دليل ماسة
أكثر الروابط استخداما
في مناسبات مختلفة، تحدثتُ سابقا عن “مجزرة خفية” ارتكبت في درعا في الأيام الأولى للثورة الوهابية بحق الجيش السوري ولم يسمع بها أحد سوى السلطة والمرتكبين وأهالي المنطقة بطبيعة الحال، وقد جرى إخفاؤها كل لأسبابه الخاصة.
العام الماضي، وخلال تبادلنا بعض المعلومات، تحدثت ُ إلى الصحفية الأميركية ـ البريطانية الصديقة “شارمين نرواني” عن المجزرة، وأكدت لها أن المجزرة وقعت ما بين نهاية آذار وبداية نيسان من العام 2011، لكنني لا أستطيع إجراء تحقيق ميداني عنها لأسباب لوجستية معروفة. ورجوتها ، باعتبارها تقوم بمهمة تغطية للأحداث السورية انطلاقا من بيروت، أن تهتم بالأمر وأن تذهب إلى سوريا وتجري تحقيقا ميدانيا عن المجزرة رغم المخاطر التي يمكن أن تتعرض لها. وقد سلمتُها ثلاثة مفاتيح لأصدقاء من درعا ، اثنان منهما ( وهما من “هيئة التنسيق” و حواشيها) رفضا التعاون معها بعد محاولات يائسة من قبلها على مدى أكثر من ثلاثة أشهر، وزعما أنهما لم يسمعا بهذه المجزرة، رغم أنهما كانا “يقودان” الأنشطة الميدانية المعارضة من المنفى باسم ” حركة 17 نيسان”، وكانا يسمعان من أوربا حتى “ضراط النمل” في حوران!! أما المفتاح الثالث ، وهو مهندس، فكان أحد النشطاء الميدانيين في درعا قبل مغادرته سوريا أواخر نيسان 2011 إلى بلد عربي، بعد أن كفر بالثورة التي ركبها الأخوان المسلمون والسلفيون “الحوارنة” المقيمون في الخليج منذ ساعة ولادتها الأولى، كما أخبرني.
هذا المهندس، الكافر بالثورات التي يرتكبها الإسلاميون والأخوان منهم على وجه الخصوص، كان أول من أكد لي معلوماتي بشأن المجزرة، مضيفا تفاصيل لم أكن أعرفها، ومصححا تفاصيل أخرى كانت ضبابية وغير دقيقة في ذهني. وحين سألته إن كان يود التعاون مع الصحفية “نرواني”، لم يتردد الرجل في قول الحقيقة، باعتباره كان “شاهد عيان” ميدانيا بمعنى من المعاني، لكنه اشترط الحفاظ على سرية اسمه. وبعد أن ضمنتُ له أن الصحفية صديقة ومحترفة ومحترمة ويمكن الوثوق بها مهنيا، وهي باحثة في جامعة أكسفورد أصلا قبل أن تكون صحفية،أفضى لها بكل معلوماته قبل أن تتوجه إلى سوريا.
هذا المهندس ـ المصدر كان أول من كشف لي ثم لشارمين أن المجزرة ، التي حصلت في 25 نيسان 2011 في الطريق المنحدر الذي يفصل ما بين جزئي درعا ( المحطة والبلد)، نُفذت بطريقة سكب كمية كبيرة من “زيت الفرام” من قبل “الثوار السلميين جدا”( أو ثوار الحرية والكرامة ، حسب التعبير الأثير لدى صديقنا هيثم مناع) في أحد الشوارع التي كانت ستسلكها سيارات عسكرية داخل المدينة، من أجل أن تنزلق وتتدهور قبل أن يطلقوا النار على ركابها العسكريين ويقتلوهم!! وهذا ما حصل.
النصاب الدولي رامي عبد الرحمن، الذي يكذب على الخليقة كلها منذ ثلاث سنوات، وبدأ يكفر عن ذنوبه مؤخرا، والذي أخفى حقيقة هذه المجزرة طوال ثلاث سنوات، اعترف للصحفية نرواني بها، مشيرا إلى أن ما بين 18 إلى 19 من “رجال الأمن” (طبعا هم من الجيش) قتلوا أوائل نيسان 2011. ولعل اعترافه المتأخر جاء لأن قتل عناصر الجيش لم يعد الآن “عارا” كما كان عليه في البداية حين كان الجميع ينكرون حدوثه، بل ويتهمون السلطة به حين لا يمكن نفيه، بل لأنه صار الآن “بطولة” يتسابقون على تبنيها!
الأنكى من هذا هو أن التحقيق يكشف عن أن هؤلاء التسعة عشرة (في الواقع هم أكثر بكثير، لكن هذا هو الرقم الموثّق) كانوا مجرد جزء من 88 جنديا سوريا استشهدوا حتى ذلك التاريخ في أماكن مختلفة من سوريا دون أن يسمع بهم أحد ، وعلى رأسهم : ثائر يحي مرهج و هابيل أنيس ديوب اللذان استشهدا في 23 آذار في قلب مدينة درعا، ليتبعهما “علاء نافذ سلمان” بعد يومين في اللاذقية، ثم أيهم محمد غزالي في دوما بتاريخ 9 نيسان ، ثم في 10 نيسان ” عيسى شعبان فياض” الذي اغتيل في “تلدو” في حمص، وكان أول من اغتيل في المحافظة.
وفي اليوم نفسه جرت أول مذبحة معلومة، وهي مذبحة الكمين الذي نصبته عصابات الأخوان المسلمين في بانياس لقافلة المبيت ، والتي سقط فيها تسعة شهداء من الضباط والجنود على رأسهم قريب أبي ، المقدم وهيب عيسى، قائد القافلة، وعشرات الجرحى الآخرين. والطريف في الأمر، إن كان هناك من طرافة، هو أن” الغارديان” والـ”بي بي سي” زعمتا يومها ـ كما يقول التحقيق ـ أنهم قتلوا برصاص النظام لأنهم كانوا “منشقين”! وما لم يقله التحقيق، وهذا ما أذكره أنا للمرة الأولى منذ ثلاث سنوات ، هو أن صديقتي (آنذاك) سمر يزبك كانت أخبرتني بأنهم قتلوا من قبل النظام ، و ورطتني بهذا الخبر! وقد اعتمدتُ على حقيقة أنها قريبة اللواء علي يونس نائب رئيس شعبة المخابرات العسكرية ، وأن معلوماتها من أوساطه، فضلا عن أنها كانت أصلا من “محظيات” وزارة الإعلام والتلفزيون الرسمي! و بعد حوالي خمسة أشهر، وتحديدا في أيلول 2011 ، أي الشهر الذي خرجتْ فيه من سوريا إلى فرنسا بشكل نظامي وادعت لاحقا أنها “هربت”، اكتشفتُ أنها نصّابة ودجالة ، وأن الكمين نفذ من قبل عصابات إسلامية في بانياس على صلة بجماعة عبد الحليم خدام، فقطعتُ علاقتي بها نهائيا، وإلى الأبد. وقد ازدادت “عدوانيتي المكبوتة” إزاءها بعد مجيئها إلى فرنسا حيث علمتُ ـ وهذا موثق أيضا ـ أنها تعد سيناريو لفيلم وثائقي لإنتاجه من قبل جهات لبنانية مرتبطة بعصابات سمير جعجع والحريري ، وجهات إسرائيلية في أوربا( أعرفها بالاسم والعنوان)، حيث كان مقررا في السيناريو أن تلعب ابنتها “نوارة” دور البطولة ، فضلا عن …هديل كوكي!! (لا تستطيع هذه النصابة أن تنكر واقعة النصب المتعلقة بكمين بانياس، لأن هذا كله مسجل في مراسلاتي معها بالبريد الإلكتروني. وأنا آسف أن أتحدث للمرة الأولى عنها بهذه القسوة، فقد كانت صديقة عزيزة، لكن الذي يخدعني ،خصوصا في قضايا من هذا النوع، لن أتردد حتى في وضع قدمي على عنقه وفي حلقه إذا استطعت، حتى وإن كان ابني!).
النصاب رامي عبد الرحمن يعترف : قصة “المنشقين وقتلهم من قبل السلطة” …كانت لعبة منا نحن المعارضة
بالعودة إلى التحقيق، ونقلا عن لسان رامي عبد الرحمن ، تشير شيرمين نرواني إلى أن قصة قتل الجنود من قبل النظام والادعاء بأنهم منشقون، التي اشتهرت في بداية الأحداث، كانت “لعبة للدعاية من قبلـ (نا نحن) المعارضة”!! ويضيف عبد الرحمن “إن هذه اللعبة كانت تستخدم في البداية من قبل المعارضة لتشجيع الانشقاقات” ، ويزيد ـ الآن وبعد ثلاث سنوات من الدجل ـ في القول بأنه “لو كان هذا صحيحا (قتل الجنود من قبل قادتهم) لما كان بقي أحد من الجيش، ولما كان بقي الجيش سليما وموحدا”!!!
لم تتوقف عمليات القتل “السرية” ، وفق ما يقوله التحقيق. ففي 23 نيسان 2011، قتل سبعة جنود ذبحا في بلدة “نوى” في ريف درعا لم يسمع بهم أحد. وفي 25 نيسان ، عيد الفصح، دخل الجيش إلى درعا . وفي اليوم نفسه حصلت “المجزرة الخفية” التي بقيت طي الكتمان ولم تصل إلى الإعلام الذي كان ـ على العكس ـ لا يتحدث إلا عن “عمليات القتل الجماعي التي تنفذها السلطة ضد المدنيين”!
بعد ذلك يتابع التحقيق ليبحث في الجدل الذي دار آنذاك حول روايات السلطة عن “عصابات مسلحة” مدعومة من الخارج تقتل عناصر الجيش والأمن، ويقول إنه الآن ، وبعد ثلاث سنوات، لدينا أدلة موثقة عن صدق روايات السلطة آنذاك. ولعل أبرزها الفيلم الذي صوره مراسل “الجزيرة” في لبنان علي هاشم لمسلحين أصوليين كانوا يعبرون من لبنان إلى سوريا في محافظة حمص في نيسان وأيار 2011، وهو الفيلم الذي رفضت “الجزيرة” بثه لأنه يفضح تورط الإسلاميين في عمليات القتل التي كانت جارية في سوريا ، والتي كان الجميع يتهم السلطة بها. وهو ما كان سببا في استقالة علي هاشم من “الجزيرة”.
ويفحص التحقيق أيضا تقارير “هيومان رايتس ووتش” التي كانت تصدر آنذاك استنادا إلى شهود مجهولين ، والتي كانت تتهم “شبيحة” السلطة بأنهم يكتبون شعارات “تجديفية” على جدران المساجد من قبيل ” إن ربكم بشار الأسد”! و يدحض التحقيق هذا الأكاذيب استنادا إلى إفادات أصوليين ، مثل “أبو قصي التونسي”، الذي اعترف بان مهمتهم كانت “تدنيس المساجد بعبارات استفزازية للمسلمين السنة ورموزهم من أجل استفزاز الجنود ودفعهم إلى الانشقاق”.
ويعترف الباحث في “هيومان رايتس وتش” ، أولي سولفانغ، للصحفية بأن المنظمة كان لديها أدلة موثقة وأشرطة على وجود المسلحين داخل المظاهرات وأنهم كانوا يطلقون النار على الجيش وأجهزة الأمن ويقتلونهم!!
وتنقل الصحفية عن رسائل خاصة كتبها الأب “فرانس فاندرليخت”، الذي اغتيل مؤخرا في حمص من قبل المسلحين، في العام 2012 قوله “منذ البدء لم تكن المظاهرات سلمية بحتة. فقد رأيت متظاهرين مسلحين يسيرون جنبا إلى جنب داخل المظاهرات ويطلقون النار على رجال الشرطة(…) وفي كثير من الأحيان كان عنف السلطة مجرد رد فعل على العنف الوحشي الذي مارسه الممتردون المسلحون في المظاهرات”! ( هذه الرسائل حصلتُ عليها وسأترجمها قريبا عن الهولندية).
وتختم شيرمين نرواني تحقيقها المطول بالإشارة إلى تقرير الأمم المتحدة الصادر في أوائل العام 2012، والذي ذكر أن هناك (في العام 2011) خمسة آلاف إصابة ( قتيل) في سوريا ، دون أن يحدد هويتهم وما إذا كانوا من المتمردين أو قوات الحكومة أو المدنيين . لكن التدقيق في وثائق لجنة التحقيق الخاصة التابعة للأمم المتحدة عن القتلى في العام 2011 يكشف لنا أن هؤلاء الخمسة آلاف كان بينهم 478 من عناصر الشرطة و2091 من عناصر الجيش وقوى الأمن . وهو ما يعني أن الإصابات في صفوف قوات النظام المختلفة خلال الأشهر الأولى من الأزمة وحتى نهاية العام 2011 كانت تقريبا نصف العدد الإجمالي للإصابات في سوريا!! وفي ذلك الوقت كان العالم كله لا يزال يتحدث عن …ثورة سلمية وعن السلطة التي تقتل جنودها وتأكل نفسها لمجرد أن تشهّر بمعارضيها!!
شكرا “شارمين نرواني”، لم تخيبي أملي بعد أشهر من الانتظار ، وشكرا لـ”المفتاح الثالث”، الحوراني الأصيل، الذي أبى أن يكود شاهد زور، ولم يخيب أملي أمام شارمين!
المصدر :
الماسة السورية/ نزار نيوف
اكتب تعليق
كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة