دليل ماسة
أكثر الروابط استخداما
لا مفاوضات في جنيف، ومحاولات لاستكشاف احتمالاتها لا أكثر ولا اقل. الحكوميون السوريون التسعة، جاؤوا إلى القاعة السادسة عشرة في مركز الأمم المتحدة ساعة ونصف الساعة، بعد "الائتلافيين" بنصف ساعة.
استمعوا إلى خطاب المبعوث الدولي والعربي إلى سوريا الإبراهيمي الذي سرب إلى الإعلام. تنابذوا، لم يتفقوا، رغم بعد المواعيد، على الخطوة الأولى التي تفضي إلى الكلام بينهما. "الائتلافيون" لا خلاص لديهم إلا بتشكيل "هيئة حاكمة انتقالية"، والحكوميون لم يبرحوا باب التفاوض، إلا إذا فتحت مصاريعه من وقف العنف. "الائتلافيون" جاؤوا بورقة من ألف صفحة، دونوا فيها كل ما جاءت به منظمات حقوق الإنسان من اختراقات حكومية سورية، ثم عادوا إلى طلب "الهيئة الانتقالية".
لؤي الصافي، لسان "الائتلافيين" تجاهل مجزرة معان في ريف حماه. المجازر كلها تسبب بها النظام وعنفه. لم يُدِن جريمةَ معان "إلا أن تكون من تجاوزات العصابات المسلحة" وهي أيضا صنيعة النظام، كما قال.
أما الإبراهيمي فتخلى عن طقس المؤتمر الصحافي المعتاد، بعد كل لقاء. "لم يكن يرغب بتفجير جنيف"، بحسب ديبلوماسي سوري "أو لأنه لم يكن لديه ما يقوله، خصوصا أن الطرفين يقولان كل ما يجري في اللقاءات للإعلاميين، ما يجعل الطبق الإبراهيمي باردا جدا" بحسب ديبلوماسي أممي.
الإبراهيمي أجرى محاولة إعلامية للاستنجاد بالروس والأميركيين لتزييت الآلة التفاوضية التي لم تقلع، في الجولة الأولى، والأرجح أن تبقى على حالها في الجولة الثانية. فبمجرد الإعلان عن وضع مقعدين إضافيين في قاعة المفاوضات المنتظرة يوم الجمعة المقبل، تنطلق إعلاميا الرهانات على قيام المدعوين، الأميركي والروسي، بتحقيق ما عجز عنه الإبراهيمي. وعلى الثنائي أن يبرهنا أن صاحبي إعادة السياسة إلى آلة النزاع السوري، جديان في الضغط على الوفدين لتسهيل مهمة الإبراهيمي في مهمته.
لكن مساعدة وزير الخارجية الأميركي ويندي شيرمان ونائب وزير الخارجية الروسي غينادي غاتيلوف، يعودان للمرة الأولى إلى جنيف، منذ أن انتهى احتفال مونترو، لمعاينة نقطة الصفر، التي لا تزال تراوح عندها المفاوضات إلى جانب الوفدين "الائتلافي" والحكومي السوريين والإبراهيمي. والإعلان، يعني القفز عما تبقى من أيام حتى ساعة الاجتماع، والإقرار أن لا شيء ممكن الحدوث ايجابيا، لإحياء العملية السياسية، قبل تدخل راعيي المبادرة.
ولكن غاتيلوف لا يجول في قصر الأمم المتحدة ليحضر اجتماع جنيف السوري، وهو ما ينبغي أن يعيد سقف التوقعات والأمل بتدخل روسي أو أميركي، إلى مستواه الأصلي المتواضع. فنائب وزير الخارجية الروسي يأتي اليوم إلى جنيف بناء على مواعيد مقررة مسبقا ولا علاقة لها مباشرة، بمحاولات الإبراهيمي، وقد جرى ترتيب الاجتماع الجمعة المقبل مع شيرمان، للاستفادة من حضوره، وإعطاء دفعة رمزية للمفاوضات، لا أكثر.
ولا يستفيد الإبراهيمي وحده من حضور الثنائي الأميركي - الروسي، غاتيلوف - شيرمان رمزيا. إذ يلتقي وزير الخارجية السوري وليد المعلم في فندقه غينادي غاتيلوف، قبل أي لقاء في قصر الأمم المتحدة للتنسيق بين الطرفين.
والراجح أن الإبراهيمي الذي كان يؤجل حتى الغد على الأقل، إعادة الوفدين إلى قاعة واحدة، مفضلا حتى الأمس، الفصل بين مواعيد لقائه بهما إلى حين إحراز تقدم ما في بحثه المضني عن نقطة واحدة مشتركة للانطلاق منها نحو المفاوضات، قد قرر استئناف المفاوضات المباشرة في قاعة واحدة وعند العاشرة من صباح اليوم لكلا الوفدين. ويبدو أن الأجواء التي يحاول إشاعتها من وجود صاحبي المبادرة، على مقربة من الوفدين الحكومي و"الائتلافي"، تصلح أيضا لتعزيز الاعتقاد أن الثنائي الروسي - الأميركي، قد بدأ بالاستجابة لطلباته بالمساعدة في حلحلة الأمور، قد تكون هي السبب في استعجال العودة إلى مفاوضات مباشرة.
ويبدو أن الإبراهيمي، الذي اخفق في فرض صمت إعلامي على أعضاء الوفدين خلال اللقاءات في جنيف، قد قرر أن يلحق بهما في التعاطي مع الإعلام، ومجاراتهما في استخدام الإعلام، للتعويض عن ثغرات سياسية كبيرة، علما أن لا أسرار كبيرة تحفل بها هذه الجلسات مقارنة بجلسات ديبلوماسية الفنادق. إذ تتواصل اتصالات "الائتلافيين" في "انتركونتيننتال" جنيف، بحلفائهم من أميركيين وفرنسيين وبريطانيين وخليجيين وأتراك، وفي مقدمتهم السفير الأميركي روبرت فورد، فيما لا يبخل الروس على الحكوميين بالمتابعة والدعم.
ويقينا أن تسريب الوثيقة التي ألقاها الإبراهيمي في اجتماع الأمس، على مسامع "الائتلافيين" والحكوميين قد تم بعلمه. ومرة ثانية يحاول الإبراهيمي، من دون توفر أي نقاط مشتركة بين الطرفين، القفز فوق الهوة السحيقة والواسعة التي تفصل رؤية الطرفين لجنيف، وفرض تشخيص لأولويات الطرفين، وشروطهما، من دون موافقتهما.
وذكرت الوثيقة المسربة إن الإبراهيمي قد خلص إلى عرض يجمع بين اشتراط "الائتلافيين" الدخول فورا إلى البحث بهيئة حاكمة انتقالية، أي تنظيم عملية نقل السلطة من النظام إلى المعارضة خلال أشهر وضمن روزنامة محددة، وبين اشتراط النظام البدء من نقطة في أعلى بيان جنيف، تنص على وقف العنف، تليها مجموعة من الأفكار، تستعيد خطة كوفي انان، ويحتاج تطبيقها استمهال "الائتلافيين" تسلم الحكم في سوريا، ريثما يتم تحييد السلاح والإرهاب، والتدخلات الإقليمية، وتبادل المعتقلين والمختطفين، وحل الميليشيات، ودمج أفرادها بالمجتمع، وهي رحلة سياسية ميدانية طويلة.
ويتلخص العرض الإبراهيمي بصياغة تقترب من المعارضة أكثر مما تقترب من طلب النظام. إذ يقول الإبراهيمي: "من الأهم، ولمن الأولوية: إنهاء العنف ومحاربة الإرهاب أو إقامة هيئة الحكم الانتقالية. لا شك أن أي تقدم نحو إنهاء العنف سيساعد على التوافق حول هيئة الحكم الانتقالية، ولا شك أن التقدم في تحقيق التفاهم اللازم حول هيئة الحكم الانتقالية سيساعد في التقليل من العنف ثم إنهائه، وكذلك التعاون في محاربة الإرهاب، ومن هنا أهمية التعامل مع الموضوعين بالتوازي".
إن وضع الاولويتين على سكة تنفيذ متوازية، يخدم في النهاية مطلب المعارضة لا الحكومة السورية. ويبدو عرض الإبراهيمي متوازنا في الظاهر فقط. إن التقدم في مسار وقف العنف، ومكافحة الإرهاب، مرتبط بعوامل إقليمية، وإرادة السعودية وتركيا وقطر، وكل الدول التي تمول وتسلح الجماعات "الجهادية"، والتي لا سلطة لـ"الائتلاف" عليها، والتي قد تكون بعض الجماعات قد خرجت عن نطاق سيطرتها، لا سيما تنظيم "الدولة الاسلامية في العراق والشام" (داعش) و"جبهة النصرة"، فضلا عن عدم وجود مؤشرات سعودية جدية عن التوجه لوقف الحرب في سوريا.
ويبدو المسار الحكومي الانتقالي اقرب منالا سياسيا، رغم تعقيداته المتمثلة، خصوصا باشتراط بيان "جنيف 1" التوافق المتبادل على تشكيل تلك الحكومة، وهو لغم سياسي كبير لا يمكن نزعه بإرادة إبراهيمية منفردة. ومع ذلك فان عوامل تنظيم هذه العملية، من تأليف وترشيح جاهزة نسبيا، إذ يملك الطرفان، إذا ما توفرت الإرادة السياسية لوائح بأسماء لتلك الهيئة. وتقول المعارضة السورية إنها تملك لائحة لن تعلن عنها بأسماء شخصيات حكومية سورية، لم تتلوث أيديها بالدماء، يمكنها أن تشارك في تلك الهيئة الانتقالية.
وكان الإبراهيمي قد ذهب في هذا الاتجاه، عندما طرح في اللقاء، الأسئلة عن آليات التشكيل وتوزيع الحقائب. وتساهم الصيغة المطروحة للهيئة الانتقالية في تعزيز التباس في فهم دورها الناشئ عن عبارة "الانتقالية"، وكأنها مجرد وعاء تتسلم فيه المعارضة السورية السلطة، فيما يتحدث النص في جنيف عن هيئة حاكمة انتقالية، تتسلم صلاحيات الرئاسة التنفيذية، وليس المعارضة، أو ليس المعارضة منفردة على الأقل.
ويبدو الإبراهيمي أكثر استعجالا من المعارضة نفسها بطرحه مسألة استمرارية مؤسسات الدولة والتغييرات المطلوبة فيها، وهي جزء من عملية جنيف، لكن الصيغة التي طرحها في خطابه أمس، أمام الوفدين، وأضافها مع المصالحة الوطنية إلى نقاط العمل التي ينبغي التفاوض عليها، هي تقديم بعبارة مختلفة للنص في بيان جنيف على إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية والجيش. وتحاول الصياغة تفادي طرح كل القضايا الخلافية الكبرى عارية وبطريق توفيقية، لتعزيز عناوين توازن في الظاهر فحسب بين الوفدين. ويضع الإبراهيمي القضايا الجوهرية دفعة واحدة على الطاولة، لكن دون حسبان لميزان القوى وللتغيرات التي طرأت على الأوضاع الميدانية في سوريا والمنطقة، والتي تجعل من النظام السوري أقوى من جنيف، واقل استعجالا لعقد صفقة سياسية.
ويقول مصدر سوري إن اللجوء إلى الروس لن يغير شيئا. فخلال اللقاءات التي عقدها الديبلوماسيون الروس مع المعلم بالأمس، ترشح تأكيدات عن تفاهم روسي - سوري واسع في جنيف، لا يترك محلا، في خاطر الديبلوماسي السوري، لأي تغيير في اجتماع الجمعة المقبل، أو أي ضغوط. الروس أكدوا للسوريين، كما قال المصدر، ان الإدارة الروسية ستواجه أي مشروع قرار في مجلس الأمن بالفيتو، وهو ما يعزز استمرار السوريين بالتمسك بموقفهم "خصوصا أن روسيا موافقة على كل ما نطرحه في جنيف".
وكان "الائتلافيون" قد عززوا واقعة التصلب الروسي. وقال احد أعضاء الوفد، الذي حضر اللقاءات في موسكو الأسبوع الماضي مع الروس، "بأنهم كانوا أسوأ من النظام السوري، وبان الأمور زادت تعقيدا بعد الزيارة". وقال المصدر إن الإبراهيمي استبق مبادرته في لقاء الوفد الحكومي، بعد عرض نقاطه الأربع، بالتخفيف من شأن تدابير الثقة، كما جاءت في بيان جنيف، أو كما طرحتها خطة كوفي انان ونقاطها الست.
وكان رئيس الوفد الحكومي بشار الجعفري قد رد بأن هذه النقاط هي في صلب العملية، وانه لا اجتهادات في جنيف كما ترى الحكومة السورية، وانه واضح، وينبغي البدء بالترتيب التسلسلي من نقطة وقف العنف.
المصدر :
محمد بلوط
اكتب تعليق
كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة