دليل ماسة
أكثر الروابط استخداما
في سبعينات القرن الماضي، حصلت على شهادتي البكالوريوس والماجستير في دراسات الشرق الأوسط الحديثة، وأستطيع أن أؤكد أنه لم يحدث في أي وقت من الأوقات أن صادفت قضايا مناخية أو بيئية في المناهج التي كنت أدرسها. أما اليوم، فلا يمكن للمرء أن يفهم الانتفاضات التي تشتعل في المنطقة العربية أو حتى الحلول التي يعرضونها للخروج من مشكلاتهم من دون أن يأخذ الضغوط البيئية والمناخية والسكانية في الاعتبار.
خلال الفترة الماضية، كنت ضيفا في أحد الأفلام الوثائقية التي تعدها إحدى قنوات شبكة «شوتايم» والذي سيجري عرضه في أبريل (نيسان) المقبل. وخلال ذلك الفيلم، كنت أعرض تحليلا يربط بين الجفاف الذي حدث في سوريا خلال الأعوام الماضية والثورة التي اشتعلت هناك في عام 2011. لكن باحثينا حصلوا بالصدفة على إحدى البرقيات المسربة على موقع ويكيليكس وتبشر المعلومات الواردة فيها على نحو مدهش كيف أن الضغوط البيئية ستؤدي إلى إشعال الثورة في سوريا. وقد أرسلت السفارة الأميركية في دمشق تلك البرقية إلى وزارة الخارجية الأميركية في الثامن من نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2008. وتعرض البرقية تفاصيل تشير إلى أنه في ظل الجفاف المدمر الذي أصاب سوريا من عام 2006 وحتى عام 2010، كان عبد الله بن يحيى، ممثل منظمة الأغذية والزراعة في سوريا، يسعى لطلب المساعدة من الأمم المتحدة وكذلك رغب في أن تشارك الولايات المتحدة في مساعدة سوريا على مواجهة تلك الموجة من الجفاف.
وإليكم بعض السطور المهمة التي وردت في تلك البرقية:
* «أطلق مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية استغاثة في التاسع والعشرين من سبتمبر (أيلول) يطلب فيها توفير 20.23 مليون دولار لمساعدة ما يُقدر بمليون نسمة من السوريين الذين تأثروا بشدة بموجة الجفاف التي ضربت البلاد والتي وصفتها الأمم المتحدة بأنها الأسوأ خلال الأربعة عقود الماضية».
* «يقترح يحيى أن تُستخدم الأموال - التي سيجري تجميعها بعد الاستغاثة - في توفير البذور والمساعدة الفنية لـ15 ألفا من صغار المزارعين في شمال شرقي سوريا في محاولة للحفاظ على النسيج الاجتماعي والاقتصادي للمجتمع الزراعي الريفي في تلك المنطقة. ويتنبأ يحيى أنه إذا فشلت جهود منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة، فستحدث هجرة جماعية من مناطق شمال شرقي سوريا، وهو ما يمكن أن يزيد الضغوط الاقتصادية والاجتماعية الموجودة بالفعل ويقوض الاستقرار في البلاد».
*«لا يعتقد يحيى أن حكومة بشار الأسد ستترك أي مواطن سوري يموت جوعا. لكن يحيى أخبرنا أن وزير الزراعة السوري أقر علنا أن التأثيرات الاقتصادية والاجتماعية الناتجة عن الجفاف (تفوق قدرات البلاد على التعامل معها). ويقول يحيى إن ما تحاول الأمم المتحدة مكافحته - من خلال الاستغاثة التي أطلقتها - هو (الانهيار الاجتماعي) المحتمل الذي سيصاحب تآكل النشاط الزراعي في المناطق الريفية السورية، حيث إن هذا الانهيار الاجتماعي سوف يؤدي إلى انعدام الاستقرار السياسي».
*«ويتوقع يحيى أنه من دون توفير المساعدة المباشرة، سيجد غالبية المزارعين الصغار - البالغ عددهم 15,000 نسمة - أنفسهم مجبرين على الرحيل عن محافظة الحسكة باتجاه المدن الكبرى في غرب سوريا، مضيفا أنهم سيخلفون وراءهم 100 ألف نسمة - من النساء والأطفال وكبار السن والعاجزين - يعيشون في فقر مدقع. ويحذر يحيى أنه من المحتمل أن يزيد معدل التسرب من المدارس، حيث سيسعى الأطفال المتسربون للبحث عن مصدر رزق لإعالة الأسر التي سيتركها المزارعون وراءهم. كما أن هجرة 15,000 من العاملين غير المدربين ستزيد الضغوط الاجتماعية والاقتصادية الموجودة بالفعل في المدن السورية الكبرى. ويشرح يحيى تلك النقطة بقوله إن النظام المثقل بأعباء عدد ضخم من اللاجئين العراقيين لن يكون بمقدوره استيعاب طوفان آخر من المشردين، لا سيما في هذا الوقت الذي يشهد ارتفاعا متزايدا في تكاليف المعيشة، وعدم رضا متزايدا بين صفوف الطبقة المتوسطة، بالإضافة إلى ضعف ملحوظ في النسيج الاجتماعي والمؤسسات الأمنية، وهو الأمر الذي بدأ السوريون يلاحظونه ويعتمدون عليه في بعض الأحيان».
لقد كانت تنبؤات يحيى صائبة في هذا الشأن. فبحلول عام 2010، أُجبر ما يقرب من مليون مزارع وراع سوري وعائلاتهم على ترك أراضيهم والهجرة إلى البلدات المزدحمة بالسكان بالفعل التي تفتقر إلى الكثير من الخدمات. وقد انضم هؤلاء المتضررون بسبب التغيرات المناخية إلى ما يقرب من مليون لاجئ حرب من العراق، وفشل نظام الأسد في توفير المساعدة الفاعلة لهم. ولذلك، عندما اندلعت شرارة الثورات العربية في تونس ومصر، انطلق دعاة الديمقراطية في سوريا ليحذوا حذو المصريين والتونسيين، ووجدوا استجابة كبيرة من كثير من أولئك الذين شردهم الجفاف.
غير أنه في المقابل ينبغي أن نضع الحقائق التالية نصب أعيننا: أولا، نقل موقع «تايمز أوف إسرائيل» الإخباري في التاسع من مايو (أيار) الماضي عن الجغرافي الإسرائيلي أرنون سوفر أنه لاحظ أن عدد سكان الشرق الأوسط قد تضاعف مرتين خلال الستين عاما الماضية، مشيرا إلى أنه «لا يوجد مثال مشابه لذلك في أي مكان على وجه الأرض».
ثانيا، نشرت مجلة علم المناخ الدولية دراسة في شهر مارس (آذار) الماضي بعنوان «التغيرات في درجات الحرارة الشديدة وتأثيرها على هطول الأمطار في المنطقة العربية». وتشير تلك الدراسة إلى أن «اتجاهات الاحترار الثابتة منذ منتصف القرن العشرين في المنطقة»، تظهر آثارها في «زيادة عدد الليالي الحارة وقلة عدد الأيام والليالي الباردة».
ثالثا، لم تستطع السلطات التعامل مع موجة الجفاف عندما كانت هناك حكومة سورية. فما بالنا إذا ضربت موجة جديدة من الجفاف الأراضي السورية في الوقت الحالي حيث دمرت الحرب الأهلية معظم البنية التحتية في البلاد.
رابعا وأخيرا، يتساءل جو روم، مؤسس موقع ClimateProgress.org، «من الذي سيمد يد المساعدة في المستقبل لدولة مثل سوريا عندما تدمرها موجة الجفاف التالية، بينما نعيش في عالم يظهر فيه كل فرد كما لو كان يتعامل مع الإعصار ساندي»، الذي كبد الولايات المتحدة 60 مليار دولار للتخلص من آثاره؟
لذلك، ما يمكنني قوله لكل تنظيم يحارب بالوكالة في سوريا، هو أنك تحارب من أجل السيطرة على منطقة من المحتمل أن تشهد كارثة إنسانية وبيئية في المستقبل. إنك تحتاج إلى العمل مع الآخر من أجل إعادة بناء المرونة السياسية للدولة السورية، وكذلك تشجيع القواسم المشتركة بين مكونات الشعب السوري، وليس العمل على تدمير سوريا. إنني أتمنى أن ما أقوله سيلقى آذانا صاغية.
* خدمة «نيويورك تايمز»
المصدر :
توماس فريدمان
اكتب تعليق
كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة