينقذ المدينة أو يؤجل سقوطها. سقطت تدمر ولم يعد، لكنه سيعود يوماً ما، سيجدني بانتظاره عند أول نقطة للجيش قد يصلها، سأقول له الله يسامحك وأنصرف».

ودعنا وائل ليكمل رحلة بحثه: «سنتجه إلى السخنة بعد أيام، إذا لم نعثر عليه هنا، سأجده هناك، سأظل أرسل له إشارات ليستهدي علينا، إنه موجود.. لا يزال موجوداً».

من العائدين إلى تدمر أيضاً مقاتل سابق في حامية السجن. آخر ما عرفه عن عائلته التي كانت تقيم في مساكن الضباط قرب المدينة يوم اجتياح «داعش» أن التنظيم ذبح أطفاله الثلاثة وسبى زوجته مع 72 امرأة من زوجات الضباط والعسكريين. لم ينسحب باسل إلا مع آخر القوات المنسحبة من المدينة، عاد اليوم ليبحث عن أي أثر. وقال إن «الشرف لا يتجزأ، شرف زوجته وشرف زنوبيا واحد، الملكة التي دافع عنها ولم يسمع اسمها إلا في كتب التاريخ ومسرحيات فيروز».

لكنك تدافع عن حجارة؟، يرد «الأرض أيضاً مجرد تراب والسماء مجرد ذرات هواء، والوطن كل الوطن هو حجارة وتراب وهواء. بس ما فيك تعيش بلاهن وحقن غالي.. وما حدا إلو حق يصادر حرية الشهيد الذي اختار أن يعطي روحه لهذه الأرض والحجارة.. مين فيه يقول عنه إنو راح رخيص».

لطارق خالد الأسعد قصة أخرى، بدأت يوم رفض والده، خالد الأسعد، مغادرة المدينة التي أفنى حياته بين أعمدتها وأحجارها. يقول طارق «لم تشفع لوالدي أعوامه الثمانون، دخل التنظيم وبعد يومين تم استدعاؤه للتحقيق، بقي لديهم عدة أيام قبل أن يخلوا سبيله لكنهم فرضوا عليه إقامة جبرية ومنعوه من مغادرة تدمر، بعد شهر ونصف الشهر على احتلال المدينة جاء شخصان من داعش وطلبوا عالم الآثار بالإسم، قال لنا الأهالي إنه بقي لديهم قرابة 20 يوماً، قبل أن يصدر الحكم. طلبوا إليه الركوع وسط جمهرة الأهالي في الساحة العامة، كان آخر ما قاله: نخلات تدمر لا تنحني. فصلوا جسد العالم الدكتور خالد الأسعد عن رأسه لأنه رفض أن يعطيهم ما أرادوه». عُلق رأسه على عمود وسط الساحة العامة وبقي هناك ثلاثة أيام، أما الأهالي فقد سحبوا الجسد ودفنوه في مكان ما، ومن ثم تم دفن الرأس في مكان آخر. اليوم يعود طارق وأخوته محمد ووليد والباقون لبدء رحلة البحث عن ثرى والدهم، عزاؤهم الوحيد أن تدمر عادت، وأن نخلاتها ما زالت شامخة، كما الجسد الثمانيني الكهل المقطوع عن ذاكرته.

هكذا تحولت تدمر أقوى ممالك الشرق القديم التي حكمتها امرأة، من أهم قبلة للرحلات السياحية، إلى وجهة للرحلات الخطرة لدرة معارك الحرب السورية، من مملكة يزورها العالم لرؤية واحة صحراوية سكنها الرومان في أزمان مضت إلى مدينة مظلمة تزورها عدسات الصحافيين لتوثيق بقعة احتلها «داعش» ودُحر منها منهزماً.

  • فريق ماسة
  • 2016-03-31
  • 11777
  • من الأرشيف

حكايات بدأت تخرج من رمال مدينة زنوبيا

استعاد الجيش السوري المدينة الدرة التي خسرها العالم. لن يقول التاريخ إن تدمر ضاعت إلى الأبد، وأن معابدها لم توجد يوماً على هذا الكوكب، أو أن تلك الواحة في الصحراء لم تكن إلا مجرد سراب، وأن أهلها القدامى لم يدفنوا تحت حجارتها إرث حضارة كاملة. الذاكرة لا يمكن ان تُسبى هنا حيث لا مجال للفناء بل تظاهرة متواصلة للحب والحياة، اسمها تدمر. الكتابة عن المدن التي لم تزرها من قبل، ولم تعرف ملامحها إلا في عز حروبها تبدو ظلماً كبيراً للتاريخ. عندما شاهدت قلعة تدمر الأثرية، للمرة الأولى، كانت تعبر مسامعي أصوات المقاتلات والحوامات السورية والقاذفات الروسية وهي تمشط السماء بصوت هادر، وتقترب من الأرض كثيراً، وعلى الأرض كل أنواع راجمات الصواريخ والمدفعية والرشاشات التي لا تهدأ، ورصاص قناص يقطع أمام عينيك في الاتجاهين. تغريك القلعة بسلامتها التامة من بعيد، لكنك كلما اقتربت تتكشف أمامك أجزاء من الجدران المطوية. شاهدت أحجار القلعة وأجزاءً من جدرانها وهي تتساقط على وقع القصف الذي كان يزلزل الأرض بكاملها. أما المدينة الأثرية فقد امتلأت بطلقات رصاص فارغة، أو بقايا قذائف وقنابل. وسوى التدمير الذي لحق بمعبد بل وبعلشمين وقوس النصر، فقد أُحيلت بعض المعالم الأثرية في المدينة المدرجة على لائحة التراث العالمي إلى نقاط عسكرية. حمام الملكة زنوبيا تحول إلى محرس «لجنود الخلافة»، وواجهة المسرح الروماني الشهير إلى مركز للرصد والمراقبة، واللافتات التي وضعت سابقاً للترحيب بالسياح وإرشادهم، استُبدلت اليوم بلافتات تحذير من غارات «الطيران النصيري». أبواب منازل المدينة السكنية تُركت مشرَّعة، كأن أهل تدمر الراحلين عنها قسراً أرادوا الترحيب بالفاتحين الجدد. دمار مهول يطوف في كل شارع وحي في المدينة الخاوية على عروشها، كتابات غريبة وأعلام سوداء ومتاريس وتحصينات، هنا كانت مقار «الأمراء» و«دواوين الدولة الإسلامية» في تدمر. للحجر في المدينة المنبسطة وسط رمال الصحراء السورية خفقات وأحاديث تسمعها ما إن تعبر الطرق وتتجول بين الأعمدة والأوابد، لكن البشر لهم حكاياتهم أيضاً، فمنذ أيار الماضي وحتى اليوم ابتلعت المدينة آثار الكثيرين وأخبارهم، فُقِدَ العشرات من جنود الجيش السوري وضباطه يوم سقوطها في 20 أيار العام 2015، قتل المئات من أبناء المدينة الصغيرة وغاب أثر آخرين. خلال دخولنا عند ساعات الصباح الأولى إلى قلب تدمر، استوقفني جندي سوري بلباسه العسكري الكامل يجوب الحارات وحيداً، وينادي على أصحاب البيوت أملاً بالعثور على أي منهم. وائل جورية، ملازم في الجيش السوري، فقد والده العقيد الركن في الجيش السوري والمسؤول عن المستودعات في العامرية شمال المدينة. كان ذلك يوم غزو تدمر من قبل تنظيم «داعش». غادر وائل قطعته العسكرية في حلب مؤخراً بعد أن طلب نقله للمشاركة في معارك تحرير تدمر، وعاد ليبحث عن والده الضائع. يقول «قبل شهرين خرجت امرأة من تدمر واتصلت بنا، قالت إن التنظيم نادى على اسم والدي في الجوامع وهدد من يؤويه بحز رأسه وسط الساحة العامة. هذا الخبر أعاد الأمل لي ولعائلتي لذلك جئت أبحث عنه». قاتل وائل على محور جبل الطار وصولاً إلى المستودعات، حررها ورفاقه واستعاد مقر أبيه، واصل البحث عنه كأنه سيعثر عليه متخفياً في أحد بيوتها. يعتقد وائل أن والده موجود في مكان ما، ينتظر إشارات من ابنه الملازم الشجاع الذي سبق له وأصيب ثماني مرات. ويقول وائل «أصوات القصف تعني أن الجيش هنا، إذا كان قريباً فإنه سيعود، أعتقد أنه عند البدو، سيعود سيعود». ويكرر 10 مرات من دون ملل «رح يرجع، رح يرجع، أنا متأكد». يستذكر وائل «يوم الانسحاب من تدمر كان بإمكانه المغادرة، قرر تأمين أطول اشتباك مع مقاتلي التنظيم ليتمكن عناصره المصابون من النجاة. كان لديه ثقة أن بقائه قد ينقذ المدينة أو يؤجل سقوطها. سقطت تدمر ولم يعد، لكنه سيعود يوماً ما، سيجدني بانتظاره عند أول نقطة للجيش قد يصلها، سأقول له الله يسامحك وأنصرف». ودعنا وائل ليكمل رحلة بحثه: «سنتجه إلى السخنة بعد أيام، إذا لم نعثر عليه هنا، سأجده هناك، سأظل أرسل له إشارات ليستهدي علينا، إنه موجود.. لا يزال موجوداً». من العائدين إلى تدمر أيضاً مقاتل سابق في حامية السجن. آخر ما عرفه عن عائلته التي كانت تقيم في مساكن الضباط قرب المدينة يوم اجتياح «داعش» أن التنظيم ذبح أطفاله الثلاثة وسبى زوجته مع 72 امرأة من زوجات الضباط والعسكريين. لم ينسحب باسل إلا مع آخر القوات المنسحبة من المدينة، عاد اليوم ليبحث عن أي أثر. وقال إن «الشرف لا يتجزأ، شرف زوجته وشرف زنوبيا واحد، الملكة التي دافع عنها ولم يسمع اسمها إلا في كتب التاريخ ومسرحيات فيروز». لكنك تدافع عن حجارة؟، يرد «الأرض أيضاً مجرد تراب والسماء مجرد ذرات هواء، والوطن كل الوطن هو حجارة وتراب وهواء. بس ما فيك تعيش بلاهن وحقن غالي.. وما حدا إلو حق يصادر حرية الشهيد الذي اختار أن يعطي روحه لهذه الأرض والحجارة.. مين فيه يقول عنه إنو راح رخيص». لطارق خالد الأسعد قصة أخرى، بدأت يوم رفض والده، خالد الأسعد، مغادرة المدينة التي أفنى حياته بين أعمدتها وأحجارها. يقول طارق «لم تشفع لوالدي أعوامه الثمانون، دخل التنظيم وبعد يومين تم استدعاؤه للتحقيق، بقي لديهم عدة أيام قبل أن يخلوا سبيله لكنهم فرضوا عليه إقامة جبرية ومنعوه من مغادرة تدمر، بعد شهر ونصف الشهر على احتلال المدينة جاء شخصان من داعش وطلبوا عالم الآثار بالإسم، قال لنا الأهالي إنه بقي لديهم قرابة 20 يوماً، قبل أن يصدر الحكم. طلبوا إليه الركوع وسط جمهرة الأهالي في الساحة العامة، كان آخر ما قاله: نخلات تدمر لا تنحني. فصلوا جسد العالم الدكتور خالد الأسعد عن رأسه لأنه رفض أن يعطيهم ما أرادوه». عُلق رأسه على عمود وسط الساحة العامة وبقي هناك ثلاثة أيام، أما الأهالي فقد سحبوا الجسد ودفنوه في مكان ما، ومن ثم تم دفن الرأس في مكان آخر. اليوم يعود طارق وأخوته محمد ووليد والباقون لبدء رحلة البحث عن ثرى والدهم، عزاؤهم الوحيد أن تدمر عادت، وأن نخلاتها ما زالت شامخة، كما الجسد الثمانيني الكهل المقطوع عن ذاكرته. هكذا تحولت تدمر أقوى ممالك الشرق القديم التي حكمتها امرأة، من أهم قبلة للرحلات السياحية، إلى وجهة للرحلات الخطرة لدرة معارك الحرب السورية، من مملكة يزورها العالم لرؤية واحة صحراوية سكنها الرومان في أزمان مضت إلى مدينة مظلمة تزورها عدسات الصحافيين لتوثيق بقعة احتلها «داعش» ودُحر منها منهزماً.

المصدر : السفير/ عبد الله علي


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة