يرى البعض شيئاً من التناقض ومجافاة المنطق في القول بأن «داعش» ذات العقيدة الوهابية قد تشهر السلاح ضد المملكة السعودية مهد الوهابية ومحتضنتها و»العاملة بأحكام شرائعها»، ولا يخفي البعض الآخر استهجانه للقول بأن السعودية ذاتها سهلت ظهور ا»لقاعدة» وبعدها «داعش»، وأنهما يمثلان الآن تهديداً جدياً لها، ثم يسأل كيف أن قطر وتركيا المنافستين للسعودية في أكثر من ملف وفضاء استراتيجي، كيف التقيا معها على دعم «داعش» وتسهيل نموها إلى الحد الذي أعلنت فيه «دولة الخلافة» المزعومة، دولة كانت في البدء فكرة أعدت للعراق، ثم مددت إلى سورية ومن بعدها إلى الدول العربية المحيطة بهما لبنان، فلسطين الأردن والكويت ثم فتحتها على العالم كله، معتبرة أن الكرة الأرضية كلها تشكل مجال طموحها لإقامة هذه الدولة، بما في ذلك الدول التي دعمتها ومولتها في بداية الأمر.

أسئلة كثيرة تبدو الإجابات السريعة عليها متناقضة إلى حد يقود حيناً إلى رفض فكرة دور السعودية في مسار «القاعدة» و»داعش»، كما وقد يقود إلى رفض فكرة احتمال قيام «داعش» بشهر سيفها على النظام السعودي ذاته أو إي نظام آخر مرتبط بالوهابية، تناقض قد يكون خارج مسار الحقيقة والمنطق العملي، ويفرض البحث عن ثوابت تعيد الباحث إلى الجادة المستقيمة في اتجاههما.

لقد نشأت المملكة العربية السعودية كما هو ثابت في التاريخ نتيجة مزاوجة بين سيف عبد العزيز، وعقيدة محمد بن عبد الوهاب فعقد تفاهم بين الطرفين برعاية بريطانية، تمت بعد أن انقلبت بريطانيا على وعودها للشريف حسين إبان الحرب الأولى، ورأت في «الثنائي السعودي الوهابي» أداة مثالية للتنصل أولاً من وعد إقامة الدولة العربية الكبرى التي تشمل الجزيرة وبلاد الشام، ثم في زرع فكر تكفيري يحرم المنطقة من استقرارها ويمنع توحدها عبر نشر ما يقود إلى العداء المستمر واعتماد السيف دائماً لنشر العقيدة، وقد أرسى التفاهم ذاك على توزيع للصلاحيات بين الطرفين بحيث تكون العقيدة والشريعة حكراً على الوهابيين يفرضونها في ظل سيف الحاكم، ويكون الحكم والسياسة وإدارة الدولة من حق السعوديين يديرونها ويحكمونها وفقاً للشريعة الإسلامية على المنهج الوهابي.

وفي التطبيق بدأ دور الوهابيين يتراجع ليتقدم دور السعوديين، حيث أن الفريق الأول لم يستطع أن يخرق بأي شكل من الأشكال نطاق الحكم، في حين أن السعوديين وبذريعة العصرنة ومماشاة أحكام النظام العالمي اضطروا أو روجوا لفكرة وجوب العمل ببعض التشريع الغربي بعيداً عن التشريع الإسلامي، وهذا ما اعتبره الوهابيون خروجاً على التفاهم ولكن وبسبب الاختلال في موازين القوى، لم يستطيعوا وقفه وجل ما حصل هو تشكل حالة حنق واحتقان في صفوفهم دونما أن يصلوا إلى حالة الانفجار ضد الحاكم اللهم إذا استثنينا حالة واحدة هي حالة الجهيني واحتلاله الكعبة التمرد الذي استؤصل بمساعدة عسكرية خارجية بقيت بعيدة عن الإعلام .

في ظل هذا الصراع وجد الوهابيون في إمارة قطر مكاناً في الخارج مناسباً لعملهم فحولوا جزءاً من جهودهم إليها مستفيدين من جفاف العلاقة بين الدولتين، كما وجدت السعودية بأن دفع الحركة الوهابية الاعتراضية إلى خارج المملكة وإشغالها بملفات لا تمس بنظام الحكم السعودي هو حل سليم يصب في مصلحة هذا النظام، وكان التحول الأكبر في تاريخ الثنائي الوهابي السعودي هو ما يمكن وصفه، بنشأة تفاهم جديد يقوم على التمييز في نطاق العمل بين الداخل والخارج، فيكون الداخل في قبضة الحاكم السعودي، ويكون «الجهاد» خارج المملكة وبدعم منها بكل ما يمكن مادياً أو معنوياً منظوراً أو مستوراً. وكما حصل التفاهم الأول برعاية بريطانية، حصل التفاهم الثاني برعاية أميركية، حيث وجدت أميركا في «الحركة الوهابية السلفية الجهادية» كنزاً تستفيد منه في الميادين العالمية التي لا يستطيع جيشها التقليدي الدخول إليها أو يعجز عن تحقيق النصر الأكيد فيها.

وعملاً بمنطق المصالح واغتنام الفرص، اندفعت أميركا لإنتاج بيئة تناسب قيام «قاعدة الجهاد» وهو التنظيم المعروف بالقاعدة والذي تتظاهر أميركا بتصنيفها له بأنه إرهابي ، وسهلت أميركا لهذا التنظيم نشأته ونموه اعترافات هيلاري كلينتون الصريحة حول دور أميركا في إنشاء القاعدة واعتنت السعودية وقطر وبعض دول الخليج الأخرى بتمويله من أموال عامة وخاصة، فتوزعت الأدوار وتوزعت المسؤوليات إذن وتقاطعت المصالح عند الأطراف كلها ليكون «تنظيم القاعدة» ابن الجميع، أو من غير أب فعلي حصري ودفع التنظيم إلى أفغانستان في أوائل الثمانيات فاختبر وأعطى نتائج مهمة في مواجهة المد الشيوعي.

مع احتلال أميركا للعراق، نقل جهد التنظيم القاعدي إليه برعاية أميركية فانصرف إلى إنتاج بيئة التقسيم واللااستقرار بما يناسب المشروع الصهيوأميركي في المنطقة، وأنشأ له فرعاً خاصاً بالعراق هو «الدولة الإسلامية في العراق» الفرع الذي أمعن بارتكاب المجازر الطائفية وهدم دور العبادة ورسم الخطوط الفاصلة على أساس مذهبي، فأنتج عراقاً مقسماً واقعياً مكن برايمر من وضع دستور يكرسه تحت عنوان الفيديرالية الذي جاء تراجعاً عن الدولة البسيطة الموحدة كما كانت قبل الاحتلال إلى الدولة المركبة الاتحادية والتي فيها إقليم من 3 محافظات يمتلك وضعاً خاصاً يجعله شبه دولة مستقلة كردستان ، وقد ناسب هذا الوضع المملكة السعودية التي رأت فيه مانعاً للأكثرية الشيعية من حكم البلاد في شكل مستقر فاستمرت في دعم القاعدة وفرعها.

وتكررت التجربة ذاتها في سورية مع انطلاق العدوان الخارجي عليها حيث كان الإصرار السعودي على إسقاط النظام بالقوة المسلحة، فدعمت تنظيم القاعدة في إنشاء فرع له فيها تحت اسم «جبهة النصرة» وكما كانت مهمة الفرع العراقي إقامة «دولة إسلامية في العراق»، اتخذ تنظيم النصرة هدفاً له إقامة الدولة الإسلامية في سورية أو بلاد الشام كما أعلن، وباتت التنظيمات الثلاثة من حيث الارتباط والرعاية متصلة بقيادة عليا هي أميركا التي توجه وتخطط وتحدد المسارات وبمثلث إقليمي يعتني بتمويلها وتسهيل نموها وعملها الميداني مشكل من السعودية وقطر أصلاً ثم انضمت إليهما تركيا وتقدمت عليهما بالدور والأهمية.

 

لكن جبهة النصرة لم تحقق للرعاة الخارجيين أحلامهم في سورية بالسرعة التي توخوها، فكان إيعاز «للدولة الإسلامية في العراق» بنقل جهدها موقتاً إلى سورية لتعويض الوهن والإخفاق، فاستجاب الفرع العراقي وعدل اسمه ليصبح «الدولة الإسلامية في العراق والشام» الاسم الذي اختصر بكلمة «داعش» أي الأحرف الأولى من الكلمات الأربع .

بدأ «داعش» في مرحلة أولى بالعمل في المناطق التي لا يوجد فيها جيش سوري، خشية الاصطدام به وفشل مهمته، ونفذ عملية التهام التنظيمات المسلحة مبتدئاً بالصغرى، عملية مكنته من التوسع السريع والتمدد على الأرض السورية التي كانت الجماعات المسلحة قد دخلتها خلال سنة ونصف تقريباً، تمدد رافقه مهادنة للنصرة وتجنب أو ابتعاد كلي عن الجيش السوري، وقد تمكن «داعش» من فرض نفسه واحداً من تنظيمين أساسيين يعملان في سورية وحجب كل من تبقى، الأمر الذي شجع الرعاة الإقليميين والدوليين على تكثيف الرعاية والدعم وتسهيل شتى أموره وهنا تقدمت تركيا الجميع في هذه المهمة حتى ظهر «داعش» وكأنه منتج تركي برعاية أميركية، تم ذلك من دون أن يسقط الدور السعودي أو يخفت الدور القطري.

استفاد داعش من هذا الدعم التركي اللصيق، وأمام الصلابة في الدفاعات السورية واضطرار داعش للدخول في المراوحة في الميدان السوري، توجه داعش إلى العراق ونفذت «مسرحية الموصل» التي دعمتها فيها معنوياً ومادياً الأطراف ذاتها وكانت السعودية ضمنها لأنها رأت في العملية تهديداً لموقع نوري المالكي رئيس الوزراء وعدوها اللدود، لكن الأمور بعد مسرحية الموصل تطورت في شكل لا يناسب السعودية خصوصاً بعد إعلان «داعش» لـ»دولة الخلافة الإسلامية» ذات البعد العالمي أي منازعة السعودية موقعها في قيادة العالم الإسلامي، مع امتلاك قدرات تغني «داعش» عن الدعم السعودي.

هنا وللمرة الأولى منذ إنشاء القاعدة بدأت السعودية تشعر بخطر جدي على نظامها، ويشتد الخطر عليها من وجود خلايا وهابية قاعدية نائمة في داخلها ووجود رجال دين وهابيين في حالة سبات اليوم لكنهم جاهزون عندما يقرع طبل الحرب للإفتاء بعدم مشروعية الحكم السعودي والدعوة للجهاد ضده.

هكذا وفي خريطة أعداء «داعش» وأصدقائه يمكن القول بأن محور أميركا تركيا قطر هو الجسر والرافعة والحضن المهتم اليوم بتعاظم شأن داعش تحت السقف المرسوم لها أميركياً فان تجاوزت السقف بغرور أو سوء تقدير كانت العصا الأميركية بالمرصاد لتأديبها وإعادتها إلى بيت الطاعة، كما حصل في أربيل ومنطقتها منذ أيام، بقصف جوي أميركي لبعض مواقع داعش، أما دول الإقليم فإنها جميعها في دائرة الخطر المتشكل بقيام «الدولة الإسلامية التكفيرية الارهابية»، خطر أدخلت السعودية في دائرته لأن الخطة السعودية بإعطاء القاعدة ما تريد شرط العمل خارج المملكة يبدو أن مفاعيلها انتهت اليوم، ثم أن محور قطر-تركيا مهتم جداً بتوجيه الصفعات إلى السعودية على يد «داعش وأمه القاعدة» بعد أن دعمت السعودية عملية إسقاط الإخوان في مصر.

 

مع هذه الخريطة المتشابكة يطرح السؤال: هل بات «داعش» أمراً واقعاً في المنطقة وأن التسليم بوجودها كدولة مكتملة الصفات بات أمراً لا مفر منه، قياساً على ما تم في قيام الدولة السعودية في الثلاثينات، أو ما حصل في فلسطين وقيام «إسرائيل» بشكل واقعي على يد الجماعات الإرهابية المسلحة في منتصف القرن الماضي؟

حتى اللحظة لا أظن بأن الأمر ممكن أن يستقيم لداعش، خصوصاً إذا كانت دول الإقليم جادة في التزام التصدي «لدولة الإرهاب الإسلامية» أو «دولة خلافة داعش» عبر إقامة منظومة دفاعية نرى أن تقوم على أركان ثلاثة: قوة عسكرية رسمية مؤهلة ومقتنعة بوجوب التصدي، شعب يمنع تشكيل البيئة الحاضنة ومستعد للمواجهة، حكومات جاهزة للتنسيق في ما بينها لتبادل الخبرات وسد ثغرات الضعف وإقفال ممرات التسرب الإرهابي، فهل ستجد السعودية اليوم من مصلحتها الانضمام إلى منظومة التصدي لدولة الإرهاب الإسلامية الداعشية قبل تعاظم خطرها عليها أم سترى في السياسة السابقة بدعمها وتقديم الأموال لها اتقاء لشرها حلاً أفضل؟.

  • فريق ماسة
  • 2014-08-22
  • 11465
  • من الأرشيف

السعودية و«داعش»: من الدعم إلى استشعار الخطر!؟

يرى البعض شيئاً من التناقض ومجافاة المنطق في القول بأن «داعش» ذات العقيدة الوهابية قد تشهر السلاح ضد المملكة السعودية مهد الوهابية ومحتضنتها و»العاملة بأحكام شرائعها»، ولا يخفي البعض الآخر استهجانه للقول بأن السعودية ذاتها سهلت ظهور ا»لقاعدة» وبعدها «داعش»، وأنهما يمثلان الآن تهديداً جدياً لها، ثم يسأل كيف أن قطر وتركيا المنافستين للسعودية في أكثر من ملف وفضاء استراتيجي، كيف التقيا معها على دعم «داعش» وتسهيل نموها إلى الحد الذي أعلنت فيه «دولة الخلافة» المزعومة، دولة كانت في البدء فكرة أعدت للعراق، ثم مددت إلى سورية ومن بعدها إلى الدول العربية المحيطة بهما لبنان، فلسطين الأردن والكويت ثم فتحتها على العالم كله، معتبرة أن الكرة الأرضية كلها تشكل مجال طموحها لإقامة هذه الدولة، بما في ذلك الدول التي دعمتها ومولتها في بداية الأمر. أسئلة كثيرة تبدو الإجابات السريعة عليها متناقضة إلى حد يقود حيناً إلى رفض فكرة دور السعودية في مسار «القاعدة» و»داعش»، كما وقد يقود إلى رفض فكرة احتمال قيام «داعش» بشهر سيفها على النظام السعودي ذاته أو إي نظام آخر مرتبط بالوهابية، تناقض قد يكون خارج مسار الحقيقة والمنطق العملي، ويفرض البحث عن ثوابت تعيد الباحث إلى الجادة المستقيمة في اتجاههما. لقد نشأت المملكة العربية السعودية كما هو ثابت في التاريخ نتيجة مزاوجة بين سيف عبد العزيز، وعقيدة محمد بن عبد الوهاب فعقد تفاهم بين الطرفين برعاية بريطانية، تمت بعد أن انقلبت بريطانيا على وعودها للشريف حسين إبان الحرب الأولى، ورأت في «الثنائي السعودي الوهابي» أداة مثالية للتنصل أولاً من وعد إقامة الدولة العربية الكبرى التي تشمل الجزيرة وبلاد الشام، ثم في زرع فكر تكفيري يحرم المنطقة من استقرارها ويمنع توحدها عبر نشر ما يقود إلى العداء المستمر واعتماد السيف دائماً لنشر العقيدة، وقد أرسى التفاهم ذاك على توزيع للصلاحيات بين الطرفين بحيث تكون العقيدة والشريعة حكراً على الوهابيين يفرضونها في ظل سيف الحاكم، ويكون الحكم والسياسة وإدارة الدولة من حق السعوديين يديرونها ويحكمونها وفقاً للشريعة الإسلامية على المنهج الوهابي. وفي التطبيق بدأ دور الوهابيين يتراجع ليتقدم دور السعوديين، حيث أن الفريق الأول لم يستطع أن يخرق بأي شكل من الأشكال نطاق الحكم، في حين أن السعوديين وبذريعة العصرنة ومماشاة أحكام النظام العالمي اضطروا أو روجوا لفكرة وجوب العمل ببعض التشريع الغربي بعيداً عن التشريع الإسلامي، وهذا ما اعتبره الوهابيون خروجاً على التفاهم ولكن وبسبب الاختلال في موازين القوى، لم يستطيعوا وقفه وجل ما حصل هو تشكل حالة حنق واحتقان في صفوفهم دونما أن يصلوا إلى حالة الانفجار ضد الحاكم اللهم إذا استثنينا حالة واحدة هي حالة الجهيني واحتلاله الكعبة التمرد الذي استؤصل بمساعدة عسكرية خارجية بقيت بعيدة عن الإعلام . في ظل هذا الصراع وجد الوهابيون في إمارة قطر مكاناً في الخارج مناسباً لعملهم فحولوا جزءاً من جهودهم إليها مستفيدين من جفاف العلاقة بين الدولتين، كما وجدت السعودية بأن دفع الحركة الوهابية الاعتراضية إلى خارج المملكة وإشغالها بملفات لا تمس بنظام الحكم السعودي هو حل سليم يصب في مصلحة هذا النظام، وكان التحول الأكبر في تاريخ الثنائي الوهابي السعودي هو ما يمكن وصفه، بنشأة تفاهم جديد يقوم على التمييز في نطاق العمل بين الداخل والخارج، فيكون الداخل في قبضة الحاكم السعودي، ويكون «الجهاد» خارج المملكة وبدعم منها بكل ما يمكن مادياً أو معنوياً منظوراً أو مستوراً. وكما حصل التفاهم الأول برعاية بريطانية، حصل التفاهم الثاني برعاية أميركية، حيث وجدت أميركا في «الحركة الوهابية السلفية الجهادية» كنزاً تستفيد منه في الميادين العالمية التي لا يستطيع جيشها التقليدي الدخول إليها أو يعجز عن تحقيق النصر الأكيد فيها. وعملاً بمنطق المصالح واغتنام الفرص، اندفعت أميركا لإنتاج بيئة تناسب قيام «قاعدة الجهاد» وهو التنظيم المعروف بالقاعدة والذي تتظاهر أميركا بتصنيفها له بأنه إرهابي ، وسهلت أميركا لهذا التنظيم نشأته ونموه اعترافات هيلاري كلينتون الصريحة حول دور أميركا في إنشاء القاعدة واعتنت السعودية وقطر وبعض دول الخليج الأخرى بتمويله من أموال عامة وخاصة، فتوزعت الأدوار وتوزعت المسؤوليات إذن وتقاطعت المصالح عند الأطراف كلها ليكون «تنظيم القاعدة» ابن الجميع، أو من غير أب فعلي حصري ودفع التنظيم إلى أفغانستان في أوائل الثمانيات فاختبر وأعطى نتائج مهمة في مواجهة المد الشيوعي. مع احتلال أميركا للعراق، نقل جهد التنظيم القاعدي إليه برعاية أميركية فانصرف إلى إنتاج بيئة التقسيم واللااستقرار بما يناسب المشروع الصهيوأميركي في المنطقة، وأنشأ له فرعاً خاصاً بالعراق هو «الدولة الإسلامية في العراق» الفرع الذي أمعن بارتكاب المجازر الطائفية وهدم دور العبادة ورسم الخطوط الفاصلة على أساس مذهبي، فأنتج عراقاً مقسماً واقعياً مكن برايمر من وضع دستور يكرسه تحت عنوان الفيديرالية الذي جاء تراجعاً عن الدولة البسيطة الموحدة كما كانت قبل الاحتلال إلى الدولة المركبة الاتحادية والتي فيها إقليم من 3 محافظات يمتلك وضعاً خاصاً يجعله شبه دولة مستقلة كردستان ، وقد ناسب هذا الوضع المملكة السعودية التي رأت فيه مانعاً للأكثرية الشيعية من حكم البلاد في شكل مستقر فاستمرت في دعم القاعدة وفرعها. وتكررت التجربة ذاتها في سورية مع انطلاق العدوان الخارجي عليها حيث كان الإصرار السعودي على إسقاط النظام بالقوة المسلحة، فدعمت تنظيم القاعدة في إنشاء فرع له فيها تحت اسم «جبهة النصرة» وكما كانت مهمة الفرع العراقي إقامة «دولة إسلامية في العراق»، اتخذ تنظيم النصرة هدفاً له إقامة الدولة الإسلامية في سورية أو بلاد الشام كما أعلن، وباتت التنظيمات الثلاثة من حيث الارتباط والرعاية متصلة بقيادة عليا هي أميركا التي توجه وتخطط وتحدد المسارات وبمثلث إقليمي يعتني بتمويلها وتسهيل نموها وعملها الميداني مشكل من السعودية وقطر أصلاً ثم انضمت إليهما تركيا وتقدمت عليهما بالدور والأهمية.   لكن جبهة النصرة لم تحقق للرعاة الخارجيين أحلامهم في سورية بالسرعة التي توخوها، فكان إيعاز «للدولة الإسلامية في العراق» بنقل جهدها موقتاً إلى سورية لتعويض الوهن والإخفاق، فاستجاب الفرع العراقي وعدل اسمه ليصبح «الدولة الإسلامية في العراق والشام» الاسم الذي اختصر بكلمة «داعش» أي الأحرف الأولى من الكلمات الأربع . بدأ «داعش» في مرحلة أولى بالعمل في المناطق التي لا يوجد فيها جيش سوري، خشية الاصطدام به وفشل مهمته، ونفذ عملية التهام التنظيمات المسلحة مبتدئاً بالصغرى، عملية مكنته من التوسع السريع والتمدد على الأرض السورية التي كانت الجماعات المسلحة قد دخلتها خلال سنة ونصف تقريباً، تمدد رافقه مهادنة للنصرة وتجنب أو ابتعاد كلي عن الجيش السوري، وقد تمكن «داعش» من فرض نفسه واحداً من تنظيمين أساسيين يعملان في سورية وحجب كل من تبقى، الأمر الذي شجع الرعاة الإقليميين والدوليين على تكثيف الرعاية والدعم وتسهيل شتى أموره وهنا تقدمت تركيا الجميع في هذه المهمة حتى ظهر «داعش» وكأنه منتج تركي برعاية أميركية، تم ذلك من دون أن يسقط الدور السعودي أو يخفت الدور القطري. استفاد داعش من هذا الدعم التركي اللصيق، وأمام الصلابة في الدفاعات السورية واضطرار داعش للدخول في المراوحة في الميدان السوري، توجه داعش إلى العراق ونفذت «مسرحية الموصل» التي دعمتها فيها معنوياً ومادياً الأطراف ذاتها وكانت السعودية ضمنها لأنها رأت في العملية تهديداً لموقع نوري المالكي رئيس الوزراء وعدوها اللدود، لكن الأمور بعد مسرحية الموصل تطورت في شكل لا يناسب السعودية خصوصاً بعد إعلان «داعش» لـ»دولة الخلافة الإسلامية» ذات البعد العالمي أي منازعة السعودية موقعها في قيادة العالم الإسلامي، مع امتلاك قدرات تغني «داعش» عن الدعم السعودي. هنا وللمرة الأولى منذ إنشاء القاعدة بدأت السعودية تشعر بخطر جدي على نظامها، ويشتد الخطر عليها من وجود خلايا وهابية قاعدية نائمة في داخلها ووجود رجال دين وهابيين في حالة سبات اليوم لكنهم جاهزون عندما يقرع طبل الحرب للإفتاء بعدم مشروعية الحكم السعودي والدعوة للجهاد ضده. هكذا وفي خريطة أعداء «داعش» وأصدقائه يمكن القول بأن محور أميركا تركيا قطر هو الجسر والرافعة والحضن المهتم اليوم بتعاظم شأن داعش تحت السقف المرسوم لها أميركياً فان تجاوزت السقف بغرور أو سوء تقدير كانت العصا الأميركية بالمرصاد لتأديبها وإعادتها إلى بيت الطاعة، كما حصل في أربيل ومنطقتها منذ أيام، بقصف جوي أميركي لبعض مواقع داعش، أما دول الإقليم فإنها جميعها في دائرة الخطر المتشكل بقيام «الدولة الإسلامية التكفيرية الارهابية»، خطر أدخلت السعودية في دائرته لأن الخطة السعودية بإعطاء القاعدة ما تريد شرط العمل خارج المملكة يبدو أن مفاعيلها انتهت اليوم، ثم أن محور قطر-تركيا مهتم جداً بتوجيه الصفعات إلى السعودية على يد «داعش وأمه القاعدة» بعد أن دعمت السعودية عملية إسقاط الإخوان في مصر.   مع هذه الخريطة المتشابكة يطرح السؤال: هل بات «داعش» أمراً واقعاً في المنطقة وأن التسليم بوجودها كدولة مكتملة الصفات بات أمراً لا مفر منه، قياساً على ما تم في قيام الدولة السعودية في الثلاثينات، أو ما حصل في فلسطين وقيام «إسرائيل» بشكل واقعي على يد الجماعات الإرهابية المسلحة في منتصف القرن الماضي؟ حتى اللحظة لا أظن بأن الأمر ممكن أن يستقيم لداعش، خصوصاً إذا كانت دول الإقليم جادة في التزام التصدي «لدولة الإرهاب الإسلامية» أو «دولة خلافة داعش» عبر إقامة منظومة دفاعية نرى أن تقوم على أركان ثلاثة: قوة عسكرية رسمية مؤهلة ومقتنعة بوجوب التصدي، شعب يمنع تشكيل البيئة الحاضنة ومستعد للمواجهة، حكومات جاهزة للتنسيق في ما بينها لتبادل الخبرات وسد ثغرات الضعف وإقفال ممرات التسرب الإرهابي، فهل ستجد السعودية اليوم من مصلحتها الانضمام إلى منظومة التصدي لدولة الإرهاب الإسلامية الداعشية قبل تعاظم خطرها عليها أم سترى في السياسة السابقة بدعمها وتقديم الأموال لها اتقاء لشرها حلاً أفضل؟.

المصدر : د. أمين محمد حطيط


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة