دليل ماسة
أكثر الروابط استخداما
لم أشهد على مرّ السنوات الثلاث الماضية الكثير من الإنتصارات في سورية. ولكن بعض التطوّرات ذكّرني بوصف "بلوتارخ" هزيمة ملكِ اليونان "بيروس" الجيشَ الروماني فيما مضى. إلّا أنّ أحد إنجازات الحكومة السورية وشعبها في الثالث من نيسان/أبريل، 2014 في أحد المزادات في لندن لا يشبه "بيروس" ولا مجموعة "انتصار آخر ولم أتراجع".
ويتضمّن ذلك شاهداً بازلتيّاً أسود قديم (وهو عبارة عن بلاطة حجريّة أو خشبيّة تكون طويلةً إجمالاً أكثر من كونها عريضة، وهو يُقام كنُصُبٍ يُستخدَم عادةً لأغراض جنائزية أو تذكاريّة) يعود للملك الآشوري "آداد نيراري" الثالث الذي حكم سورية منذ 2800 عام. وهو يزن 830 كيلوغراماً، في حين يمتدّ ارتفاعه 137.5 سنتيمتراً، مع عرض 75 سنتيمتراً وعُمق 27 سنتيمتراً. ويعتقد الكثير من المختصّين بالآثار السورية والعالمية أنه قد سُرق من سورية في العام 2000 بعد أن كان موجوداً فيها منذ ثلاثة آلاف عام داخل معبد سليمان في مدينة دور كاتليمو القديمة، المعروفة حاليّاً باسم تلّ الشيخ حمد. ويقع التلّ بالقرب من نهر خابور التاريخي بين الحسكة ودير الزور شرقيّ سورية، وليس بعيداً عن تدمر التي قمت بزيارتها مؤخّراً.
وقد ظهر الشاهد مؤخّراً بحوزة بيت المزاد البريطاني "بونهامز"، ما شكّل تطوّراً أثار حفيظة علماء الآثار السوريين والعالميين على حدّ سواء. وما حصل بعد ذلك ليس واضحاً تماماً، إلّا أنّ المسألة القانونية السياسية قد تمّ تغليفها في رسالة عاجلة مرسلة إلى الدكتور مأمون عبد الكريم، مدير عام المتاحف والآثار في وزارة الثقافة السورية الذي لا يعرف الكلل، عبر مراسل من برلين. وقد استلم عبد الكريم الرسالة في 23 آذار/مارس 2014.
"عزيزي الدكتور مأمون،
لقد أرسلت لك في المرفق توثيقاً حول شاهدة تلّ الشيخ حمد التي سيتمّ عرضها للبيع في مزاد "بونهامز" في لندن بتاريخ 3 نيسان/أبريل 2014. وبحسب معلوماتي فقد أخبرت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونيسكو) حكومة بلادك بهذا الأمر. والوسيلة الوحيدة لمنع بيع هذه القطعة هو ردّ حكومتك على (اليونيسكو) والتوجّه بمخاطبة الشرطة الدولية (الإنتربول) والمطالبة بتحقيق من قبل شرطة لندن.
سيدي اسمح لي أن أحثّك على إعلام حكومتك بسرعة والعمل على أساس ذلك قبل الثالث من نيسان/أبريل!
والرجاء الإلتفات إلى ما يلي أيضاً: https://www.youtube.com/watch?v=FVucfdFWTdc
وتفضّل بقبول فائق الإحترام."
(تمّ التحفّظ عن ذكر المرسل احتراماً له)
وكان الدكتور مأمون وفريقه السوري الوطني المتفاني يعملون من دون توقّف (وبعضهم من دون مال لأكثر من عامين) للحفاظ على أرث سورية الثقافي العالمي وحمايته والتخطيط لإعادة إعماره. وهم وغيرهم ملتزمون بإيقاف سرقة الآثار، الظاهرة التي أصبحت أكثر تفشّياً منذ نشوء الأزمة الحالية. ولم تقتصر السرقات على المناطق الشمالية الواقعة تحت سيطرة الثوار أو غيرها من المناطق التي لا تكون دائماً تحت سيطرة الحكومة، فالمشكلة قائمة أيضاً بالقرب من الحدود السورية مع تركيا والأردن ولبنان وإلى حدّ ما مع العراق، وفي بعض الأحيان كان يتمّ تهريب الكنوز المسروقة إلى خارج سورية بالطائرات.
الصورة الأولى: يتمّ إطلاق حملة دوليّة لحماية إرثنا الثقافي العالمي بعهدة شعب الجمهورية العربية السورية.
فبالرغم من هذه الجرائم، شهدت الأسابيع القليلة الماضية تعاوناً ملحوظاً بين لبنان وسورية أدّى إلى إعادة مئات القطع الأثريّة السورية إلى البلاد. فعلى الطرقات السورية اللبنانية لا يفتّش الجنود عند الحواجز على المتفجّرات والأفراد المطلوبين والأسلحة فحسب، بل لديهم أوامر على الحدود السورية اللبنانية بالتفتيش عن أكثر من 4000 قطعة أثريّة سوريّة مسروقة. وقد تمّت إعادة بضع مئات من هذه القطع إلى سورية خلال العام الماضي، وبعضها قد تمّ عرضه من جديد في حديقة المتحف الوطني بدمشق حيث قمت بالتقاط الصور له.
ولكن لسوء الحظ، لم يكن ثمّة مساعدة تُذكر، ربما، في وقف تدفّق القطع الأثريّة السورية المسروقة إلى الأردن أو تركيا، البلدان اللذان تستمرّ حكومتاهما بالتعامي عن الأمر وتجاهل الواجبات الدولية لأسباب سياسية ومكاسب أخرى. ففي الأردن هناك مزاعم على نطاق واسع بأنّ حكومة الملك عبدالله تتغاضى عن شحن الآثار السورية المسروقة عبر عمليات تابعة لمافيات المخدّرات والآثار الإسرائيلية. وهذه المشاريع الإجرامية الدولية تنقل بعد ذلك الكنوز من المرافئ الإسرائيلية ومطار تلّ أبيب إلى الأسواق الدوليّة المربحة والمتاحف والمزادات أو هواة جمع هذه الأشياء لأنفسهم في نيويورك ولندن وسويسرا وألمانيا وإسبانيا وكلّ مكان. أمّا في ما يخصّ تركيا فإنّ مساحة 800 كلم على الحدود مع سورية مفتوحة لفرق التنقيب المرسلة لتجريد سورية من كنزها الأثري مع وجود اتهامات واسعة النطاق بتورّط الحكومة التركية بذلك.
الصورة الثانية: موظّفان من المديرية العامة للآثار والمتاحف وطالبان: خالد وإيام يشرحون لأحد زوّار متحف دمشق الوطني تفاصيل عن حوالى عشر قطع أثريّة سوريّة تمّت إستعادتها في آذار/مارس من العام الحالي بالتعاون الأخوي مع الحكومة اللبنانية.
الجزء السفليّ من شاهد الملك "آداد نيراري" الثالث موجود الآن في مزاد "بونهامز" حيث كان من المفترض بيعه في الثالث من نيسان/أبريل 2014، بالرغم من أنّ القطعة ظهرت للعلن عام 2000 في مزاد "كريستي". وهذان المزادان متنافسان إجمالاً، إلّا أنّهما باتا متعاونان بشكل متزايد بعد أن بدأ تدفّق القطع الأثرية السورية المسروقة التي باتت متوفّرة لهم ولزبائنهم. وكما غيرهما من المزادات، يلجأ هذان المزادان والمتاحف والتجار إلى خداع بعض الزبائن المحتملين والمتاحف الأخرى والحكومات ووكالات الشرطة. وأحد تكتيكاتهم هو التعتيم على المصدر الذي وفّر لهم هذه القطع السورية الأثرية.
والدليل على تاريخ إخراج شاهد الملك "أداد نيراري" الثالث ليس واهياً. فتقرير عالم الآثار "هرمزد رسّام" حول القرن التاسع عشر يؤكّد أنّه لم يكن قادراً على العثور عليه خلال تحقيقاته في العام 1879. وقد أضاف أنّ الجزء العلويّ الذي أرسله إلى المتحف البريطاني قد تمّت إزالته من منطقة "القبر المبجّل على رأس التلّة" من قبل سكّان القرية المحليّين كي لا يدنّس القبرَ وجود هذا الوثن. ورسّام، كما اتّضح فيما بعد، كان يعتقد أنّ الجزء السفلي من الشاهد الذي يصوّر تمثال الملك كان لا يزال مدفوناً في أعلى التلّة بالقرب من القبر، إلّا أنّ الرجل قد مات قبل أن يعود لينقّب عنه.
وتظهر إشعارات البيع في كلّ من مزاد "بونهامز" و "كريستي" أنّ الجزء السفليّ من التمثال كان بحوزة والد البائع في ستينيات القرن الماضي. إلّا أنّ هذا العرض كان تمثيلاً زائفاً من كلا المجلسين.
وفي مزاد "بونهامز" يُعزى مصدر التمثال إلى "ملكيةّ خاصّة من جنيف السويسرية كهديّة من والد لولده في ستينيات القرن الماضي". ولكن هذا زائف أيضاً، فأيّ المزادين لم يقدّم وثيقةً تؤكّد تاريخ الملكيّة. وفي الحقيقة، فإنّ التمثال لم يُذكر في أيّ نشرة قبل إدراجه في مزاد "كريستي" عام 2000. والنشرة التامّة بقلم "أ.ك. غرايسون" من المخطوطات الملكيّة للملك "أداد نيراري" الثالث قد ظهرت عام 1996 وكلّ ما قام به "غرايسون" كان إدراج الجزء العلوي من التمثال (الموجود في المتحف البريطاني). وهو لم يأت على ذكر الجزء السفلي. والمنشورات في هذه السلسلة تتضمّن جميع المنقوشات المعروفة عن كلّ ملك سوريّ.
وأنا أؤكّد أنّه لو رأى أحد العلماء التمثال قبل العام 1996 كان سيتمّ إدراجه في نشرة العام 1996. أضف إلى أنّه من المستبعد جدّاً أن لا يعلم العلماء بأمر نقش من هذا النوع بما أنّه معروف جداً حتى بين العامّة أنّ مالكي الأثار المنقوشة، وخصوصاً تلك التي تكون بهذا الحجم والقيمة، يسعون بشكل طبيعي لمعرفة آراء الخبراء بشأن ما يمتلكونه.
وإلى ذلك، فإنّ الدليل الثبوتي المادّي موجوج في تقرير صادر عن المدير الحالي للتنقيب في تلّ الشيخ حمد، الدكتور "هرتموت كوهين" من جامعة "فريي" في برلين. فالدكتور "كوهين" يدير دراسة وأعمال تنقيب في موقع تلّ الشيخ حمد بالتعاون مع المديرية العامة للآثار والمتاحف منذ العام 1978. وبحسب ما يقوله الدكتور فإنّ أعمال التنقيب التي قام بها في الموقع هي الوحيدة المرخّصة من قبل الحكومة السورية. وفي أيلول/سبتمبر من العام 1999 أرسل البروفيسور "كوهين" تقريراً للمديرية العامّة للآثار والمتاحف أشار فيه إلى أنّ أحداً مجهول الهويّة قام بالتنقيب بشكل غير شرعيّ على رأس التلّ بالقرب من القبر المبجّل ليل 14 أيلول/سبتمبر 1999. وقد زوّد البروفيسور تقريره بالصور عن حفرة السارق معتبراً أنّ الحفرة كانت عميقة بما فيه الكفاية لتتّسع للجزء السفليّ من التمثال. ويشير البروفيسور "كوهين" إلى أنّ البعثة الألمانية لم تكن تنقّب في التلّ عام 1999 وهي في الواقع لم تعمل هناك منذ العام 1988.
وأخيراً وليس آخراً، فإنّ موقع الحفرة العائدة للعام 1999 أعلى التلّ هو تماماً الذي كتب عنه العالم "رسّام" في القرن التاسع عشر مشيراً إلى مكان دفن الجزء السفلي فيه. وكان أوّل إعلان عن وجود التمثال، كما ذكرنا آنفاً، في مزاد "كريستي" عام 2000 أي بعد أقلّ من عام واحد على حادث الحفر في تلّ الشيخ حمد!
وأنا أشير إلى وجود قوانين سورية ودولية وبريطانية في الكتب، إن تمّ تطبيقها ستكون كافية لجعل الأمور أكثر شرعيّةً للمزادات في "بونهامز" و "كريستي" وغيرها الكثير. ويبدو أنّ محاميهم موافقون على ذلك. وكأنّ الملك الآشوريّ سينتقم من هؤلاء من داخل قبره أو حيثما كان هذه الأيّام متبّعاً التقاليد المحلّية في منطقة تلّ الشيخ حمد.
وقد تمّ رفع مستوى الوعي العام بالنسبة لهذه الجريمة ضدّ الآثار من قبل شعب سورية وحكومتها وآخرين، وقد أعقبت ذلك حملة دوليّة لتعبئة الرأي العام بهذا الشأن. وقد حثّت المديرية العامّة للآثار والمتاحف التابعة لوزارة الثقافة السوريّة زملاءها في وزارة الداخلية والدائرة الوطنيّة للأمن الجنائي والشرطة الدولية (الإنتربول) على "العمل من أجل إيقاف بيع القطعة وإعادتها إلى سورية". وكما نقلت نادين كنعان فإنّ معهد سعادة حضّر فيديو بعنوان "أوقفوا سرقة الآثار السورية وبيعها" حثّ فيه على "اتّخاذ جميع التدابير القانونية اللازمة لإعادة هذه القطعة الأثرية الهامّة إلى سورية عندما تسمح الظروف الأمنية". وقد كشف المعهد عن قراره رفع الصوت "لحماية آثار بلدنا وقصّة التاريخ الإنساني، وأيضاً على أساس احترام قوانين الأمم المتحدة ولمصلحة لبنان وسورية والعراق".
وباختصار، فإنّ تمثال الملك "آداد نيراري" الثالث النادر، المعروض حاليّاً في في مزاد "بونهامز" والذي يسعى الكثير من المتاحف والمستثمرين إلى شرائه، أصبح فجأة على لائحة الأشياء المعروضة للبيع "مسحوباً". ولم يسرّ ذلك بعض الحاضرين، أمّا مكتب "بونهامز" الإداري فسيعقد "استشارات" هذا الأسبوع في ضوء ردود الفعل المتوقعة عامّة ومن صحيفة التجارة. وكان مزاد "بونهامز" يتطلّع إلى دخل صافٍ بقيمة 1.3 مليون دولار إذا ما تمّت الصفقة.
إنّ حماية ذكرى الملك "آداد نيراري" الثالث وحفظ مكانته في الإرث الثقافي العالمي قد يبدو انتصاراً متواضعاً بالنسبة للمعاناة التي لا يمكن تصوّرها المفروضة يوميّاً على شعب الجمهورية العربية السورية الأبيّة. إلّا أنّ ما حصل لإيقاف بيع أحد المزادات قطعة أثريّة سوريّة مسروقة قد أصبح ممكناً للشعب السوري ولغيره من أصحاب النوايا الحسنة الذين يقدّرون بشدّة إرثنا الثقافي التاريخي. وإننا نأمل، مع زيادة الوعي العام العالمي حول هذا الأثر للصراع في سورية، ستدخل هذه القضيّة كتب القانون، وقد تؤدّي أيضاً إلى تطوّر الوضع القانوني وبالتالي إلى تطوّر هامّ نحو حماية إرثنا الثقافي التاريخي.
على أمل أن يحقّق السوريون الكثير من هذه الإنتصارات المماثلة بالتزامن مع طيّ هذا الفصل الموجع من مهد الحضارة هذا الذي فاق عمره عشرات آلاف السنين.
المصدر :
المنار/ زينب عبد الله
اكتب تعليق
كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة