قد يكون زعيم «جبهة النصرة» أبو محمد الجولاني أفلت من يديه أهم فرصة تتاح له لإحداث اختراق إعلامي حقيقي وإيصال الرسالة التي يريد، سواء إلى أنصاره أو أعدائه. ففي ظهوره «اللاظهوري» على قناة «الجزيرة»، ترك اعتبارات الغموض والسرية تتغلب على اعتبارات التواصل المباشر، فبقي على إصراره بعدم الكشف عن هويته الحقيقية.

ونقول اعتبارات السرية وليس الأمنية، لأنه من المرجح جداً أن أجهزة الأمن في عدة بلدان أصبحت على علم ودراية بهوية الجولاني واسمه وصورته، فلا يفيده تجاه هذه الأجهزة أن يتخفّى عن الكاميرا في اللحظة التي قرر فيها أن يخرج إلى الإعلام ليطرح مشروعه ومواقفه أمام الرأي العام.

هذه الرسالة الضمنية غطّت على كل الرسائل التي أراد الجولاني إرسالها إلى مختلف الاتجاهات، فكيف لرجل يخفي وجهه وهويته مخافة أجهزة الأمن، أو أجهزة منافسيه من التنظيمات «الجهادية» الأخرى، أن يطلب من الرأي العام تصديقه وأخذ كلامه على محمل الجد؟ ناهيك عن أن الجولاني يعرف أن هويته قد فضحت منذ أشهر عديدة، وأنه أصبح معروفاً لدى أجهزة الأمن، كما أنه معروف سابقاً من التنظيمات المنافسة «اللدودة»، فهذا لا يعني سوى شيء واحد، أنه يخفي هويته عن الناس فقط، أي عن الرأي العام الذي خرج لمخاطبته وطرح مشروعه عليه.

إضافة إلى أن كثيرين ممن سمعوا الجولاني وهو يتحدث تبادر إلى أذهانهم التعبير الذي يستخدمه «مفتي جيش الإسلام» أبو عبد الرحمن الكعكي في انتقاده للجولاني. فالكعكي في إحدى خطبه وصف الجولاني بأنه «شاب متمايع يرتدي الجينز»، وبالفعل بدا الجولاني صغيراً في السن ـ هو تقريباً في الأربعين من عمره ــ ليس لديه الخبرة والحنكة الكافية لصياغة خطاب واضح من دون الوقوع في فخ التناقضات العديدة، وأهم هذه التناقضات تركيزه على عدم الغلو في التكفير، ثم تبيان أنه يكفر طوائف برمتها، إسلامية ومسيحية، من خلال توصيفه أن الصراع هو صراع «طائفي فطري»، كما يكفر جزءاً كبيراً من الطائفة السنية كما سيتبين.

فلم يكن إصرار الجولاني على إخفاء هويته، هو الإخفاق الوحيد الذي وقع به في مقابلته الأولى على «الجزيرة»، فهو أيضاً عجز عن تحقيق اختراق نوعي على مستوى الخطاب، فظل يدور في نفس الخطاب المكرر لجماعة تنظيم «القاعدة» ومن يدور في فلكهم، لاسيما تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» (داعش)، فلم يأت الجولاني بأي جديد، بل أعاد على أسماعنا طرح نفس الأفكار والمواقف التي كنا نسمعها منه قبل وبعد خلافه مع «داعش»، كما لا نزال نسمعها حتى الآن من المتحدث باسم «داعش» أبي محمد العدناني، وهذا يدحض جميع المقولات التي خرجت للقول بأن تنظيم «القاعدة» أجرى مراجعات فقهية وشرعية، وأنه يحاول أن يصبح أكثر اعتدالاً. والحقيقة أن ما قامت به «القاعدة» هو إعادة صياغة نفس الخطاب بأسلوب جديد، من دون أي تغيير في الجوهر.

وليست مفارقة أن يكون العدناني قد ركّز في تسجيله الصوتي الأخير (منذ حوالي أربعة أشهر) على نفس الأفكار التي حاول الجولاني إبرازها في حواره مع تيسير علوني، فالعدناني رفض الغلو في التكفير ورفض اتهام جماعته بأنها تنهج نهج «الخوارج»، كما أكد أن «الدولة الإسلامية» لا يسعى للانفراد بالحكم، فهي أفكار واحدة ومواقف واحدة، لا فرق بينها، سوى أن الجولاني أتيحت له فرصة التبشير بها من على منبر «الجزيرة»، بينما ظل العدناني حبيس التسجيلات الصوتية والمنتديات «الجهادية» ضيقة الانتشار.

وكأنّ الجولاني لا تكفيه الإخفاقات التي رافقت ظهوره الإعلامي الأول، فجاءت الاعترافات التي بثّها التلفزيون السوري لمجموعة من «أمراء وقادة جبهة النصرة» الضالعين باغتيال الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي، لتوجه له صفعة أخرى ربما من شأنها القضاء على بعض الإيجابيات التي استطاع تحقيقها من المقابلة.

فالجولاني الذي ركّز في حواره على نقطة أن «النصرة» تنظر إلى عموم أهل الشام على أنهم «مسلمون»، تبيّن أن تنظيمه هو من يقف وراء مقتل أكبر عالم دين أمسك لعقود طويلة بنواصي الفقه ومنابر الخطابة واعتلى من دون منازع عرش المشيخة في الشام كلها، فهل البوطي ليس من مسلمي عموم أهل الشام بحسب الجولاني؟ وإذا كان مسلماً فكيف أمر الجولاني باغتياله وهو يعطي دروسه الدينية في أحد بيوت الله في قلب الشام؟ أما إذا لم يكن البوطي مسلماً، ما أجاز للجولاني وشرعييه أن يفتوا بحل قتله في مسجد الإيمان، فمن هو المسلم إذاً في سورية الذي يمكن ألا تطاله فتاوى القتل والاغتيال الصادرة عن الجولاني وهيئاته الشرعية ومفتيه، الأردنيين أو العراقيين أو السعوديين؟.

قد يقول قائل أنه تبين أن معظم المتورطين في عملية اغتيال البوطي انشقوا عن «النصرة» وانضموا إلى «داعش» بعد الخلاف بينهما في نيسان الماضي، أي بعد أقل من شهر على تنفيذ عملية الاغتيال. وهذا صحيح، ولكن لحظة التخطيط للعملية وتنفيذها واتخاذ القرار بها كان جميع المتورطين باغتيال البوطي تحت إمرة الجولاني، بمن فيهم أبو سمير الأردني الذي أظهرت التحقيقات ـ بحسب التلفزيون السوري - أنه هو من اتخذ القرار الأخير بتنفيذ العملية. فأبو سمير الأردني ما زال إلى الآن «الأمير العسكري العام لجبهة النصرة» ولم ينشق عنها كما لم ينضم إلى «داعش»، ولا شك أن بقاءه في منصبه دليل على أن الجولاني كان راضياً عن قرار اغتيال البوطي.

  • فريق ماسة
  • 2013-12-22
  • 11248
  • من الأرشيف

الجولاني واغتيال البوطي: نكسة الظهور الإعلامي

قد يكون زعيم «جبهة النصرة» أبو محمد الجولاني أفلت من يديه أهم فرصة تتاح له لإحداث اختراق إعلامي حقيقي وإيصال الرسالة التي يريد، سواء إلى أنصاره أو أعدائه. ففي ظهوره «اللاظهوري» على قناة «الجزيرة»، ترك اعتبارات الغموض والسرية تتغلب على اعتبارات التواصل المباشر، فبقي على إصراره بعدم الكشف عن هويته الحقيقية. ونقول اعتبارات السرية وليس الأمنية، لأنه من المرجح جداً أن أجهزة الأمن في عدة بلدان أصبحت على علم ودراية بهوية الجولاني واسمه وصورته، فلا يفيده تجاه هذه الأجهزة أن يتخفّى عن الكاميرا في اللحظة التي قرر فيها أن يخرج إلى الإعلام ليطرح مشروعه ومواقفه أمام الرأي العام. هذه الرسالة الضمنية غطّت على كل الرسائل التي أراد الجولاني إرسالها إلى مختلف الاتجاهات، فكيف لرجل يخفي وجهه وهويته مخافة أجهزة الأمن، أو أجهزة منافسيه من التنظيمات «الجهادية» الأخرى، أن يطلب من الرأي العام تصديقه وأخذ كلامه على محمل الجد؟ ناهيك عن أن الجولاني يعرف أن هويته قد فضحت منذ أشهر عديدة، وأنه أصبح معروفاً لدى أجهزة الأمن، كما أنه معروف سابقاً من التنظيمات المنافسة «اللدودة»، فهذا لا يعني سوى شيء واحد، أنه يخفي هويته عن الناس فقط، أي عن الرأي العام الذي خرج لمخاطبته وطرح مشروعه عليه. إضافة إلى أن كثيرين ممن سمعوا الجولاني وهو يتحدث تبادر إلى أذهانهم التعبير الذي يستخدمه «مفتي جيش الإسلام» أبو عبد الرحمن الكعكي في انتقاده للجولاني. فالكعكي في إحدى خطبه وصف الجولاني بأنه «شاب متمايع يرتدي الجينز»، وبالفعل بدا الجولاني صغيراً في السن ـ هو تقريباً في الأربعين من عمره ــ ليس لديه الخبرة والحنكة الكافية لصياغة خطاب واضح من دون الوقوع في فخ التناقضات العديدة، وأهم هذه التناقضات تركيزه على عدم الغلو في التكفير، ثم تبيان أنه يكفر طوائف برمتها، إسلامية ومسيحية، من خلال توصيفه أن الصراع هو صراع «طائفي فطري»، كما يكفر جزءاً كبيراً من الطائفة السنية كما سيتبين. فلم يكن إصرار الجولاني على إخفاء هويته، هو الإخفاق الوحيد الذي وقع به في مقابلته الأولى على «الجزيرة»، فهو أيضاً عجز عن تحقيق اختراق نوعي على مستوى الخطاب، فظل يدور في نفس الخطاب المكرر لجماعة تنظيم «القاعدة» ومن يدور في فلكهم، لاسيما تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» (داعش)، فلم يأت الجولاني بأي جديد، بل أعاد على أسماعنا طرح نفس الأفكار والمواقف التي كنا نسمعها منه قبل وبعد خلافه مع «داعش»، كما لا نزال نسمعها حتى الآن من المتحدث باسم «داعش» أبي محمد العدناني، وهذا يدحض جميع المقولات التي خرجت للقول بأن تنظيم «القاعدة» أجرى مراجعات فقهية وشرعية، وأنه يحاول أن يصبح أكثر اعتدالاً. والحقيقة أن ما قامت به «القاعدة» هو إعادة صياغة نفس الخطاب بأسلوب جديد، من دون أي تغيير في الجوهر. وليست مفارقة أن يكون العدناني قد ركّز في تسجيله الصوتي الأخير (منذ حوالي أربعة أشهر) على نفس الأفكار التي حاول الجولاني إبرازها في حواره مع تيسير علوني، فالعدناني رفض الغلو في التكفير ورفض اتهام جماعته بأنها تنهج نهج «الخوارج»، كما أكد أن «الدولة الإسلامية» لا يسعى للانفراد بالحكم، فهي أفكار واحدة ومواقف واحدة، لا فرق بينها، سوى أن الجولاني أتيحت له فرصة التبشير بها من على منبر «الجزيرة»، بينما ظل العدناني حبيس التسجيلات الصوتية والمنتديات «الجهادية» ضيقة الانتشار. وكأنّ الجولاني لا تكفيه الإخفاقات التي رافقت ظهوره الإعلامي الأول، فجاءت الاعترافات التي بثّها التلفزيون السوري لمجموعة من «أمراء وقادة جبهة النصرة» الضالعين باغتيال الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي، لتوجه له صفعة أخرى ربما من شأنها القضاء على بعض الإيجابيات التي استطاع تحقيقها من المقابلة. فالجولاني الذي ركّز في حواره على نقطة أن «النصرة» تنظر إلى عموم أهل الشام على أنهم «مسلمون»، تبيّن أن تنظيمه هو من يقف وراء مقتل أكبر عالم دين أمسك لعقود طويلة بنواصي الفقه ومنابر الخطابة واعتلى من دون منازع عرش المشيخة في الشام كلها، فهل البوطي ليس من مسلمي عموم أهل الشام بحسب الجولاني؟ وإذا كان مسلماً فكيف أمر الجولاني باغتياله وهو يعطي دروسه الدينية في أحد بيوت الله في قلب الشام؟ أما إذا لم يكن البوطي مسلماً، ما أجاز للجولاني وشرعييه أن يفتوا بحل قتله في مسجد الإيمان، فمن هو المسلم إذاً في سورية الذي يمكن ألا تطاله فتاوى القتل والاغتيال الصادرة عن الجولاني وهيئاته الشرعية ومفتيه، الأردنيين أو العراقيين أو السعوديين؟. قد يقول قائل أنه تبين أن معظم المتورطين في عملية اغتيال البوطي انشقوا عن «النصرة» وانضموا إلى «داعش» بعد الخلاف بينهما في نيسان الماضي، أي بعد أقل من شهر على تنفيذ عملية الاغتيال. وهذا صحيح، ولكن لحظة التخطيط للعملية وتنفيذها واتخاذ القرار بها كان جميع المتورطين باغتيال البوطي تحت إمرة الجولاني، بمن فيهم أبو سمير الأردني الذي أظهرت التحقيقات ـ بحسب التلفزيون السوري - أنه هو من اتخذ القرار الأخير بتنفيذ العملية. فأبو سمير الأردني ما زال إلى الآن «الأمير العسكري العام لجبهة النصرة» ولم ينشق عنها كما لم ينضم إلى «داعش»، ولا شك أن بقاءه في منصبه دليل على أن الجولاني كان راضياً عن قرار اغتيال البوطي.

المصدر : السفير/ عبد الله علي


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة