دليل ماسة
أكثر الروابط استخداما
ليس جديداً على دول العالم الثالث، كتركيا مثلاً، ان تحصل فيها عمليات فساد كبيرة، لأنّ الفساد في عالم اليوم بات منظومة عالمية، تبدو في مظهرها شهوة للحصول على المال السريع بلا جهد يُبذل، ولكنها في حقيقتها تسعى الى استخدام الفساد بهدف تحقيق اختراقات سياسية وأمنية في جسم كثير من البلدان والحكومات، لا بل في استخدام عمليات الفساد أوراق ابتزاز لأيّ حكومة تفكر في التمرد على أوامر القوى المهيمنة على العالم.
في التاريخ المعاصر، يلاحظ المراقبون كيف استخدم الفساد لتحطيم أمبراطوريات وأنظمة قوية بأقلّ الاثمان. وهذه كانت حال الاتحاد السوفياتي والدول الدائرة في فلكه، حيث شكّل الفساد المغطى دولياً أحد أسباب انهيار هذا المعسكر الكبير.
وفي أميركا اللاتينية أطاح الفساد كثيراً من الحكام. وفي البلدان العربية، حيث هناك أنظمة غارقة في الفساد، فإنّ المنظومة العالمية للفساد تشجّع الحكام على الغرق فيه، حتى اذا ما حان وقت رحيلهم رفعَت ورقة مكافحة الفساد في وجوههم. وهذا ما واجهه نظام الرئيس المخلوع حسني مبارك في مصر، وكذلك نظام الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي في تونس.
في تركيا اليوم انفجرت فضيحة فساد طاولت شظاياها وزراء وأبناء وزراء وضبّاط شرطة ومسؤولين أمنيين. لكنّ أحداً لا يستطيع أن يعزو انكشاف هذه الفضيحة الى الاسباب المعلنة، فالرجل المتهَم بتسريب المعلومات عنها والتي أدّت الى الاعتقالات والتوقيفات هو فتح الله غولان الداعية الإسلامي المحاضر في جامعة بنسلفانيا والوثيق الصِلة بالادارة الاميركية وأحد أبرز داعمي حزب "العدالة والتنمية" في الدورات الانتخابية الثلاث التي فاز بها هذا الحزب بغالبية برلمانية مريحة.
فهل اتخذ غولان موقفه التصادمي ضد رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان على خلفيات شخصية شَعر معها انّ الأخير قد "انتفَخ" كثيراً، وانه لم يعد ذلك السياسي المطيع لتوجيهاته؟ أم أن في الامر ما هو أخطر من ذلك، حيث يعتقد البعض انّ غولان ما كان ممكناً له ان يسرّب هذه المعلومات من دون إذن اميركي، خصوصاً انّ كثيراً منها قد مرّرته له دوائر استخبارية اميركية؟
ويستطرد العالمون بالشؤون التركية في تساؤلاتهم: هل تريد واشنطن ومعها غولان أن تسقط حكومة اردوغان لأسباب متعددة، أهمّها رغبة الادارة الاميركية في إرضاء حليفها السعودي المنزعج أصلاً من "أخونة" اردوغان وطموحاته الى أن يكون "خليفة المسلمين"؟
هنا يظن البعض انّ واشنطن المضطرة الى عقد اتفاق جنيف النووي مع ايران لأنها لا تريد الحرب، وفق ما يحذّرالرئيس باراك اوباما دائماً معارضي هذا الاتفاق، لا بدّ لها من استرضاء الرياض الغاضبة على هذا الاتفاق الذي أُبرم من وراء ظهرها.
ومن هنا يمكن أن يكون رأس اردوغان جائزة ترضية للرياض التي لا تخفي انزعاجها من دور "الاخوان المسلمين" في المنطقة، ومن دور اردوغان نفسه في حماية هؤلاء "الاخوان" والاعتماد عليهم ودعمهم، خصوصاً في مصر ضد حكم تعتبره الرياض حليفاً أساسياً لها.
ويعتقد العالمون في الشؤون التركية ايضاً انه قد يكون وراء هذا الغضب الاميركي من اردوغان، انكشاف فضيحة "الذهب مقابل النفط" التي عقدها رئيس الوزراء التركي مع الحكومة الايرانية في إطار مساعدتها على التفلّت من العقوبات الدولية المفروضة عليها.
فقد كشفت وسائل الاعلام التركية انّ ايران وافقت مع تركيا على ان تُصدّر لها نفطاً مقابل تسديد ثمنه بالليرة التركية بما يخرج هذه العملية من أيّ رقابة اميركية، سواء عبر المصارف، او عبر استخدام الدولار لشراء النفط. وقد وافقت ايران ايضاً على ان تضع أنقرة رصيد شراء النفط الايراني في حساب خاص بالليرة التركية، ثم يشتري الايرانيون الذهب من تركيا بالليرة التركية، فيصبح في إمكانهم ان يستعيدوا نفطهم ذهباً يمكنهم بَيعه في الاسواق العالمية من دون ان يكون لواشنطن او لمجلس الامن الدولي أيّ قدرة على مراقبة هذه العمليات ومنعها.
وقد اعتبرت الادارة الاميركية انّ الروح التجارية عند اردوغان قد غلبت التزاماته السياسية، فوجدت أنه لا بدّ من "تأديبه" عبر تفجير فضيحة في مستوى فضيحة الفساد التي انفجرت أخيراً. ولذلك، لا يستبعد كثيرون ان تكون هذه الفضيحة ومَن يقف وراءها بمثابة رفع الغطاء عن اردوغان، ما يتيح بالتالي لمعارضيه التحرّك في الشارع بعد ان انكشف فساد حكومته التي كانت تعتزّ بشفافيتها ونزاهتها وابتعادها عن ألاعيب الفساد التي طالما شوّهت السياسة التركية.
فهل تركيا والمنطقة أمام مشهد يخرج منه اردوغان ليتقدم رئيس الجمهورية الحالي عبدالله غول الذي التزم الصمت طوال السنوات الثلاث الماضية، واذا تكلّم فبلغة مختلفة عن لغة اردوغان ووزير خارجيته احمد داود اوغلو؟ أم اننا أمام مشهد يخرج فيه حزب "العدالة والتنمية" من السلطة في تركيا ومن دون انقلاب هذه المرة؟
في هذا السياق يلفت العالمون بشؤون تركيا الى انّ الانتخابات الرئاسية والتشريعية التركية باتت على الابواب، وأن تأثير غولان هو تأثير حاسم في سحب البساط من تحت أقدام حزب "العدالة والتنمية" عبر الإيعاز للملايين من انصاره لكي لا ينتخبوا أردوغان وحزبه، وان ينفتحوا على معارضيه من قوميين وعلمانيين ويساريين، ومن علويين واكراد، فيدفع اردوغان ثمن سلسلة الاخطاء والخطايا التي وقع فيها، سواء إزاء الاحداث في سوريا، أو في مصر، أو في غيرهما.
على انّ انكفاء إسلاميي تركيا عن الدور القيادي الذي يلعبونه اليوم فيه مصلحة لروسيا الشديدة الحذر من تعاطف الحكومة التركية مع المتمردين الإسلاميين في الشيشان والقوقاز وغيرهما. أمّا ادارة اوباما فهي أكثر خوفاً من انتشار هذه الظاهرة التي تُعتبر تركيا قاعدة رئيسية لها، وليس من قبيل المصادفات ابداً أن تدعو واشنطن أمس كل الدول والجهات المعنية الى انّ التوقّف عن دعمها للمنظمات الاسلامية المتشددة، ولا سيما منها "جبهة النصرة" و"داعش" اللتين شكّلت حكومة اردوغان سنداً كبيراً لهما وممراً لرجالهما وسلاحهما.
فهل ستظهر انعكاسات هذه الفضيحة على مستوى السياسات التركية في المنطقة؟ وهل سيتراجع اردوغان عن سياسات بات ثمنها فادحاً على بلاده وحزبه؟
المصدر :
طارق ترشيشي - الجمهورية
اكتب تعليق
كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة