دليل ماسة
أكثر الروابط استخداما
استكمل وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو في ميونيخ ما كان بدأه في جنيف. كلمته في الجلسة الافتتاحية لمؤتمر "جنيف 2" حول الأزمة السورية قوبلت بانتقادات كثيرة بسبب حدتها في مؤتمر يسعى لحل الأزمة لا تصعيدها.
"العتاب" الذي قيل إنه سمعه من القيادة الايرانية اثناء مرافقته لرئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان لم يكن له أي أثر في تغيير رياح السياسة التركية في سوريا. فبعد أقل من عشرة أيام على جنيف ويومين فقط على مغادرته طهران كان داود اوغلو يقدم مطالعة ليس فيها ما يشي بأي تغيير في هذه السياسة، بل انه عاد بها الى مربعات سابقة تراهن مجدداً على خطوات من قبيل توجيه ضربة عسكرية إلى سوريا.
"الاستدارة" التركية منذ زيارة داود اوغلو الشهيرة لكربلاء في عاشوراء الماضية وارتدائه القميص الأسود وربطة العنق الخضراء كانت مجرد اوهام في عقول من ينتظرونها. واذا كان البعض يتصيد كلمة من هنا وجملة من هناك ترد على لسان مسؤول تركي هنا وآخر هناك، فهو مخطئ.
لقد قيل الكثير في الآونة الأخيرة عن مواقف مختلفة وجديدة للرئيس التركي عبد الله غول ودعوته إلى التعاون مع ايران لحل الأزمة السورية. ومع أن غول يتوزع الأدوار مع رفيقيه في الترويكا، اردوغان وداود اوغلو، فإنه ليس هو من يقرر السياسة الخارجية التركية وليس في الموقع الذي يملي التغيير في هذا الاتجاه أو ذاك.
وغول كان الشريك الكامل في كل سياسات تركيا السابقة تجاه سوريا ولم يكن عقبة، بل احد المحفزين على اتباع تلك السياسة الخرقاء التي اودت بتركيا الى فشل موصوف في الأزمة السورية. كما لم يقم بأي دور مختلف ليخفف من التدخل التركي في مصر، وكان من الذين انضموا الى اردوغان بوصف ثورة "30 يونيو" بالانقلاب، ولم يوفر النظام الجديد في مصر ولا سيما المشير عبد الفتاح السيسي من النقد الجارح.
لقد اعتبر غول في تصريح قبل يومين أن الغرب وإسرائيل فشلا في سوريا ويجب على الجميع ومنهم ايران، التعاون من أجل حل الأزمة. وفي الواقع، ان تحديد غول بالاسم للغرب وإسرائيل هو من قبيل الانتقام منهما بعدما اتهمهما أردوغان بمحاولة قلب الحكومة التركية تحت ذريعة قضية الفساد.
ولو كان كلام غول هذا يتصل فعلاً بالأزمة السورية، لكان عليه أن يضيف اسم تركيا وغير تركيا الى قائمة الذين فشلوا في سوريا، بل على رأس هؤلاء الفاشلين.
لقد قطع اردوغان شك بعض الواهمين باليقين عندما قال انه لم يتفق مع الايرانيين على المسألة السورية. كان واضحاً، ومع ذلك يسعى البعض لإشاعة خلاف ذلك.
وإذا كان من مترجم أمين لنيات اردوغان، فليس أفضل من داود اوغلو وكلمته في "مؤتمر الأمن" في ميونيخ. وهي كلمة، ولا شك، "مطالعة" في التحريض وتحريك الجمر الكامن تحت الرماد والعودة الى رهان ضرب النظام.
لقد كرر غول مقولة ان الرئيس السوري بشار الأسد هو الذي خلق الفراغ في سوريا وجلب لها البلاء، وان تنظيمات مثل "داعش" هي من نتاجه والتعاون معه. لكن كيف يمكن لـ"داعش"، وفقاً لداود اوغلو، أن تكون نتاج الأسد وهي التي تحارب حليف الأسد في العراق رئيس الحكومة العراقية نوري المالكي؟
وفي قراءة لا تحتاج لتكون بين السطور، يتجلى تحريض داود اوغلو للأمم المتحدة ومجلس الأمن على القيام بضربة لاحقة للنظام السوري تحت مسميات إنسانية. فهو يعود للمطالبة بقرار ملزم وتحت الفصل السابع من أجل مجرد إيصال مساعدات إنسانية للمناطق المحاصرة من قبل النظام. ولا ندري لماذا فقط للمناطق المحاصرة من قبل النظام وليس أيضاً المحاصرة من قبل المجموعات المسلحة المعارضة.
إن أوهام التخلص من النظام عن طريق القوة العسكرية لا تزال حامية في رؤوس المسؤولين الأتراك، وهم يتشجعون لذلك من قرار الكونغرس الأميركي تسليح المعارضة السورية بأسلحة متطورة إيذاناً باستمرار السعي لحل عسكري للأزمة السورية.
ويراهن داود اوغلو على مثل هذه الضربة لسوريا بتخويفه العالم من أن 95 في المئة من الأسلحة الكيميائية لا تزال في يد النظام، والذي يمكن أن يقتل بها مئات الآلاف من السوريين. هذا ما ورد حرفياً في كلمة داود اوغلو في ميونيخ، أي أن الخطر لا يتهدد فقط سوريا أو تركيا، يقول داود اوغلو، بل العالم كله والانسانية كلها.
وفي استكمال لحفلة التحريض هذه، يسأل داود أوغلو المشاركين في مؤتمر جنيف عن نتيجة المؤتمر، ويحمل النظام السوري الفشل لأنه لم يوافق على تشكيل حكومة انتقالية. ويعتبر بصورة غير مباشرة أن النظام يتلاعب بالدول المشاركة، داعياً إلى وقف حد لهذا بقوله "لماذا جنيف؟ ولماذا جئنا كلنا إلى جنيف؟ يجب أن نسأل أنفسنا هذا السؤال"، في تحريض مكشوف على إعادة التفكير بتوجيه ضربة عسكرية إلى النظام.
لا تزال تركيا تراهن على تبدل في الموقف الغربي انطلاقاً من فشل جنيف ومسألة السلاح الكيميائي وتسليح المعارضة بأسلحة متطورة وخلق ديناميات جديدة تعيد خلط الأوراق وتغيير موازين القوى. ولن يردع تركيا عن هذه الرهانات محاولات من هنا أو هناك لترطيب الموقف التركي أو شرائه باتفاقيات اقتصادية.
لا يمكن أن تختفي اللعبة ويبقى اللاعبون. لا يريد النظام في تركيا أن يعترف بهزيمته، وإذا كانت هزائمه المتحققة حتى الآن قد آلت بتركيا لتكون البلد الاكثر انعزالاً في المنطقة، وبالتالي الأقل تأثيراً، فإن "إقناع" تركيا بالتخلي عما تبقى لديها من أوهام، قد يحتاج إلى مزيد من الهزائم لا الرشى.
المصدر :
السفير /محمد نور الدين
اكتب تعليق
كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة