بعد المعطيات التي أوردتها وكالة رويترز استناداً الى مصادر دبلوماسية غربية وأخرى في الائتلاف السوري المعارض بشأن تخلي واشنطن عن خططها لمطالبة الرئيس السوري بشار الأسد بالتنحي على اعتبار انه “لا يمكن السماح بإبعاد الأسد الآن لأن ذلك سيؤدي الى فوضى وسيطرة المتشددين…” ،

 ثمة كلام عن إعادة خلط للأوراق من شأنها ان تؤثر على مسار جنيف-2 وعلى الواقع الميداني. البعض يقول إن الموقف الاميركي لن يغير في الأمر شيئاً كثيراً ما دام ان واشنطن لم تستطع ان تنجح في عملية تغيير النظام او أن تكون لها اليد العليا في ما يجري في سوريا. لكن آخرين يرون ان الموقف الامركي ينطوي على أهمية خاصة، لأنه يؤثر على “الحلفاء” الذين لن يكون في مقدورهم ان يغردوا بعيدا عن سربها لوقت طويل، وهم يحتاجون الى الثقل الأميركي للمضي في محاولة تشكيل مستقبل سوريا السياسي على الصورة التي يريدون، إن استطاعوا.

لم يكن الموقف الأميركي مفاجئاً. فمنذ إلغاء الهجوم العسكري الأميركي على سوريا في شهر ايلول/ سبتمبر الماضي، كان واضحاً ان التقديرات في واشنطن بشأن موازين الوضع في سوريا اختلفت، لأسباب عدة:

1- الجيش السوري بات في موقع أفضل في مواجهة الجماعات المسلحة وهو حقق إنجازات عسكرية في انحاء عدة من ريف دمشق وحمص وحلب، وتلاشت ظاهرة الإنشقاقات في صفوفه.

2- حلفاء سوريا أظهروا صموداً أمام مختلف ألوان الضغوط طوال اكثر من ثلاثين شهراً لحملهم على تغيير موقفهم، ولديهم حجج قوية في موقفهم المعارض لأي تغيير بالقوة يمثل في نظرهم انقلاباً مسلحاً متعدد الأطراف والغايات. والأحداث تُظهر بالفعل تنامي التطرف والإرهاب في سوريا وعبرها الى دول مجاورة. ولم يعد العراق ولبنان وحيدين في الشكوى من ارتداد الوضع الأمني في سوريا عليهما، بل إن الأردن الذي يملك صوتاً مسموعاً لدى واشنطن يتحدث في الخفاء أكثر من العلن عن عدم قدرته لوقت إضافي على تحمل تداعيات ما يجري في سوريا على أمنه. وسبق أن حذر الملك عبدالله الثاني من ان التدخل العسكري يعقـّد الوضع ويزيد من مخاطر الانفلات الأمني الشامل في المنطقة، وأكد أن لا بديل من الحل السياسي للأزمة. كما ان تركيا تقترب من خط الوسط لاعتبارات تتعلق بتلمّسها الأخطار التي يمثلها وجود تنظيم القاعدة على حدودها، خاصة في ضوء ما يقال عن تورط العديد من المواطنين الأتراك في القتال الى جانب جماعات متشددة في سوريا، اضافة الى إعادة أنقرة تقييم أضرار سياستها الخارجية في العامين الماضيين وانشغالها بهمومها الداخلية على أبواب الانتخابات الرئاسية العام المقبل. على ان تركيا لا تزال تلعب لعبة مزدوجة تتمثل في فتح باب المساندة لجماعات مثل “الجبهة الاسلامية”، على ما نقلت “رويترز” هذا الاسبوع عن معارضين ذكروا ان السلطات التركية سمحت بإدخال شحنة أسلحة الى “الجبهة الاسلامية” التي كانت قد استولت مؤخراً على معبر باب الهوى الحدودي ومستودعات أسلحة رئيسية تابعة للجيش الحر. فضلاً عن ذلك، يرتفع منسوب الهواجس لدى الدول الغربية من تحول سوريا الى ساحة جاذبة للمتطرفين في مشهد يستعيد صورة أفغانستان في الثمانينيات، حيث تكوّن مناخ ملائم لولادة تنظيم القاعدة ومن بعده حركة طالبان، وهو أمر يعيد إنعاش تنظيم القاعدة بشكل لم يسبق له مثيل منذ الاعلان الأميركي عن “الانتصار على الارهاب” عقب تصفية أسامة بن لادن عام 2011.

3- جماعات المعارضة ليست مؤهلة لتسلم الحكم، على الأقل في المرحلة الحالية. فإضافة الى استعجالها “تقاسم جلد الدب قبل اصطياده”، كما يعبر وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، تنخرط المعارضة/المعارضات على نحو متزايد في سجالات واشتباكات حول مناطق النفوذ، ما يثير الريبة في سلوكها مستقبلاً لو قيض لها تسلم الحكم. ويبدو مشهد ليبيا أفضل نسبياً مما يحدث في سوريا عى هذا الصعيد. فالفصائل التي قاتلت نظام القذافي في ليبيا أرجأت على الأقل خلافاتها ومعاركها الخاصة الى ما بعد سقوط النظام، أما الجماعات المسلحة في سوريا فهي أكثر تشتتاً وانشغالاً بالإنشقاقات وحفلات التخوين والتكفير العلنية. كما لم تـُظهر تلك الجماعات أدنى قدر من التسامح حيال من يختلف معها في الرأي او من يقف في المنطقة الرمادية من الصراع، فالكل متهمون بأنهم “شبيحة” و”عواينية”(أعوان للنظام)، ما يعني صدور فرمان تلقائي بتصفيتهم من دون الحاجة الى محاكمة أو بحرمانهم من أبسط حقوقهم.

4- بعد انكسار شوكة المشروع الاميركي في المنطقة خلال عقد مضى، بات الأميركي أقرب الى الاقتناع بضرورة إشراك قوى أخرى في إدارة الصراعات الاقليمية. وبدلاً من المناكفات الأميركية – الروسية، حلّ نوع من التفاهم والتعاون في شأن الملف السوري، برغم الاختلاف على بعض الأهداف والتكتيكات. وقد اتفق الجانبان على إعطاء أولوية لمكافحة تنظيم القاعدة وحلفائه وعدم البت الآن في موضوع المستقبل السياسي للرئيس السوري. ومن اللافت ان يقول لافروف مثلاً ان “الأمر لا يقتصر على الاجتماعات الخاصة، بل يحدث هذا أيضا في تصريحات علنية، الفكرة تخطر على أذهان بعض الزملاء الغربيين ان بقاء الاسد في منصبه أقل خطرا على سوريا من استيلاء الإرهابيين على البلاد”

كما إن واشنطن تخلت عن اعتراضها القاطع على دعوة ايران الى المشاركة في جنيف 2، منحّية الى الخلف شرطاً مسبقاً وهو الاعتراف بمقررات جنيف 1 التي تدعو الى حكومة انتقالية كاملة الصلاحيات بما ينزع السلطة عملياً من الرئيس الأسد. لكن لزوم استيعاب الموقف السعودي يفرض استبعاد حضور ايران للمؤتمر بنسخته الثانية، اذ قال مسؤول أمريكي رفيع المستوى بحسب ما نقلت وكالات أنباء إن “من الصعب تصور” حضور إيران محادثات السلام الخاصة بسوريا في جولتها المقبلة، وإن المحادثات ستستمر مع الوسيط الدولي الاخضر الابراهيمي ودول أخرى بشأن مشاركة إيران، مضيفا ان “هناك الكثير من الطرق التي يمكن أن تشارك بها طهران، وهذه مجرد بداية العملية”، تاركاً الباب مفتوحاً بهذا الشأن.

المجازفة السعودية

على ان أحد التحديات المرحلية التي تواجه واشنطن يتمثل في كيفية الاحتفاظ بولاء بعض الحلفاء وإبقاء الرياض الى جانبها في أثناء البحث عن حل او تسوية للأزمة السورية. فالجانب السعودي يشعر بخيبة أمل بعدما ذهب بعيداً وأحرق كل الجسور خلف مشروع إسقاط النظام في سوريا، معتمداً على أن الأميركي جرّد الرئيس الأسد من شرعيته بعد وقت قليل من اندلاع الأزمة. لم يعد المسؤولون السعوديون يتصورون بقاء النظام في سوريا، حتى لو كانت الأمور على أرض الواقع تفيد بأن المعارضة غير جاهزة لتحمل المسؤولية، وحتى لو كان هذا الموقف يعني تفاقم المعاناة الانسانية للشعب السوري في أمنه وغذائه وسلامته الصحية ومستقبله على كل صعيد.

مشروع إسقاط النظام سقط، والغرب يعيد التفكير في عواقب سيناريوهات “مرعبة جدا جدا”، كما عبّر مايكل هايدن المدير السابق للمخابرات المركزية الأميركية، ومنها تفكك هذا البلد او استمرار الحرب أمداً طويلاً او سيطرة المتطرفين على البلاد. والسعودية او غيرها من دول المنطقة ليست بمنأى عن تداعيات الاحتمالات هذه، كما انه ليس بإمكان أحد ان يدعي انه قادر على التحكم بأخطار من هذا النوع. هنا تتولد الحاجة الى تفاهم اقليمي- دولي يبرّد حرارة الصراع ويخفف من حدة التجاذبات حول مستقبل سوريا، تمهيداً لحل انتقالي يرضي غالبية السوريين.

لكن المسؤولين السعوديين النافذين حالياً يتصرفون، في ظل افتراقهم موضوعياً عن السند الأميركي في الملف السوري، من منطلق ان تعطيل التسوية المنشودة في جنيف 2 أفضل من السماح للآخرين بالنجاح، وهم يتمثلون في شكل او آخر بالموقف الاسرائيلي من اتفاق جنيف النووي بين ايران والدول الست: “عدم التوصل الى اتفاق أفضلُ من اتفاق سيء”. ولذلك يجاهر السفير السعودي في لندن محمد بن نواف بن عبدالعزيز بأن المملكة ستمضي في دعم المعارضة المسلحة في سوريا “مع او بدون دعم الغرب”، مضيفاً بكثير من الثقة عبر مقال نشرته صحيفة “نيويورك تايمز”: “نعتقد أن الكثير من سياسات الغرب حيال إيران وسورية يجازف باستقرار الشرق الأوسط، هذه مجازفة خطيرة لا يمكننا لزوم الصمت حيالها ولن نقف مكتوفي الأيدي” (!).

تأخير الحل

ولكن ما عسى ان تفعله السعودية أو غيرها عندما يتفق الكبار بالتعاون مع أطراف اقليمية أخرى فاعلة؟ لا يمكن التقليل من أهمية دور السعودية سلبياً كان أو إيجابياً، لاسيما بعد وضع ثقلها المالي والمعنوي خلف العديد من الجماعات المسلحة التي تقاتل في سوريا. وهذا أمر ملموس في هجمات هذه الجماعات في الغوطة الشرقية وريف حلب، وهما جبهتان أساسيتان للقتال. بيدَ أن انفكاك حلقة الدعم الدولي للجماعات المسلحة سيضعف الدور السعودي مع مرور الوقت حتى لو عاندت الرياض مرحلياً، وأقصى ما تعمل له حالياً هو إثبات قدرتها على تعطيل التسوية أو تأخيرها وبذل أقصى الجهد لإلحاق هزيمة موضعية بالجيش السوري عبر زيادة جرعات الدعم النوعي للمسلحين.

ومن هنا تندرج التوقعات بأن الأسابيع المقبلة الفاصلة عن مؤتمر جنيف 2 والتالية له ستشهد مزيداً من جولات القتال الشرسة بهدف تثبيت صورة للموقف وفق ما يشتهي كل طرف.

واذا كانت الادارة الأميركية تسعى لتضييق الفجوة بينها وبين الحكومة السعودية في هذا الشأن، فإن الرياض أخذتها نشوة “نجاحات” حققتها في الآونة الأخيرة في سعيها للإطاحة بحكومات الإخوان المسلمين او تلك التي يقودونها في مصر وتونس وغيرهما. وهي تعتقد أن “الدور الهجومي” يأتي بنتيجة سواء بموافقة الغرب او بدون موافقته. ويبدو الأميركيون أكثر إدراكاً لحقيقة ان لا سبيل لتغيير النظام السوري دفعة واحدة، في ضوء العوامل المساعدة له التي أشرنا اليها آنفاً، وانه لا بد من التمهيد لذلك بالعمل على تفاصيل تدخلُ في حياكة تركيبة وصلاحيات الحكومة الانتقالية وانتزاع قسم من صلاحيات الرئيس الأسد، مع الإبقاء على دور للنخب من حوله في هذه المرحلة. لكن الأميركيين قد لا يمانعون في أن يعطوا السعوديين مهلة جديدة كي يحاولوا تغيير مسار الأحداث بما يحسن موقف المعارضة المسلحة، في ظل معطيات تفيد بالعمل على إجراء هيكلة لما يسمى “الجيش الحر” وربما جمعِه مع “الجبهة الاسلامية” أو قسم منها تحت راية جديدة. وبموجب هذه الخطة سيعفى   سليم ادريس من مهامه بعد فشل قيادته في توحيد جهود الفصائل المسلحة وحماية موارد “الحر” الذي خسر الكثير في الآونة الاخيرة بفعل “تناتشه” من قبل “الجبهة الاسلامية” من جهة وتنظيم “داعش” من جهة أخرى.

لكن التاريخ يعلمنا أن اللعب بالنار لا يوفر اللاعبين على أي حال، وتشظي الأزمة السورية لن تنجو منه أي دولة في المنطقة في ظل تعاظم الحصيلة الأمنية والبشرية. ودرس أفغانستان في القرن الماضي يشي بأن توليد التطرف سهل، لكن كبح جماحه أمر يحتاج الى الكثير.

 

  • فريق ماسة
  • 2013-12-21
  • 11473
  • من الأرشيف

سورية ... تحوُّل في الموقف الاميركي أم في الأولويات ؟

بعد المعطيات التي أوردتها وكالة رويترز استناداً الى مصادر دبلوماسية غربية وأخرى في الائتلاف السوري المعارض بشأن تخلي واشنطن عن خططها لمطالبة الرئيس السوري بشار الأسد بالتنحي على اعتبار انه “لا يمكن السماح بإبعاد الأسد الآن لأن ذلك سيؤدي الى فوضى وسيطرة المتشددين…” ،  ثمة كلام عن إعادة خلط للأوراق من شأنها ان تؤثر على مسار جنيف-2 وعلى الواقع الميداني. البعض يقول إن الموقف الاميركي لن يغير في الأمر شيئاً كثيراً ما دام ان واشنطن لم تستطع ان تنجح في عملية تغيير النظام او أن تكون لها اليد العليا في ما يجري في سوريا. لكن آخرين يرون ان الموقف الامركي ينطوي على أهمية خاصة، لأنه يؤثر على “الحلفاء” الذين لن يكون في مقدورهم ان يغردوا بعيدا عن سربها لوقت طويل، وهم يحتاجون الى الثقل الأميركي للمضي في محاولة تشكيل مستقبل سوريا السياسي على الصورة التي يريدون، إن استطاعوا. لم يكن الموقف الأميركي مفاجئاً. فمنذ إلغاء الهجوم العسكري الأميركي على سوريا في شهر ايلول/ سبتمبر الماضي، كان واضحاً ان التقديرات في واشنطن بشأن موازين الوضع في سوريا اختلفت، لأسباب عدة: 1- الجيش السوري بات في موقع أفضل في مواجهة الجماعات المسلحة وهو حقق إنجازات عسكرية في انحاء عدة من ريف دمشق وحمص وحلب، وتلاشت ظاهرة الإنشقاقات في صفوفه. 2- حلفاء سوريا أظهروا صموداً أمام مختلف ألوان الضغوط طوال اكثر من ثلاثين شهراً لحملهم على تغيير موقفهم، ولديهم حجج قوية في موقفهم المعارض لأي تغيير بالقوة يمثل في نظرهم انقلاباً مسلحاً متعدد الأطراف والغايات. والأحداث تُظهر بالفعل تنامي التطرف والإرهاب في سوريا وعبرها الى دول مجاورة. ولم يعد العراق ولبنان وحيدين في الشكوى من ارتداد الوضع الأمني في سوريا عليهما، بل إن الأردن الذي يملك صوتاً مسموعاً لدى واشنطن يتحدث في الخفاء أكثر من العلن عن عدم قدرته لوقت إضافي على تحمل تداعيات ما يجري في سوريا على أمنه. وسبق أن حذر الملك عبدالله الثاني من ان التدخل العسكري يعقـّد الوضع ويزيد من مخاطر الانفلات الأمني الشامل في المنطقة، وأكد أن لا بديل من الحل السياسي للأزمة. كما ان تركيا تقترب من خط الوسط لاعتبارات تتعلق بتلمّسها الأخطار التي يمثلها وجود تنظيم القاعدة على حدودها، خاصة في ضوء ما يقال عن تورط العديد من المواطنين الأتراك في القتال الى جانب جماعات متشددة في سوريا، اضافة الى إعادة أنقرة تقييم أضرار سياستها الخارجية في العامين الماضيين وانشغالها بهمومها الداخلية على أبواب الانتخابات الرئاسية العام المقبل. على ان تركيا لا تزال تلعب لعبة مزدوجة تتمثل في فتح باب المساندة لجماعات مثل “الجبهة الاسلامية”، على ما نقلت “رويترز” هذا الاسبوع عن معارضين ذكروا ان السلطات التركية سمحت بإدخال شحنة أسلحة الى “الجبهة الاسلامية” التي كانت قد استولت مؤخراً على معبر باب الهوى الحدودي ومستودعات أسلحة رئيسية تابعة للجيش الحر. فضلاً عن ذلك، يرتفع منسوب الهواجس لدى الدول الغربية من تحول سوريا الى ساحة جاذبة للمتطرفين في مشهد يستعيد صورة أفغانستان في الثمانينيات، حيث تكوّن مناخ ملائم لولادة تنظيم القاعدة ومن بعده حركة طالبان، وهو أمر يعيد إنعاش تنظيم القاعدة بشكل لم يسبق له مثيل منذ الاعلان الأميركي عن “الانتصار على الارهاب” عقب تصفية أسامة بن لادن عام 2011. 3- جماعات المعارضة ليست مؤهلة لتسلم الحكم، على الأقل في المرحلة الحالية. فإضافة الى استعجالها “تقاسم جلد الدب قبل اصطياده”، كما يعبر وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، تنخرط المعارضة/المعارضات على نحو متزايد في سجالات واشتباكات حول مناطق النفوذ، ما يثير الريبة في سلوكها مستقبلاً لو قيض لها تسلم الحكم. ويبدو مشهد ليبيا أفضل نسبياً مما يحدث في سوريا عى هذا الصعيد. فالفصائل التي قاتلت نظام القذافي في ليبيا أرجأت على الأقل خلافاتها ومعاركها الخاصة الى ما بعد سقوط النظام، أما الجماعات المسلحة في سوريا فهي أكثر تشتتاً وانشغالاً بالإنشقاقات وحفلات التخوين والتكفير العلنية. كما لم تـُظهر تلك الجماعات أدنى قدر من التسامح حيال من يختلف معها في الرأي او من يقف في المنطقة الرمادية من الصراع، فالكل متهمون بأنهم “شبيحة” و”عواينية”(أعوان للنظام)، ما يعني صدور فرمان تلقائي بتصفيتهم من دون الحاجة الى محاكمة أو بحرمانهم من أبسط حقوقهم. 4- بعد انكسار شوكة المشروع الاميركي في المنطقة خلال عقد مضى، بات الأميركي أقرب الى الاقتناع بضرورة إشراك قوى أخرى في إدارة الصراعات الاقليمية. وبدلاً من المناكفات الأميركية – الروسية، حلّ نوع من التفاهم والتعاون في شأن الملف السوري، برغم الاختلاف على بعض الأهداف والتكتيكات. وقد اتفق الجانبان على إعطاء أولوية لمكافحة تنظيم القاعدة وحلفائه وعدم البت الآن في موضوع المستقبل السياسي للرئيس السوري. ومن اللافت ان يقول لافروف مثلاً ان “الأمر لا يقتصر على الاجتماعات الخاصة، بل يحدث هذا أيضا في تصريحات علنية، الفكرة تخطر على أذهان بعض الزملاء الغربيين ان بقاء الاسد في منصبه أقل خطرا على سوريا من استيلاء الإرهابيين على البلاد” كما إن واشنطن تخلت عن اعتراضها القاطع على دعوة ايران الى المشاركة في جنيف 2، منحّية الى الخلف شرطاً مسبقاً وهو الاعتراف بمقررات جنيف 1 التي تدعو الى حكومة انتقالية كاملة الصلاحيات بما ينزع السلطة عملياً من الرئيس الأسد. لكن لزوم استيعاب الموقف السعودي يفرض استبعاد حضور ايران للمؤتمر بنسخته الثانية، اذ قال مسؤول أمريكي رفيع المستوى بحسب ما نقلت وكالات أنباء إن “من الصعب تصور” حضور إيران محادثات السلام الخاصة بسوريا في جولتها المقبلة، وإن المحادثات ستستمر مع الوسيط الدولي الاخضر الابراهيمي ودول أخرى بشأن مشاركة إيران، مضيفا ان “هناك الكثير من الطرق التي يمكن أن تشارك بها طهران، وهذه مجرد بداية العملية”، تاركاً الباب مفتوحاً بهذا الشأن. المجازفة السعودية على ان أحد التحديات المرحلية التي تواجه واشنطن يتمثل في كيفية الاحتفاظ بولاء بعض الحلفاء وإبقاء الرياض الى جانبها في أثناء البحث عن حل او تسوية للأزمة السورية. فالجانب السعودي يشعر بخيبة أمل بعدما ذهب بعيداً وأحرق كل الجسور خلف مشروع إسقاط النظام في سوريا، معتمداً على أن الأميركي جرّد الرئيس الأسد من شرعيته بعد وقت قليل من اندلاع الأزمة. لم يعد المسؤولون السعوديون يتصورون بقاء النظام في سوريا، حتى لو كانت الأمور على أرض الواقع تفيد بأن المعارضة غير جاهزة لتحمل المسؤولية، وحتى لو كان هذا الموقف يعني تفاقم المعاناة الانسانية للشعب السوري في أمنه وغذائه وسلامته الصحية ومستقبله على كل صعيد. مشروع إسقاط النظام سقط، والغرب يعيد التفكير في عواقب سيناريوهات “مرعبة جدا جدا”، كما عبّر مايكل هايدن المدير السابق للمخابرات المركزية الأميركية، ومنها تفكك هذا البلد او استمرار الحرب أمداً طويلاً او سيطرة المتطرفين على البلاد. والسعودية او غيرها من دول المنطقة ليست بمنأى عن تداعيات الاحتمالات هذه، كما انه ليس بإمكان أحد ان يدعي انه قادر على التحكم بأخطار من هذا النوع. هنا تتولد الحاجة الى تفاهم اقليمي- دولي يبرّد حرارة الصراع ويخفف من حدة التجاذبات حول مستقبل سوريا، تمهيداً لحل انتقالي يرضي غالبية السوريين. لكن المسؤولين السعوديين النافذين حالياً يتصرفون، في ظل افتراقهم موضوعياً عن السند الأميركي في الملف السوري، من منطلق ان تعطيل التسوية المنشودة في جنيف 2 أفضل من السماح للآخرين بالنجاح، وهم يتمثلون في شكل او آخر بالموقف الاسرائيلي من اتفاق جنيف النووي بين ايران والدول الست: “عدم التوصل الى اتفاق أفضلُ من اتفاق سيء”. ولذلك يجاهر السفير السعودي في لندن محمد بن نواف بن عبدالعزيز بأن المملكة ستمضي في دعم المعارضة المسلحة في سوريا “مع او بدون دعم الغرب”، مضيفاً بكثير من الثقة عبر مقال نشرته صحيفة “نيويورك تايمز”: “نعتقد أن الكثير من سياسات الغرب حيال إيران وسورية يجازف باستقرار الشرق الأوسط، هذه مجازفة خطيرة لا يمكننا لزوم الصمت حيالها ولن نقف مكتوفي الأيدي” (!). تأخير الحل ولكن ما عسى ان تفعله السعودية أو غيرها عندما يتفق الكبار بالتعاون مع أطراف اقليمية أخرى فاعلة؟ لا يمكن التقليل من أهمية دور السعودية سلبياً كان أو إيجابياً، لاسيما بعد وضع ثقلها المالي والمعنوي خلف العديد من الجماعات المسلحة التي تقاتل في سوريا. وهذا أمر ملموس في هجمات هذه الجماعات في الغوطة الشرقية وريف حلب، وهما جبهتان أساسيتان للقتال. بيدَ أن انفكاك حلقة الدعم الدولي للجماعات المسلحة سيضعف الدور السعودي مع مرور الوقت حتى لو عاندت الرياض مرحلياً، وأقصى ما تعمل له حالياً هو إثبات قدرتها على تعطيل التسوية أو تأخيرها وبذل أقصى الجهد لإلحاق هزيمة موضعية بالجيش السوري عبر زيادة جرعات الدعم النوعي للمسلحين. ومن هنا تندرج التوقعات بأن الأسابيع المقبلة الفاصلة عن مؤتمر جنيف 2 والتالية له ستشهد مزيداً من جولات القتال الشرسة بهدف تثبيت صورة للموقف وفق ما يشتهي كل طرف. واذا كانت الادارة الأميركية تسعى لتضييق الفجوة بينها وبين الحكومة السعودية في هذا الشأن، فإن الرياض أخذتها نشوة “نجاحات” حققتها في الآونة الأخيرة في سعيها للإطاحة بحكومات الإخوان المسلمين او تلك التي يقودونها في مصر وتونس وغيرهما. وهي تعتقد أن “الدور الهجومي” يأتي بنتيجة سواء بموافقة الغرب او بدون موافقته. ويبدو الأميركيون أكثر إدراكاً لحقيقة ان لا سبيل لتغيير النظام السوري دفعة واحدة، في ضوء العوامل المساعدة له التي أشرنا اليها آنفاً، وانه لا بد من التمهيد لذلك بالعمل على تفاصيل تدخلُ في حياكة تركيبة وصلاحيات الحكومة الانتقالية وانتزاع قسم من صلاحيات الرئيس الأسد، مع الإبقاء على دور للنخب من حوله في هذه المرحلة. لكن الأميركيين قد لا يمانعون في أن يعطوا السعوديين مهلة جديدة كي يحاولوا تغيير مسار الأحداث بما يحسن موقف المعارضة المسلحة، في ظل معطيات تفيد بالعمل على إجراء هيكلة لما يسمى “الجيش الحر” وربما جمعِه مع “الجبهة الاسلامية” أو قسم منها تحت راية جديدة. وبموجب هذه الخطة سيعفى   سليم ادريس من مهامه بعد فشل قيادته في توحيد جهود الفصائل المسلحة وحماية موارد “الحر” الذي خسر الكثير في الآونة الاخيرة بفعل “تناتشه” من قبل “الجبهة الاسلامية” من جهة وتنظيم “داعش” من جهة أخرى. لكن التاريخ يعلمنا أن اللعب بالنار لا يوفر اللاعبين على أي حال، وتشظي الأزمة السورية لن تنجو منه أي دولة في المنطقة في ظل تعاظم الحصيلة الأمنية والبشرية. ودرس أفغانستان في القرن الماضي يشي بأن توليد التطرف سهل، لكن كبح جماحه أمر يحتاج الى الكثير.  

المصدر : المنار/علي عبادي


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة