باتت «جبهة النصرة» قيادةً وتنظيماً، مسرحاً لحرب استخبارية بين عدة أطراف، إقليمية ودولية، تتنازع في ما بينها لمحاولة استقطابها وتسخيرها بما يخدم أجندة كل منها.

 

ولم يكن لخبر الاستهداف الجماعي لقادتها في ريف إدلب أمس الأول أن يثير كل هذه الضجة، لولا أنه اقترن بظروف وتطورات تشي بأن «جبهة النصرة» أمام مفترق طرق، وعليها أن تحدد خيارها.

ولا يتعلق الأمر فقط بحملة الضغوط التي تمارس على «جبهة النصرة»، والتي تقودها الاستخبارات القطرية والتركية، بهدف دفعها إلى إجراء مراجعات، شبيهة بتلك التي أجراها بعض قادة «أحرار الشام» وقامت على أساس التحرر من ضيق الحزبية والتوجه نحو سعة الأمة. فهذه الضغوط على أهميتها لم تكن تشكل سوى جانب واحد من حقيقة الأزمة التي تعاني منها «جبهة النصرة»، والتي تشير المعطيات إلى أنها أضخم بكثير مما تبدو عليه ظاهرياً، وإن كان الأداء العسكري في بعض المعارك يغطي عليها حتى الآن.

 

 

أما الجانب الآخر من أزمتها، فيتمثل في حالة العزلة التي تحيط بها وتحاصر قادتها في معظم المناطق السورية، والتي تمثلت في خروج تظاهرات في عدة مدن سورية تطالبها بالخروج منها، وفي عمليات الاستهداف الأمني التي طالت عدداً من قياداتها و «أمرائها». وتعززت هذه العزلة بشكل خاص في الأشهر الماضية بعد تورط «جبهة النصرة» بحروب عديدة مع فصائل من «الجيش الحر» على خلفية رغبتها في إقامة «إمارة» خاصة بها بين ريفي حلب وإدلب تطبق من خلالها مفاهيمها لأحكام الشريعة الإسلامية، والتي تدل الوقائع الجارية على أنها لا تختلف في شيء عن مفاهيم تنظيم «داعش  ».

ويعكس هذا التوجه من قبل «جبهة النصرة» غلبة التيار المتشدد داخلها على التيار الأقل تشدداً الذي يرى عدم جدوى «الإمارة»، ويجادل في صحة تطبيق الحدود في دار الحرب وقبل تحقيق التمكين الكامل على الأرض.

وقد كان لافتاً أن يقول المسؤول الشرعي السابق أبو ماريا القحطاني، في تغريدات له حول «فك الارتباط عن القاعدة»، أن رأيه الشخصي هو «أن الجهاد لا يتطلب البيعة»، في إشارة واضحة إلى عدم ممانعته فك الارتباط عن تنظيم «القاعدة» ضمن شروط معينة، وإن كان لم يعلن ذلك صراحة. بينما تشير التسريبات الواردة من كواليس «جبهة النصرة» إلى أن النقاش حول فك الارتباط يعتبر محسوماً لجهة رفضه، والحالة الوحيدة التي يمكن أن تجعل التيار المتشدد داخلها يقبل به هو أن يأتي في سياق تنصيب «جبهة النصرة» قائداً أوحد للعمل العسكري في سوريا. أما إن تقرر فك ارتباطها عن «القاعدة»، ومن ثم الاكتفاء باعتبارها مجرد فصيل من بين الفصائل الأخرى، فهذا أمر مرفوض من قبل كلا التيارين فيها.

ومع ذلك، فإن التنافس بين التيارين ما زال قائماً ويتفاعل على أكثر من صعيد داخل «جبهة النصرة». وفي هذا السياق سرت تساؤلات حول السبب في كون المستهدفين في العملية الأخيرة بريف إدلب جميعهم من «الشاميين»، وعدم وجود أي «مهاجر» بينهم. وتستبطن مثل هذه التساؤلات شكوكاً بأن يكون الصراع بين التيارين أحد العوامل التي تقف وراء العملية، إذ من المعروف أن القيادات الشامية في «جبهة النصرة» هي التي تمثل التيار الأقل تشدداً.

وبغض النظر عن صحة هذه التساؤلات، فإن حصيلة هذه العملية في النهاية إنما تصبّ في مصلحة التيار المتشدد، وتعزز من شرعيته، ومن قوة المنطق الذي يجادل فيه أنصار التيار الآخر.

وهنا يبرز تساؤل مماثل، قد يكون أكثر وضوحاً، هو لماذا يحصر «التحالف الدولي» عمليات القصف ضد «جبهة النصرة» على معاقلها في الشمال السوري، ولم يقصف أي معقل لها في الجنوب حيث غالبية القيادات من «الأجانب»؟ قد يكون التفسير لهذا التناقض هو أن مقاتلي «النصرة» في الجنوب يقاتلون الجيش السوري على عكس تصرفهم في الشمال، حيث باتوا يشكلون خطراً على الفصائل المسلحة الأخرى. غير أن هذه الانتقائية في الاستهداف سيترتب عليها تعزيز موقع التيار المتشدد الذي يمثله «الأجانب»، وتحويل «جبهة النصرة» إلى «داعش» آخر، خلافاً للضغوط المعلنة بأنها تستهدف تحويلها إلى فصيل معتدل.

وقد يكون هذا التباين في نتائج العمليات ضد «جبهة النصرة» أحد أهم مؤشرات الحرب الاستخبارية التي تجري في الخفاء، لأنه من الواضح أنه في مقابل قطر وتركيا، اللتين تسعيان إلى تعويم «جبهة النصرة» وإسباغ سمة الاعتدال عليها بما يتيح لهما استخدامها في تنفيذ أجنداتهما الخاصة في سوريا، هناك أطراف أخرى تقودها واشنطن تريد قطع الطريق على إمكانية حدوث ذلك، عبر استهداف القيادات الأقل تشدداً، بحيث يؤدي بقاء التيار المتشدد إلى تحقيق الغرض المتوخى لجهة استحالة إحداث التغيير المطلوب إحداثه في إيديولوجيا «النصرة» وسلوكها كي تستحق لقب «الاعتدال».

وبينما تهدف تركيا وقطر من وراء سعيهما لإعادة تظهير «جبهة النصرة»، وتغيير واجهتها العقائدية وطبيعة ولاءاتها، إلى اتخاذها مطية نحو إقامة منطقة عازلة في الشمال السوري تكون منطلقاً جديداً في محاولاتهما المتكررة لإسقاط النظام السوري، فإن واشنطن تضع نصب عينيها هدف إطالة الحرب على الإرهاب، وجعلها تمتد سنوات وسنوات إلى الأمام، مع خلق الذرائع التي تتيح لها التدخل في الوقت المناسب على أوسع بقعة جغرافية من الأراضي السورية، سواء شمالاً أو جنوباً.

  • فريق ماسة
  • 2015-03-06
  • 7629
  • من الأرشيف

الصراع داخل «جبهة النصرة» وعليها ..لمحاولة استقطابها

باتت «جبهة النصرة» قيادةً وتنظيماً، مسرحاً لحرب استخبارية بين عدة أطراف، إقليمية ودولية، تتنازع في ما بينها لمحاولة استقطابها وتسخيرها بما يخدم أجندة كل منها.   ولم يكن لخبر الاستهداف الجماعي لقادتها في ريف إدلب أمس الأول أن يثير كل هذه الضجة، لولا أنه اقترن بظروف وتطورات تشي بأن «جبهة النصرة» أمام مفترق طرق، وعليها أن تحدد خيارها. ولا يتعلق الأمر فقط بحملة الضغوط التي تمارس على «جبهة النصرة»، والتي تقودها الاستخبارات القطرية والتركية، بهدف دفعها إلى إجراء مراجعات، شبيهة بتلك التي أجراها بعض قادة «أحرار الشام» وقامت على أساس التحرر من ضيق الحزبية والتوجه نحو سعة الأمة. فهذه الضغوط على أهميتها لم تكن تشكل سوى جانب واحد من حقيقة الأزمة التي تعاني منها «جبهة النصرة»، والتي تشير المعطيات إلى أنها أضخم بكثير مما تبدو عليه ظاهرياً، وإن كان الأداء العسكري في بعض المعارك يغطي عليها حتى الآن.     أما الجانب الآخر من أزمتها، فيتمثل في حالة العزلة التي تحيط بها وتحاصر قادتها في معظم المناطق السورية، والتي تمثلت في خروج تظاهرات في عدة مدن سورية تطالبها بالخروج منها، وفي عمليات الاستهداف الأمني التي طالت عدداً من قياداتها و «أمرائها». وتعززت هذه العزلة بشكل خاص في الأشهر الماضية بعد تورط «جبهة النصرة» بحروب عديدة مع فصائل من «الجيش الحر» على خلفية رغبتها في إقامة «إمارة» خاصة بها بين ريفي حلب وإدلب تطبق من خلالها مفاهيمها لأحكام الشريعة الإسلامية، والتي تدل الوقائع الجارية على أنها لا تختلف في شيء عن مفاهيم تنظيم «داعش  ». ويعكس هذا التوجه من قبل «جبهة النصرة» غلبة التيار المتشدد داخلها على التيار الأقل تشدداً الذي يرى عدم جدوى «الإمارة»، ويجادل في صحة تطبيق الحدود في دار الحرب وقبل تحقيق التمكين الكامل على الأرض. وقد كان لافتاً أن يقول المسؤول الشرعي السابق أبو ماريا القحطاني، في تغريدات له حول «فك الارتباط عن القاعدة»، أن رأيه الشخصي هو «أن الجهاد لا يتطلب البيعة»، في إشارة واضحة إلى عدم ممانعته فك الارتباط عن تنظيم «القاعدة» ضمن شروط معينة، وإن كان لم يعلن ذلك صراحة. بينما تشير التسريبات الواردة من كواليس «جبهة النصرة» إلى أن النقاش حول فك الارتباط يعتبر محسوماً لجهة رفضه، والحالة الوحيدة التي يمكن أن تجعل التيار المتشدد داخلها يقبل به هو أن يأتي في سياق تنصيب «جبهة النصرة» قائداً أوحد للعمل العسكري في سوريا. أما إن تقرر فك ارتباطها عن «القاعدة»، ومن ثم الاكتفاء باعتبارها مجرد فصيل من بين الفصائل الأخرى، فهذا أمر مرفوض من قبل كلا التيارين فيها. ومع ذلك، فإن التنافس بين التيارين ما زال قائماً ويتفاعل على أكثر من صعيد داخل «جبهة النصرة». وفي هذا السياق سرت تساؤلات حول السبب في كون المستهدفين في العملية الأخيرة بريف إدلب جميعهم من «الشاميين»، وعدم وجود أي «مهاجر» بينهم. وتستبطن مثل هذه التساؤلات شكوكاً بأن يكون الصراع بين التيارين أحد العوامل التي تقف وراء العملية، إذ من المعروف أن القيادات الشامية في «جبهة النصرة» هي التي تمثل التيار الأقل تشدداً. وبغض النظر عن صحة هذه التساؤلات، فإن حصيلة هذه العملية في النهاية إنما تصبّ في مصلحة التيار المتشدد، وتعزز من شرعيته، ومن قوة المنطق الذي يجادل فيه أنصار التيار الآخر. وهنا يبرز تساؤل مماثل، قد يكون أكثر وضوحاً، هو لماذا يحصر «التحالف الدولي» عمليات القصف ضد «جبهة النصرة» على معاقلها في الشمال السوري، ولم يقصف أي معقل لها في الجنوب حيث غالبية القيادات من «الأجانب»؟ قد يكون التفسير لهذا التناقض هو أن مقاتلي «النصرة» في الجنوب يقاتلون الجيش السوري على عكس تصرفهم في الشمال، حيث باتوا يشكلون خطراً على الفصائل المسلحة الأخرى. غير أن هذه الانتقائية في الاستهداف سيترتب عليها تعزيز موقع التيار المتشدد الذي يمثله «الأجانب»، وتحويل «جبهة النصرة» إلى «داعش» آخر، خلافاً للضغوط المعلنة بأنها تستهدف تحويلها إلى فصيل معتدل. وقد يكون هذا التباين في نتائج العمليات ضد «جبهة النصرة» أحد أهم مؤشرات الحرب الاستخبارية التي تجري في الخفاء، لأنه من الواضح أنه في مقابل قطر وتركيا، اللتين تسعيان إلى تعويم «جبهة النصرة» وإسباغ سمة الاعتدال عليها بما يتيح لهما استخدامها في تنفيذ أجنداتهما الخاصة في سوريا، هناك أطراف أخرى تقودها واشنطن تريد قطع الطريق على إمكانية حدوث ذلك، عبر استهداف القيادات الأقل تشدداً، بحيث يؤدي بقاء التيار المتشدد إلى تحقيق الغرض المتوخى لجهة استحالة إحداث التغيير المطلوب إحداثه في إيديولوجيا «النصرة» وسلوكها كي تستحق لقب «الاعتدال». وبينما تهدف تركيا وقطر من وراء سعيهما لإعادة تظهير «جبهة النصرة»، وتغيير واجهتها العقائدية وطبيعة ولاءاتها، إلى اتخاذها مطية نحو إقامة منطقة عازلة في الشمال السوري تكون منطلقاً جديداً في محاولاتهما المتكررة لإسقاط النظام السوري، فإن واشنطن تضع نصب عينيها هدف إطالة الحرب على الإرهاب، وجعلها تمتد سنوات وسنوات إلى الأمام، مع خلق الذرائع التي تتيح لها التدخل في الوقت المناسب على أوسع بقعة جغرافية من الأراضي السورية، سواء شمالاً أو جنوباً.

المصدر : الماسة السورية/السفير


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة