بعد انتهاء الانتخابات البلدية في تركيا، انهالت اتصالات التهنئة من زعماء العالم على رئيس الحكومة رجب طيب أردوغان لانتصاره فيها، من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى الرئيس الإيراني حسن روحاني وزعماء آخرين. لكن أحداً لم ينتبه إلى أن رئيساً واحداً لم يتصل بأردوغان، وهو الرئيس الأميركي باراك أوباما. ليس هذا تفصيلا، وليس كما يظن بطولة من جانب أردوغان في مواجهة الغرب.

في أيار المقبل يكون قد مر على بدء مرحلة الافتراق بين أوباما وأردوغان ما يقارب السنة. في 13 أيار من العام الماضي زار أردوغان واشنطن والتقى أوباما، وكان الموضوع الأساسي الدعم التركي لتنظيم «القاعدة» في سوريا ودورها المسهل والحاضن لعناصر التنظيم بكل مسمياته. وكانت أميركا قد بدأت للتو مرحلة جديدة في النظرة إلى «القاعدة» في سوريا وغيرها، بعد الهجوم على القنصلية الأميركية في مدينة بنغازي الليبية ومقتل السفير الأميركي هناك، حيث باتت تدرك أن الحضور الكبير لـ«القاعدة» في سوريا ومشاركة مقاتلين من الغرب بهذا الحجم يشكل تهديدا كامنا في مجتمع لا تزال تسكنه هجمات 11 أيلول العام 2011.

غير أن أردوغان لم يستجب لطلب أوباما بوقف دعم «القاعدة»، حيث إنه يعتبرها سندا له في جهوده للتخلص من النظام السوري. لا يعني هذا أن الأميركيين لا يريدون رحيل الرئيس السوري بشار الأسد، لكن الوسيلة التي يجب اتباعها كانت موضع تباين مع أردوغان، حيث إن أنقرة تريد إسقاط الأسد بالوسيلة العسكرية، ولو بذرائع مفبركة، فيما واشنطن تحسب لردود الفعل وتداعيات ذلك على مجمل الأمن في المنطقة وأمن إسرائيل والخوف من ردات فعل المحور الذي يدعم سوريا.

منذ ذلك الحين والعلاقات التركية ـ الأميركية في مرحلة جمود، حيث انقطعت الاتصالات المباشرة بين أوباما وأردوغان بعدما باتت مضرب مثل في كثافة اللقاءات المباشرة، بل انقطعت الاتصالات الهاتفية أيضا. مرة واحدة خرق أردوغان ذلك في آب العام 2013 لمناقشة الوضع في سوريا، ومرة ثانية في 19 شباط الماضي عندما اتصل أوباما بأردوغان بعد الحملة الأردوغانية على الإدارة الأميركية.

خلال هذه الفترة اندلعت انتفاضة تقسيم - جيزي في حزيران العام 2013، ومن بعدها فضيحة الفساد في 17 كانون الأول 2013. وكان أردوغان يتهم علنا واشنطن بأنها تقف وراء الحادثتين، من خلال الداعية فتح الله غولين. بل هدد أردوغان، بعد ظهور فضيحة الفساد، بطرد السفير الأميركي في أنقرة فرنسيس ريكارديوني. الخلاف الأميركي - التركي حول سوريا عكسه ريكارديوني نفسه في حوار مع صحيفة «حرييت» أمس الأول عندما قال إن «واشنطن وأنقرة تقفان معا في الأهداف الإستراتيجية في سوريا لكنهما تختلفان جدا في طريقة المقاربة. الحدود التركية مع سوريا طويلة، ويمر عبرها المتطرفون، لذا يأتي مسؤولون أميركيون أمنيون من وقت إلى آخر». وأضاف ان «المتطرفين كانوا يعبرون إلى سوريا عبر تركيا، وقد لفتنا النظر إلى ذلك. وقضية عبور المقاتلين تحتاج إلى جهد دولي وليس فقط إلى جهد ثنائي».

وفي إشارة إلى الخلاف على التدخل العسكري، قال ريكارديوني، في موقف لافت، إن إدارته تعتقد أن الحكومة التركية لن تختلق الذرائع لكي تقحم الجيش التركي في الأزمـة السـورية بطريقـة غير ضرورية.

كلام ريكارديوني جاء بالتزامن مع ما نشره سايمور هيرش حول مسؤولية أردوغان شخصيا عن الهجوم الكيميائي في غوطة دمشق في 21 آب العام 2013، لكي يقحم أميركا في عمل عدواني على سوريا، وكاد ينجح في ذلك لولا التقارير الاستخباراتية البريطانية والأميركية التي نفت حينها ذلك، لكنها لم تنشر على الملأ.

لكن المثير أن يوجه هيرش أصابع الاتهامات إلى تركيا وأردوغان شخصيا، واستنادا إلى تقارير الاستخبارات الأميركية والبريطانية.

مقالة هيرش لم تمر مرور الكرام في تركيا. عشرات المقالات كتبت بهذا الخصوص، وكلها تركز على مغزى المصادر التي نقل عنها والمقربة من البيت الأبيض، ودلالات ذلك على الموقف الأميركي من سياسة تركيا بشأن سوريا، ومن كل سياسات أردوغان في معظم الملفات. ذلك أن تفاصيل لقاء أردوغان وأوباما، في 13 أيار الماضي، وكان معهما رئيس الاستخبارات التركية حقان فيدان ووزير الخارجية التركية احمد داود اوغلو كما وزير خارجية أميركا جون كيري ومستشار الأمن القومي، لا يمكن أن تخرج بهذا التفصيل، ولا سيما انتقاد أوباما لتركيا لدعمها «القاعدة»، لو لم يكن المصدر من داخل البيت الأبيض نفسه، وفيه رسالة أميركية واضحة إلى أردوغان في هذه اللحظة، بل فتح ملفاً له اسمه «مجزرة» الغوطة الكيميائية، وهي رسالة جوهرها أن أردوغان انتهى بالنسبة إلى الإدارة الأميركية، وليس عليه سوى أن يرحل.

اتهام أردوغان بالوقوف وراء «المجزرة» لاختلاق ذرائع للهجوم على الأسد يلتقي مع التسجيل الصوتي الذي بث عشية الانتخابات البلدية، ولم تنفه الحكومة التركية، ويتعلق باختلاق حادثة إطلاق صواريخ من سوريا على تركيا، لتبرير هجوم على سوريا بحجة حماية قبر سليمان شاه جد مؤسس الدولة العثمانية. وهذا يعني أن من ثوابت السياسة التركية فبركة الذرائع للعدوان على سوريا.

انتهت الانتخابات البلدية، لكن تقدم أردوغان فيها لا يعني تفويضه الاستمرار في دعم «القاعدة» والمجموعات الإرهابية، ولا القيام بمغامرات عسكرية في سوريا مثل دعم المسلحين المباشر كما حصل في كسب في ريف اللاذقية الشمالي. كذلك لا يعني أنه يستطيع طمس فضيحة الفساد التي لا يحسم صحة الاتهامات فيها أو كذبها انتصار انتخابي، بل تحقيق قضائي.

عدم اتصال أوباما بأردوغان وتهنئته ومقالة سيمور هيرش إشارتان قويتان على الصعوبات التي ستواجهها تركيا في ظل استمرار أردوغان رأسا للسلطة فيها، وعدم تأقلمه مع المتغيرات المختلفة هنا وهناك. وفي جميع الأحوال، فإن «روائح كريهة تفوح من القازان» الغربي الأميركي على حد تعبير صحيفة «راديكال» التركية.

  • فريق ماسة
  • 2014-04-08
  • 11356
  • من الأرشيف

تركيا وأسئلة المرحلة: لماذا لم يهنئ أوباما أردوغان؟

بعد انتهاء الانتخابات البلدية في تركيا، انهالت اتصالات التهنئة من زعماء العالم على رئيس الحكومة رجب طيب أردوغان لانتصاره فيها، من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى الرئيس الإيراني حسن روحاني وزعماء آخرين. لكن أحداً لم ينتبه إلى أن رئيساً واحداً لم يتصل بأردوغان، وهو الرئيس الأميركي باراك أوباما. ليس هذا تفصيلا، وليس كما يظن بطولة من جانب أردوغان في مواجهة الغرب. في أيار المقبل يكون قد مر على بدء مرحلة الافتراق بين أوباما وأردوغان ما يقارب السنة. في 13 أيار من العام الماضي زار أردوغان واشنطن والتقى أوباما، وكان الموضوع الأساسي الدعم التركي لتنظيم «القاعدة» في سوريا ودورها المسهل والحاضن لعناصر التنظيم بكل مسمياته. وكانت أميركا قد بدأت للتو مرحلة جديدة في النظرة إلى «القاعدة» في سوريا وغيرها، بعد الهجوم على القنصلية الأميركية في مدينة بنغازي الليبية ومقتل السفير الأميركي هناك، حيث باتت تدرك أن الحضور الكبير لـ«القاعدة» في سوريا ومشاركة مقاتلين من الغرب بهذا الحجم يشكل تهديدا كامنا في مجتمع لا تزال تسكنه هجمات 11 أيلول العام 2011. غير أن أردوغان لم يستجب لطلب أوباما بوقف دعم «القاعدة»، حيث إنه يعتبرها سندا له في جهوده للتخلص من النظام السوري. لا يعني هذا أن الأميركيين لا يريدون رحيل الرئيس السوري بشار الأسد، لكن الوسيلة التي يجب اتباعها كانت موضع تباين مع أردوغان، حيث إن أنقرة تريد إسقاط الأسد بالوسيلة العسكرية، ولو بذرائع مفبركة، فيما واشنطن تحسب لردود الفعل وتداعيات ذلك على مجمل الأمن في المنطقة وأمن إسرائيل والخوف من ردات فعل المحور الذي يدعم سوريا. منذ ذلك الحين والعلاقات التركية ـ الأميركية في مرحلة جمود، حيث انقطعت الاتصالات المباشرة بين أوباما وأردوغان بعدما باتت مضرب مثل في كثافة اللقاءات المباشرة، بل انقطعت الاتصالات الهاتفية أيضا. مرة واحدة خرق أردوغان ذلك في آب العام 2013 لمناقشة الوضع في سوريا، ومرة ثانية في 19 شباط الماضي عندما اتصل أوباما بأردوغان بعد الحملة الأردوغانية على الإدارة الأميركية. خلال هذه الفترة اندلعت انتفاضة تقسيم - جيزي في حزيران العام 2013، ومن بعدها فضيحة الفساد في 17 كانون الأول 2013. وكان أردوغان يتهم علنا واشنطن بأنها تقف وراء الحادثتين، من خلال الداعية فتح الله غولين. بل هدد أردوغان، بعد ظهور فضيحة الفساد، بطرد السفير الأميركي في أنقرة فرنسيس ريكارديوني. الخلاف الأميركي - التركي حول سوريا عكسه ريكارديوني نفسه في حوار مع صحيفة «حرييت» أمس الأول عندما قال إن «واشنطن وأنقرة تقفان معا في الأهداف الإستراتيجية في سوريا لكنهما تختلفان جدا في طريقة المقاربة. الحدود التركية مع سوريا طويلة، ويمر عبرها المتطرفون، لذا يأتي مسؤولون أميركيون أمنيون من وقت إلى آخر». وأضاف ان «المتطرفين كانوا يعبرون إلى سوريا عبر تركيا، وقد لفتنا النظر إلى ذلك. وقضية عبور المقاتلين تحتاج إلى جهد دولي وليس فقط إلى جهد ثنائي». وفي إشارة إلى الخلاف على التدخل العسكري، قال ريكارديوني، في موقف لافت، إن إدارته تعتقد أن الحكومة التركية لن تختلق الذرائع لكي تقحم الجيش التركي في الأزمـة السـورية بطريقـة غير ضرورية. كلام ريكارديوني جاء بالتزامن مع ما نشره سايمور هيرش حول مسؤولية أردوغان شخصيا عن الهجوم الكيميائي في غوطة دمشق في 21 آب العام 2013، لكي يقحم أميركا في عمل عدواني على سوريا، وكاد ينجح في ذلك لولا التقارير الاستخباراتية البريطانية والأميركية التي نفت حينها ذلك، لكنها لم تنشر على الملأ. لكن المثير أن يوجه هيرش أصابع الاتهامات إلى تركيا وأردوغان شخصيا، واستنادا إلى تقارير الاستخبارات الأميركية والبريطانية. مقالة هيرش لم تمر مرور الكرام في تركيا. عشرات المقالات كتبت بهذا الخصوص، وكلها تركز على مغزى المصادر التي نقل عنها والمقربة من البيت الأبيض، ودلالات ذلك على الموقف الأميركي من سياسة تركيا بشأن سوريا، ومن كل سياسات أردوغان في معظم الملفات. ذلك أن تفاصيل لقاء أردوغان وأوباما، في 13 أيار الماضي، وكان معهما رئيس الاستخبارات التركية حقان فيدان ووزير الخارجية التركية احمد داود اوغلو كما وزير خارجية أميركا جون كيري ومستشار الأمن القومي، لا يمكن أن تخرج بهذا التفصيل، ولا سيما انتقاد أوباما لتركيا لدعمها «القاعدة»، لو لم يكن المصدر من داخل البيت الأبيض نفسه، وفيه رسالة أميركية واضحة إلى أردوغان في هذه اللحظة، بل فتح ملفاً له اسمه «مجزرة» الغوطة الكيميائية، وهي رسالة جوهرها أن أردوغان انتهى بالنسبة إلى الإدارة الأميركية، وليس عليه سوى أن يرحل. اتهام أردوغان بالوقوف وراء «المجزرة» لاختلاق ذرائع للهجوم على الأسد يلتقي مع التسجيل الصوتي الذي بث عشية الانتخابات البلدية، ولم تنفه الحكومة التركية، ويتعلق باختلاق حادثة إطلاق صواريخ من سوريا على تركيا، لتبرير هجوم على سوريا بحجة حماية قبر سليمان شاه جد مؤسس الدولة العثمانية. وهذا يعني أن من ثوابت السياسة التركية فبركة الذرائع للعدوان على سوريا. انتهت الانتخابات البلدية، لكن تقدم أردوغان فيها لا يعني تفويضه الاستمرار في دعم «القاعدة» والمجموعات الإرهابية، ولا القيام بمغامرات عسكرية في سوريا مثل دعم المسلحين المباشر كما حصل في كسب في ريف اللاذقية الشمالي. كذلك لا يعني أنه يستطيع طمس فضيحة الفساد التي لا يحسم صحة الاتهامات فيها أو كذبها انتصار انتخابي، بل تحقيق قضائي. عدم اتصال أوباما بأردوغان وتهنئته ومقالة سيمور هيرش إشارتان قويتان على الصعوبات التي ستواجهها تركيا في ظل استمرار أردوغان رأسا للسلطة فيها، وعدم تأقلمه مع المتغيرات المختلفة هنا وهناك. وفي جميع الأحوال، فإن «روائح كريهة تفوح من القازان» الغربي الأميركي على حد تعبير صحيفة «راديكال» التركية.

المصدر : السفير / محمد نور الدين


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة