دخلت العلاقات الإيرانية ــ الأميركية مرحلة التحوّلات الكبرى. اليوم وغداً تسقط الحواجز. يلتقي مسؤولون أميركيون وإيرانيون مباشرة ولمدى يومين في جنيف. بعدها يجتمع الإيرانيون مع الروس في يومين متتاليين أيضاً. فرضت طهران نفسها الطرف الأول في المعادلة الدولية لمنطقة الشرق الأوسط. معادلة تدفع حلفاء إيران من سورية والعراق واليمن إلى حزب الله إلى الشعور بثقة عالية بالنفس تقارب مرحلة الحديث عن انتصار محورهم. لعل التظهير الأهم لهذه الثقة ورد في الخطاب الأخير للأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله.

مجرد انتقال مفاوضات «5+1» النووية مع إيران إلى مرحلة التفاوض المباشر هو حدث كبير جداً في المنطقة. «الشيطان الأكبر» و«دولة الشر» يجلسان إلى طاولة واحدة. أمر كان حتى الأمس القريب أقرب إلى الخيال. اللقاء يجري على مستوى نواب وزيري خارجية البلدين. بعده لن يكون مفاجئاً أن يرتفع مستوى اللقاءات إلى وزيري الخارجية. لا بل قد لا يفاجأ العالم، بعد حين، إذا التقى الرئيسان حسن روحاني وباراك اوباما. منذ اتصالهما الهاتفي الذي هزّ العالم أواخر أيلول الماضي، تتواصل الارتدادات الايجابية. نحن، إذا، أمام تحوّل هائل في منطقة الشرق الأوسط. لعلّنا أمام إعادة رسم تحالفات جديدة وأدوار جديدة ستظهر انعكاساتها قريباً على أكثر من ملف، في مقدمها ملفا سورية وإيران. من الطبيعي أن يكون الإعلان عن هذه اللقاءات المفاجئة ثمرة جهود وساطة كثيرة بقيت بعيدة عن الأضواء.

 ساهمت دول خليجية في الجهود، أبرزها سلطنة عمان ثم الكويت والعراق وتركيا وغيرها. من الطبيعي، أيضاً، أن تكون لقاءات حصلت بين الجانبين من دون الإعلان عنها على مستوى الخبراء. الملفات عديدة ومعقدة.

بعضها شائك وبعضها قابل للتفاهم سريعاً. لن يغامر البلدان بلقاءات ثنائية علنية من دون الاتفاق مسبقاً على عدد من هذه الملفات.

 القنبلة ليست مشكلة

ليست القنبلة النووية هي المشكلة. كانت أميركا وإسرائيل وكل الدول الغربية تدرك ذلك. إيران نفسها أعلنت مراراً رفضها إنتاج قنابل. أفتى مرشد الثورة السيد علي خامنئي بتحريمها لأنها ضد العقيدة والدين والأخلاق. قال انه لو أرادت طهران إنتاجها لما استطاع احد منعها من ذلك. هذا صحيح. المشكلة، إذا، هي في امتلاك إيران التكنولوجيا النووية وليس القنبلة. هذه التكنولوجيا تجعل إيران منافساً شرساً ضد دول غربية عدة، في مقدمها فرنسا، على المستوى العالمي. لو تنافست، مثلاً، طهران وباريس على إنتاج مفاعل كهربائي بطاقة نووية، تربح الأولى لأن التكاليف واليد العاملة أكثر قدرة على المنافسة. التقدم العلمي في إيران يتفوق على كل الجوار بنسبة 11،3 في المئة وفق آخر التقارير الصادر عن «معهد طومسون» ووكالة «رويترز». تفوقت إيران وهي محاصرة ومعاقبة. وصلت إلى السماء بأقمارها الاصطناعية، وسيطرت على الأرض والبحر بقدراتها الصاروخية الهائلة.

ما الذي تغير إذا؟

يبدو الآن أن أميركا والغرب الأطلسي اقتنعا بضرورة أن تحافظ إيران على مستوى جيد من التكنولوجيا النووية. قَبِل الغرب حالياً ما كان يرفضه سابقاً. نجحت إلى حد بعيد سياسة «مرونة المصارع» التي تحدث عنها السيد خامنئي. في المرونة، كان المرشد يؤكد أن المفاوضات لن تؤدي إلى أي نتيجة. بقي يكثف الهجوم على أميركا ويدعم المفاوضين. كان الرئيس روحاني ووزارة الخارجية يكرران مؤشرات الانفتاح. اقترنت «مرونة المصارع» بـ «مناورة المصارع».

ماذا أنتجت؟

على مستوى الإقليم، صارت إيران الدولة الأكثر أهمية بالنسبة لأميركا والغرب الأطلسي في مواجهة الإرهاب. القراءات العسكرية، وفي مراكز الدراسات الأميركية المؤثرة، تنحو صوب هذا الاحتمال. سيتعزّز الأمر في المرحلة المقبلة كلما تبيّن أن الإرهاب بات في حاجة إلى تعاون دولي إقليمي أكبر. لا بد أن يشمل هذا التعاون لاحقاً، وعلانية، الجيش السوري.

تستطيع إيران وأميركا الاتفاق على أدوارهما في منطقة شرق آسيا. المنطقة ستكون حيوية جداً لواشنطن في العقود المقبلة. البعض يتحدث عن احتمال أن تصبح مركز الثقل الأبرز بعد الشرق الأوسط، خصوصاً بعد أن تتخلى أميركا عن النفط الخليجي ابتداء من عام 2018. يكفي أن يلاحظ المرء عدد القمم التي عقدتها إيران مع قادة آسيويين في الأشهر الماضية ليفهم سبب الاهتمام الأميركي.

لا بد أن يشمل التعاون بين البلدين، لاحقاً وعلانية،الجيش السوري

كل بؤر التوتر في الشرق الأوسط والخليج في حاجة إلى تفاهم أميركي ــــ إيراني. بعض هذا التفاهم صار واقعاً. العراق مثال جيد. الحكومة اللبنانية والخطة الأمنية ليستا بعيدتين عن هذا التفاهم.

يحكى عن نصائح أميركية وروسية أُسديت إلى الرياض في شأن أهمية التقارب مع طهران. يقال إن اوباما نفسه نقل مثل هذا التمني خلال زيارته الأخيرة إلى السعودية. انتقل الرئيس الأميركي من مرحلة عزل إيران، بعد فشل أميركا في ذلك، إلى مرحلة الاحتواء المزدوج لإيران والسعودية والحلفاء الآخرين في الخليج. بعض القلق الخليجي مبرر من أن تكون الإدارة الأميركية باتت تولي مستقبل تقاربها مع طهران الأهمية الأكبر.

أن يقرأ وزير الخارجية الأميركي جون كيري، من قلب بيروت، نصّاً مكتوباً يدعو فيه إيران وحزب الله لإيجاد حل في سورية، فهذا تحوّل كبير. لم يكن أمراً عابراً، ومن السذاجة المحلية اللبنانية التعامل معه على انه زلّة. كان النص مكتوباً. قرأه كيري حرفياً. جاء النص بعد الانتخابات السورية مباشرة. اذاً، هو أمر غير عادي. لعل الشرق الأوسط سيعتاد على أمور كثيرة غير عادية في المرحلة المقبلة.

أن يذهب أمير الكويت الشيخ صباح الأحمد الجابر إلى طهران. ليس أمراً عابراً. سبقه تبادل زيارات بين طهران والإمارات على مستوى وزيري الخارجية. من المهم الإشارة إلى أن هذه الدولة الخليجية التي تطالب باستعادة ثلاث جزر من إيران، هي نفسها التي بلغ حجم التبادل التجاري بينها وبين طهران نحو 16 مليار دولار عام 2013 فقط. قد يضاف إلى ذلك التوجه القطري الكبير نحو إيران، أو زيارة نائب وزير الخارجية الإيراني للشؤون العربية والإفريقية حسين أمير عبد اللهيان إلى اليمن ثم لقاؤه مع رئيس المكتب السياسي لحركة حماس خالد مشعل على ارض الدوحة.

أن تتولى تركيا نفسها تسهيل اللقاءات الإيرانية ــــ الأميركية فهذا أمر غير عابر أيضا. قال ممثل إيران السابق في منظمة الأمم المتحدة علي خرم أن «المفاوضات غير الرسمية التي جرت مؤخراً في اسطنبول ستترك تأثيراً ايجابياً على الجولة المقبلة من المفاوضات بين إيران ومجموعة 5+1، وان من شأن ذلك أن يسهم في توصل الجانبين إلى تفاهم مشترك». من المهم مراقبة تفاصيل الزيارة التي يبدأها اليوم الرئيس روحاني إلى تركيا. من الأهم مراقبة الخطاب التركي في المرحلة التي ستلي هذه الزيارة.

أن ترسل مصر، المتحالفة عضوياً حالياً مع السعودية، دعوة إلى إيران للمشاركة في حفل تنصيب الرئيس المصري المشير عبد الفتاح السيسي، فهذا ليس أمراً عابراً. هناك معلومات عدة عن خطوط ووساطات لتعزيز العلاقات المصرية ــــ الإيرانية. المصلحة المتبادلة كبيرة. طهران التي لا تزال متحفظة في التعاطي مع السيسي بيدها الانفتاح عليه، تماماً كما بيدها الإبقاء على الخطوط مع الإخوان المسلمين وحركة حماس.

أن يقول رئيس مؤسسة التراث الثقافي الإيراني مسعود سلطاني أن عدد السياح الأميركيين الذين زاروا إيران خلال هذه الفترة ازداد 20 ضعفاً ليس أمراً عابراً. يضاف إلى ذلك عدد الإجراءات الاقتصادية والمصرفية التي تم الاتفاق عليها بين واشنطن وطهران لنفهم أكثر أن الأمور تسير سريعاً نحو التفاهم الأكبر. هل كان بالصدفة، إذا، أن يقرر أوباما تأجيل العقوبات النفطية على إيران لستة أشهر مقبلة؟

أيضاً، أن تتقاطر على إيران وفود الدول الأوروبية باحثة عن صفقات اقتصادية ليس امرأ عابراً.

 ماذا عن سوريا؟

 كان موقف إيران وروسيا الأكثر وضوحاً في دعم الانتخابات الرئاسية الأخيرة. منذ العام الأول للحرب في سورية وعليها، أرسل السيد خامنئي من الرسائل ما يكفي لإفهام خصوم سورية بأن موقف إيران صلب خلف نظام الرئيس بشار الأسد. كثّف الرسائل الداعمة للقيادة السورية حين ظهر بعض ترنح من قبل إدارة الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد. القرار الإيراني حيال سورية معروف تماماً أين مركزه. في هذا المركز بات الموقف أكثر صلابة من السابق، خصوصاً بعد انخراط حزب الله في القتال. أرسلت طهران أحد أهم صقورها، رئيس لجنة العلاقات الخارجية والأمن علاء الدين بروجوردي، إلى سورية لدعم الانتخابات الرئاسية ونتائجها. كان الرئيس روحاني في طليعة مهنئي نظيره السوري بولايته الثالثة. تشعر طهران بقوة وصوابية موقفها هذا في أعقاب الانتخابات، ولكن أيضاً بعد التقدم العسكري اللافت للجيش السوري وحلفائه على الأرض.

احتمال المساومة الإيرانية مع الأميركيين على مستقبل سورية يشغل خيال بعض المحللين المناهضين للأسد. من استمع إلى كبار المسؤولين الايرانيين، في الأشهر القليلة الماضية، يدرك أن هذا ضرب من خيال. لم تتورّط إيران بكل هذا الدعم العسكري والمالي والسياسي للرئيس الأسد لكي تتخلى عنه في «لحظة الانتصار». توصيف الانتصار ورد على لسان أكثر من مسؤول إيراني في الفترة القريبة الماضية، تماماً كما ورد بكل تفاصيله في الخطاب الأخير للأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله.

ثم أن حلفاء سورية في إيران وحزب الله يعترفون قبل غيرهم بأنه لولا «صمود الجيش السوري» لما استطاع أي طرف، من إيران إلى الحزب وصولاً إلى روسيا، الانتقال من مرحلة الدفاع الصعب إلى مشارف الحسم. حتى الآن امتنعت إيران في كل مفاوضاتها مع الدول الغربية عن فتح ملفات أخرى غير النووي. كانت تقول: «ننتهي أولا من هذا الملف، ثم ننتقل إلى ملفات أخرى». تؤكد معلومات دقيقة أن عروضاً كثيرة ومهمة ومغرية قُدّمت إلى القيادة الإيرانية لتغيّر موقفها حيال الأسد. كانت كل العروض تصطدم بجواب واحد: «دمشق هي بالنسبة لنا كطهران». قيل هذا الكلام مباشرة من قبل مسؤولين إيرانيين إلى القيادة السورية. قيل مثله أيضا من قبل القيادة الروسية: الدفاع عن دمشق كالدفاع عن موسكو.

الآن، وفيما يشارف الاتفاق النووي على مراحله الكبيرة، هل يمكن التفكير بانفراجات في سورية ولبنان والعراق واليمن والبحرين وغيرها من الملفات الشائكة. هل يمكن انتظار انفراج في العلاقات السعودية ــــ الإيرانية التي لا تزال صعبة وفق ما يُفهم من الخطاب الأخير للسيد نصرالله.

الأكيد نعم، ستحصل انفراجات لأن التعاون في ضرب الإرهاب ولضمان المصالح الكبيرة في المنطقة يحتاج تفاهمات وتحولات وانفراجات. يحكى عن ورقة سياسية إيرانية في شأن سورية تهدف إلى توسيع قاعدة الحكم في المستقبل. هذا أمر مهم، شرط عدم المساس بصلاحيات الرئيس.

لكن هل الانفراجات ستحصل بسرعة ومن دون عقبات؟

الأكيد لا. التفاوض قد يتعثر وقد يسير. عوامل كثيرة قد تدخل على الخط. إسرائيل القلقة والمتعثرة العلاقات حالياً مع أميركا تراقب وتخطّط، وقد تحرج الجميع بمغامرة متهورة. الخليج القلق من الدور الإيراني ومستقبل التقارب الأميركي ــــ الإيراني يبحث عن كيفية تغيير مجرى الرياح الأميركية. المتشددون في أميركا وإيران نفسها قد لا يرغبون بالذهاب ابعد في التنازلات المتبادلة.

كل شيء وارد. لكن لا شك في أن المنطقة تدخل ابتداءً من اليوم في مرحلة التحوّلات الكبرى. ليس أمراً عادياً أن يجلس الأميركيون والإيرانيون على طاولة واحدة للتفاهم. هذا في حد ذاته أول التحولات المفصلية.

  • فريق ماسة
  • 2014-06-08
  • 11922
  • من الأرشيف

إيران ـ أميركا: زمن التحولات / بقلم سامي كليب

دخلت العلاقات الإيرانية ــ الأميركية مرحلة التحوّلات الكبرى. اليوم وغداً تسقط الحواجز. يلتقي مسؤولون أميركيون وإيرانيون مباشرة ولمدى يومين في جنيف. بعدها يجتمع الإيرانيون مع الروس في يومين متتاليين أيضاً. فرضت طهران نفسها الطرف الأول في المعادلة الدولية لمنطقة الشرق الأوسط. معادلة تدفع حلفاء إيران من سورية والعراق واليمن إلى حزب الله إلى الشعور بثقة عالية بالنفس تقارب مرحلة الحديث عن انتصار محورهم. لعل التظهير الأهم لهذه الثقة ورد في الخطاب الأخير للأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله. مجرد انتقال مفاوضات «5+1» النووية مع إيران إلى مرحلة التفاوض المباشر هو حدث كبير جداً في المنطقة. «الشيطان الأكبر» و«دولة الشر» يجلسان إلى طاولة واحدة. أمر كان حتى الأمس القريب أقرب إلى الخيال. اللقاء يجري على مستوى نواب وزيري خارجية البلدين. بعده لن يكون مفاجئاً أن يرتفع مستوى اللقاءات إلى وزيري الخارجية. لا بل قد لا يفاجأ العالم، بعد حين، إذا التقى الرئيسان حسن روحاني وباراك اوباما. منذ اتصالهما الهاتفي الذي هزّ العالم أواخر أيلول الماضي، تتواصل الارتدادات الايجابية. نحن، إذا، أمام تحوّل هائل في منطقة الشرق الأوسط. لعلّنا أمام إعادة رسم تحالفات جديدة وأدوار جديدة ستظهر انعكاساتها قريباً على أكثر من ملف، في مقدمها ملفا سورية وإيران. من الطبيعي أن يكون الإعلان عن هذه اللقاءات المفاجئة ثمرة جهود وساطة كثيرة بقيت بعيدة عن الأضواء.  ساهمت دول خليجية في الجهود، أبرزها سلطنة عمان ثم الكويت والعراق وتركيا وغيرها. من الطبيعي، أيضاً، أن تكون لقاءات حصلت بين الجانبين من دون الإعلان عنها على مستوى الخبراء. الملفات عديدة ومعقدة. بعضها شائك وبعضها قابل للتفاهم سريعاً. لن يغامر البلدان بلقاءات ثنائية علنية من دون الاتفاق مسبقاً على عدد من هذه الملفات.  القنبلة ليست مشكلة ليست القنبلة النووية هي المشكلة. كانت أميركا وإسرائيل وكل الدول الغربية تدرك ذلك. إيران نفسها أعلنت مراراً رفضها إنتاج قنابل. أفتى مرشد الثورة السيد علي خامنئي بتحريمها لأنها ضد العقيدة والدين والأخلاق. قال انه لو أرادت طهران إنتاجها لما استطاع احد منعها من ذلك. هذا صحيح. المشكلة، إذا، هي في امتلاك إيران التكنولوجيا النووية وليس القنبلة. هذه التكنولوجيا تجعل إيران منافساً شرساً ضد دول غربية عدة، في مقدمها فرنسا، على المستوى العالمي. لو تنافست، مثلاً، طهران وباريس على إنتاج مفاعل كهربائي بطاقة نووية، تربح الأولى لأن التكاليف واليد العاملة أكثر قدرة على المنافسة. التقدم العلمي في إيران يتفوق على كل الجوار بنسبة 11،3 في المئة وفق آخر التقارير الصادر عن «معهد طومسون» ووكالة «رويترز». تفوقت إيران وهي محاصرة ومعاقبة. وصلت إلى السماء بأقمارها الاصطناعية، وسيطرت على الأرض والبحر بقدراتها الصاروخية الهائلة. ما الذي تغير إذا؟ يبدو الآن أن أميركا والغرب الأطلسي اقتنعا بضرورة أن تحافظ إيران على مستوى جيد من التكنولوجيا النووية. قَبِل الغرب حالياً ما كان يرفضه سابقاً. نجحت إلى حد بعيد سياسة «مرونة المصارع» التي تحدث عنها السيد خامنئي. في المرونة، كان المرشد يؤكد أن المفاوضات لن تؤدي إلى أي نتيجة. بقي يكثف الهجوم على أميركا ويدعم المفاوضين. كان الرئيس روحاني ووزارة الخارجية يكرران مؤشرات الانفتاح. اقترنت «مرونة المصارع» بـ «مناورة المصارع». ماذا أنتجت؟ على مستوى الإقليم، صارت إيران الدولة الأكثر أهمية بالنسبة لأميركا والغرب الأطلسي في مواجهة الإرهاب. القراءات العسكرية، وفي مراكز الدراسات الأميركية المؤثرة، تنحو صوب هذا الاحتمال. سيتعزّز الأمر في المرحلة المقبلة كلما تبيّن أن الإرهاب بات في حاجة إلى تعاون دولي إقليمي أكبر. لا بد أن يشمل هذا التعاون لاحقاً، وعلانية، الجيش السوري. تستطيع إيران وأميركا الاتفاق على أدوارهما في منطقة شرق آسيا. المنطقة ستكون حيوية جداً لواشنطن في العقود المقبلة. البعض يتحدث عن احتمال أن تصبح مركز الثقل الأبرز بعد الشرق الأوسط، خصوصاً بعد أن تتخلى أميركا عن النفط الخليجي ابتداء من عام 2018. يكفي أن يلاحظ المرء عدد القمم التي عقدتها إيران مع قادة آسيويين في الأشهر الماضية ليفهم سبب الاهتمام الأميركي. لا بد أن يشمل التعاون بين البلدين، لاحقاً وعلانية،الجيش السوري كل بؤر التوتر في الشرق الأوسط والخليج في حاجة إلى تفاهم أميركي ــــ إيراني. بعض هذا التفاهم صار واقعاً. العراق مثال جيد. الحكومة اللبنانية والخطة الأمنية ليستا بعيدتين عن هذا التفاهم. يحكى عن نصائح أميركية وروسية أُسديت إلى الرياض في شأن أهمية التقارب مع طهران. يقال إن اوباما نفسه نقل مثل هذا التمني خلال زيارته الأخيرة إلى السعودية. انتقل الرئيس الأميركي من مرحلة عزل إيران، بعد فشل أميركا في ذلك، إلى مرحلة الاحتواء المزدوج لإيران والسعودية والحلفاء الآخرين في الخليج. بعض القلق الخليجي مبرر من أن تكون الإدارة الأميركية باتت تولي مستقبل تقاربها مع طهران الأهمية الأكبر. أن يقرأ وزير الخارجية الأميركي جون كيري، من قلب بيروت، نصّاً مكتوباً يدعو فيه إيران وحزب الله لإيجاد حل في سورية، فهذا تحوّل كبير. لم يكن أمراً عابراً، ومن السذاجة المحلية اللبنانية التعامل معه على انه زلّة. كان النص مكتوباً. قرأه كيري حرفياً. جاء النص بعد الانتخابات السورية مباشرة. اذاً، هو أمر غير عادي. لعل الشرق الأوسط سيعتاد على أمور كثيرة غير عادية في المرحلة المقبلة. أن يذهب أمير الكويت الشيخ صباح الأحمد الجابر إلى طهران. ليس أمراً عابراً. سبقه تبادل زيارات بين طهران والإمارات على مستوى وزيري الخارجية. من المهم الإشارة إلى أن هذه الدولة الخليجية التي تطالب باستعادة ثلاث جزر من إيران، هي نفسها التي بلغ حجم التبادل التجاري بينها وبين طهران نحو 16 مليار دولار عام 2013 فقط. قد يضاف إلى ذلك التوجه القطري الكبير نحو إيران، أو زيارة نائب وزير الخارجية الإيراني للشؤون العربية والإفريقية حسين أمير عبد اللهيان إلى اليمن ثم لقاؤه مع رئيس المكتب السياسي لحركة حماس خالد مشعل على ارض الدوحة. أن تتولى تركيا نفسها تسهيل اللقاءات الإيرانية ــــ الأميركية فهذا أمر غير عابر أيضا. قال ممثل إيران السابق في منظمة الأمم المتحدة علي خرم أن «المفاوضات غير الرسمية التي جرت مؤخراً في اسطنبول ستترك تأثيراً ايجابياً على الجولة المقبلة من المفاوضات بين إيران ومجموعة 5+1، وان من شأن ذلك أن يسهم في توصل الجانبين إلى تفاهم مشترك». من المهم مراقبة تفاصيل الزيارة التي يبدأها اليوم الرئيس روحاني إلى تركيا. من الأهم مراقبة الخطاب التركي في المرحلة التي ستلي هذه الزيارة. أن ترسل مصر، المتحالفة عضوياً حالياً مع السعودية، دعوة إلى إيران للمشاركة في حفل تنصيب الرئيس المصري المشير عبد الفتاح السيسي، فهذا ليس أمراً عابراً. هناك معلومات عدة عن خطوط ووساطات لتعزيز العلاقات المصرية ــــ الإيرانية. المصلحة المتبادلة كبيرة. طهران التي لا تزال متحفظة في التعاطي مع السيسي بيدها الانفتاح عليه، تماماً كما بيدها الإبقاء على الخطوط مع الإخوان المسلمين وحركة حماس. أن يقول رئيس مؤسسة التراث الثقافي الإيراني مسعود سلطاني أن عدد السياح الأميركيين الذين زاروا إيران خلال هذه الفترة ازداد 20 ضعفاً ليس أمراً عابراً. يضاف إلى ذلك عدد الإجراءات الاقتصادية والمصرفية التي تم الاتفاق عليها بين واشنطن وطهران لنفهم أكثر أن الأمور تسير سريعاً نحو التفاهم الأكبر. هل كان بالصدفة، إذا، أن يقرر أوباما تأجيل العقوبات النفطية على إيران لستة أشهر مقبلة؟ أيضاً، أن تتقاطر على إيران وفود الدول الأوروبية باحثة عن صفقات اقتصادية ليس امرأ عابراً.  ماذا عن سوريا؟  كان موقف إيران وروسيا الأكثر وضوحاً في دعم الانتخابات الرئاسية الأخيرة. منذ العام الأول للحرب في سورية وعليها، أرسل السيد خامنئي من الرسائل ما يكفي لإفهام خصوم سورية بأن موقف إيران صلب خلف نظام الرئيس بشار الأسد. كثّف الرسائل الداعمة للقيادة السورية حين ظهر بعض ترنح من قبل إدارة الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد. القرار الإيراني حيال سورية معروف تماماً أين مركزه. في هذا المركز بات الموقف أكثر صلابة من السابق، خصوصاً بعد انخراط حزب الله في القتال. أرسلت طهران أحد أهم صقورها، رئيس لجنة العلاقات الخارجية والأمن علاء الدين بروجوردي، إلى سورية لدعم الانتخابات الرئاسية ونتائجها. كان الرئيس روحاني في طليعة مهنئي نظيره السوري بولايته الثالثة. تشعر طهران بقوة وصوابية موقفها هذا في أعقاب الانتخابات، ولكن أيضاً بعد التقدم العسكري اللافت للجيش السوري وحلفائه على الأرض. احتمال المساومة الإيرانية مع الأميركيين على مستقبل سورية يشغل خيال بعض المحللين المناهضين للأسد. من استمع إلى كبار المسؤولين الايرانيين، في الأشهر القليلة الماضية، يدرك أن هذا ضرب من خيال. لم تتورّط إيران بكل هذا الدعم العسكري والمالي والسياسي للرئيس الأسد لكي تتخلى عنه في «لحظة الانتصار». توصيف الانتصار ورد على لسان أكثر من مسؤول إيراني في الفترة القريبة الماضية، تماماً كما ورد بكل تفاصيله في الخطاب الأخير للأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله. ثم أن حلفاء سورية في إيران وحزب الله يعترفون قبل غيرهم بأنه لولا «صمود الجيش السوري» لما استطاع أي طرف، من إيران إلى الحزب وصولاً إلى روسيا، الانتقال من مرحلة الدفاع الصعب إلى مشارف الحسم. حتى الآن امتنعت إيران في كل مفاوضاتها مع الدول الغربية عن فتح ملفات أخرى غير النووي. كانت تقول: «ننتهي أولا من هذا الملف، ثم ننتقل إلى ملفات أخرى». تؤكد معلومات دقيقة أن عروضاً كثيرة ومهمة ومغرية قُدّمت إلى القيادة الإيرانية لتغيّر موقفها حيال الأسد. كانت كل العروض تصطدم بجواب واحد: «دمشق هي بالنسبة لنا كطهران». قيل هذا الكلام مباشرة من قبل مسؤولين إيرانيين إلى القيادة السورية. قيل مثله أيضا من قبل القيادة الروسية: الدفاع عن دمشق كالدفاع عن موسكو. الآن، وفيما يشارف الاتفاق النووي على مراحله الكبيرة، هل يمكن التفكير بانفراجات في سورية ولبنان والعراق واليمن والبحرين وغيرها من الملفات الشائكة. هل يمكن انتظار انفراج في العلاقات السعودية ــــ الإيرانية التي لا تزال صعبة وفق ما يُفهم من الخطاب الأخير للسيد نصرالله. الأكيد نعم، ستحصل انفراجات لأن التعاون في ضرب الإرهاب ولضمان المصالح الكبيرة في المنطقة يحتاج تفاهمات وتحولات وانفراجات. يحكى عن ورقة سياسية إيرانية في شأن سورية تهدف إلى توسيع قاعدة الحكم في المستقبل. هذا أمر مهم، شرط عدم المساس بصلاحيات الرئيس. لكن هل الانفراجات ستحصل بسرعة ومن دون عقبات؟ الأكيد لا. التفاوض قد يتعثر وقد يسير. عوامل كثيرة قد تدخل على الخط. إسرائيل القلقة والمتعثرة العلاقات حالياً مع أميركا تراقب وتخطّط، وقد تحرج الجميع بمغامرة متهورة. الخليج القلق من الدور الإيراني ومستقبل التقارب الأميركي ــــ الإيراني يبحث عن كيفية تغيير مجرى الرياح الأميركية. المتشددون في أميركا وإيران نفسها قد لا يرغبون بالذهاب ابعد في التنازلات المتبادلة. كل شيء وارد. لكن لا شك في أن المنطقة تدخل ابتداءً من اليوم في مرحلة التحوّلات الكبرى. ليس أمراً عادياً أن يجلس الأميركيون والإيرانيون على طاولة واحدة للتفاهم. هذا في حد ذاته أول التحولات المفصلية.

المصدر : الأخبار/ سامي كليب


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة