دليل ماسة
أكثر الروابط استخداما
لن يفهم الثوار الكثير من هذا المقال لأنه مخصص لذوي العقول الجميلة .. وليس بينهم رجل ذو عقل جميل .. فأقبح مافي هذه الثورات عقولها البشعة المشوهة .. وأنا لايعنيني ان قاسى الثوار وعانوا وهم يدفعون بهذا الكلام الصلد في رؤوسهم أو ان أحسوا بالألم وهم يمشطون لحاهم الكثة بعبارات هذه المقالة الشائكة ..
ولايعنيني ان تسببت لهم بالارهاق وزوغان البصر والتعرق وهم يحاولون أن يجعلوا عقلهم القبيح جميلا ..
يعتقد الثوار أنني أجول على القواميس والدواوين لأصنع من اللغة أنصالا للخناجر ولأجرد الكلمات من أغمادها كما تجرد السيوف من أغمادها لتلمع وتقطع .. كي أمزق كلام الثوار وأمزق عيون الثورة وأسفك دمها المقدس وأغرز الخناجر في رقاب الخناجر .. وفي الحناجر .. ولكن في الحقيقة ليست قوة أي كلام ناجمة عن جذوره اللغوية وشوفينيته السياسية أوحذلقات البديع والبيان بل عن كم البديهيات الذي يتسلح به وينثره بين السطور ويلقيه في عقل القارئ وقلبه .. وربما بعبارة أخرى - قد تبدو غريبة - فان قوة جذوة الكلام تشبه قوة الرياضيات في اقناع العقل .. وفي السياسة لاغنى عن "الرياضيات السياسية" والبديهيات السياسية !! .. ولكن كيف للغة أن تكون هندسة وخطوطا ورياضيات وهي تكره الرياضيات ذات الملامح الصارمة التي لاتعرف أن تقول شعرا وليست لها ديبلوماسية الجملة ذات الفواصل ولاحرارة أسئلة الاستفهام الحيرى ولاحواجب اشارات التعجب وعيونها المذهولة ؟؟ !! .. وليس لها ميوعة ودلال النثر ومراهقاته الطائشة أحيانا وغمزاته ولمساته غير البريئة؟؟..
ان أجمل مافي الرياضيات هي أنها لاتكذب ولاتنافق ولاتجامل العواطف والعقول .. وربما كان أجمل مافي الرياضيات هي أن أعقد نظرياتها تنطلق من البدهيات البسيطة جدا والصادقة والنقية كقلب السيد المسيح وجرحه .. فالبديهيات هي القضايا الفكرية التي لاتحتاج براهين .. بل انها تشكل اساسا للنظريات التي تنطلق براهينها من التسليم ببديهيات منطقية .. حتى أنه يصعب أحيانا اثبات صحة نظرية دون الانطلاق من البديهيات .. وخير مثال على ذلك هو الرياضيات المنطقية وهندسة اقليدس القائمة على التسليم بالبديهيات.. ففي الهندسة الاقليدية بديهيات لاأحد يطلب اثبات صحتها لشدة وضوحها مثل: "لايمر بين نقطتين سوى مستقيم وحيد" .. وبديهية "المستقيم خط لابداية له ولانهاية فهو يمتد الى اللانهاية" .. و كذلك فان "الخطين المتوازيين لايلتقيان" .. و "من نقطة واحدة لايمر سوى مستقيم واحد مواز لمستقيم معلوم" .. ومثل هذه البديهيات هي ركائز النظريات الكبرى .. فهل علم السياسة وبديهياته يختلف عن الرياضيات وبديهيات اقليدس؟؟ وهل النظريات الثورية قادرة على مصارعة البديهيات الوطنية؟؟
المشكلة التي كانت تواجهنا كوطنيين في بداية الأحداث هي: كيف ندافع عن البدهيات الحقيقية والخطوط المستقيمة والمتوازية ونتحدث الى جمهور صارت له بدهيات جديدة لاتمت الى اقليدس العقل والمنطق والحياة وترى أن بين نقطتين يمكن أن يمر ألف مستقيم .. أي يمر منه خط الوطن ومعه يمر أيضا خط الناتو ويمر خط تركيا واسرائيل وأيمن الظواهري وبندر بن سلطان وخالد مشعل وبنيامين نتنياهو .. رغم أنه بين نقطتين لايمر الا خط واحد .. فاما الوطن أو اللاوطن .. ولكن كانت البديهيات العقلية الطبيعية تتكسر وخطوطنا المستقيمة تسقط بين النقاط الهوجاء الشاردة وتحل محلها منحنيات ومقوسات ومنعرجات وأشكال ملتوية غريبة وغبية .. فالدوحة وقاعدة العيديد تحولتا الى باريس رغم أن الدوحة بلا جذور حضارة وبلا علم وبلا ثقافة .. وتحول حمد بن جبر الى جان جاك روسو كأب للحرية والأحرار .. و صارت موزة مثل الموناليزا .. وصار آل سعود مثل آل ميدتشي في ايطاليا في عصر النهضة ..
لقد دأبت عملية صناعة الثورات والربيع على تغييب أبسط البديهيات الاجتماعية والوطنية والانسانية وتصوير الخطوط المستقيمة على أنها منحنية أما التواءات الثورات المقوسة فممشوقة كالمستقيم وبلا نهاية .. مثل تغيير بديهية الولاء للوطن الكبير الى ولاء للجماعة وللطوائف والمذاهب .. واسقاط الجيوش الوطنية لصالح أفكار جهادية غامضة مستوردة ومطعمة بنكهات المخابرات .. وتغيير بديهية أن حكام الخليج يمكن أن يقودوا الشرق الا الى الحظيرة الأمريكية .. وأن الفوضى بداية للحرية وليست نهاية لها ..
وفي الحقيقة ليس هناك أصعب من مواجهة جمهور لايرى البديهيات البسيطة .. فالعقل الذي تستولي عليه النظريات الوهمية ومسلّمات لاهوتية ونظريات الهواة الأغبياء يشبه عقلا مبنيا من الاسمنت المسلح والصخور الرسوبية .. لايكسر الا بتهشيم الرأس كله ونسفه ..وكل أدوات الحفر والتذويب والتسخين والتبريد والثقب قلما تفعل فيه فعلها .. ولاينفع فيه الا أن تدخل فيه البدهيات الاقليدية في السياسة والوطنية .. والا فسيبقى هذا العقل "كالنقطة" بلا أبعاد وتمرّ منها كل خطوط السياسة في كل الاتجاهات..
وهنا أستدعي من ذاكرتي جزع المتشائمين في بداية الأحداث السورية وفوضى التفاؤل المفرط لدى الثوار .. وكيف أنني راهنت دون تردد على سقوط "الثورة القبيحة" ان عاجلا أو آجلا لأنها خلت تماما من البديهيات الوطنية ولأنها على العكس امتلأت بالبديهيات التي تنبئ عن سقوطها .. بل ان نصيحتي القوية للمعارضة كانت هي أن مايريدونه سيحصلون عليه في الأشهر الستة الأولى لأن "النظام" كان يرى أنها تحرجه كثيرا وقد لايقدر على مجابهة الشعارات الجذابة والعاطفية للغاية .. وبالفعل بدأت الدولة التقليدية السورية تعطي المعارضة كل ماتطلب دون تردد .. ولكن المعارضة أرادت بحماقة الحصول على كل شيء .. وكانت عينها الغبية على قانون "كل شيء أو لاشيء" .. رغم أن من بديهيات السياسة أن هدف كل شيء أو لاشيء هو وصفة للمقامرين ولخسارة كبرى شاملة .. وهاهي المعارضة بعد ثلاث سنوات لاتحصل على شيء .. لأنها ثورة بلا بديهيات وطنية وأخلاقية وسياسية..
وقلنا للمعارضة مرارا ان "النظام" في سورية ليس شبيها بالعراق وليبيا ومصر وله حلفاء أقوياء جدا وجمهور واسع جدا في الداخل ومن "البديهي" أنه لن يستسلم وهو يحس بالقوة وأنه ليس ضعيفا كما تتصورون .. ومن البديهي ان تحصلوا على ماتريدون في أهم لحظة يحس فيها بالحرج وليس في اللحظة التي يقرر فيها الخروج لمواجهتكم لأن هذه اللحظة هي لحظة مختلفة ولاتخضع لشروطكم بل لشروطه .. ولكن علماء الرياضيات الثورية كانت لهم نظريات مستوردة وحديثة لاتستند على أي بديهية سوى بديهية أوباما الشهيرة (الأيام المعدودة للأسد) التي كانت لديهم أقوى من بديهيات اقليدس الرياضية .. وان عزمي بشارة لاينطق عن الهوى مثل اقليدس ان لم يكن اقليدس من تلامذته .. وأن حماس لم تنقلب الا ليقينها الاقليدي أن دمشق دخلت مرحلة جديدة .. وأن الروس سيبيعوننا في النهاية .. وأن أردوغان سينطلق كالقدر نحو دمشق .. وأن من حكم عليه الناتو بالرحيل فسيرحل و و و .. وتبين لنا أن عقول الثوار عقول دراويش وأن أستاذهم برهان غليون أستاذ السوربون بسيط مثلهم ودرويش ومسكين ولايتفوق على عقل "بلال الكن" الطنبرجي الحمصي في فهم الرياضيات العادية .. فمابالك بالرياضيات السياسية ..
وما فعلناه جميعا أمام هجوم نظريات السقوط المركبة بلا بديهيات وطنية طوال فترة الربيع العربي هو أننا أطلقنا قبل الرصاص البديهيات المنطقية البسيطة التي حطمت نظريات الربيع العربي وكسرت رياضيات الثورات ومنطلقاتها الصناعية ومنحنياتها لأنه لم توجد بديهية طبيعية واحدة في كل أوراق الثورة ومثلثاتها ومربعاتها وزواياها لمواجهة بديهياتنا .. لقد أسقطنا الثورة بسلاح فتاك هو "البديهيات" الوطنية الجميلة البديعة التي تشبه بديهيات "اقليدس" في الرياضيات .. فتهاوت شعارات الثورة وتفككت مفاصلها .. وتمايلت هياكلها المتينة وأبراجها (الحرية والديمقراطية والشعب يريد ..) وانتصرت البديهيات الوطنية على النظريات المثقلة بعلوم المخابرات وروبوتات المال والاعلام وتكنولوجيا صناعة النظريات والمجتمعات مسبقة الصنع والثورات اللاطبيعية .. وانتصرت بديهياتنا على الملائكة التي ضمها الثوار لصفوفهم .. ودهاة الانس والجن .. وتبين أن الثورات التي لاتحترم البديهيات الوطنية هي بعينها "الثورات القبيحة" .. لأن البديهيات هي الحقائق ..والحقيقة جميلة دوما .. وليس مصير الثورات القبيحة الا النهايات القبيحة ..
لايعرف الثوار أن الحياة هي بديهيات رياضية ومجموعة من القواعد الاقليدية التي تبني هياكل العلاقات البشرية والمجتمعات الطبيعية .. بزواياها وأضلاعها .. فليس هناك مجتمع في العالم مثلا يقر أن السرقة حلال .. حتى الاسرائيليون لايعترفون أنهم سرقوا أرضا بل أخذوها هبة من الله .. ولاتوجد أمة تقر بأن الكذب أو الزنا سلوك أخلاقي أو أن ذبح البشر سلوك بشري .. أو أن الخيانة وجهة نظر أو أن جهاد النكاح ليس زنى .. كل المجتمعات البشرية على اختلاف ثقافاتها تمر أخلاقياتها المستقيمة بالبديهيات التي لاتحتاج الى برهان كما يمر مستقيم اقليدس بين نقطتين كخط وحيد لاغير نسميه في الدين (الصراط المستقيم) فترفض المجتمعات البشرية الكذب والنفاق والسرقة والزنا والخيانة .. ولذلك فان كل الفساد المنتشر في المجتمعات سببه انحراف الخطوط "المستقيمة" واعوجاج الأخلاقيات البدهية .. فتتحول الرشوة الكريهة مثلا الى نهج وسلوك عندما يميل الخط المستقيم بين المواطن والمسؤول ويصبح ملتويا ومنحنيا .. وتتحول السلطة الى ديكتاتورية سوداء عندما ينحرف الخط المستقيم القائم على الاحترام المتبادل بين الحاكم والمحكوم .. وكل المجتمعات التي تخل بهذه البدهيات تصبح مخلخلة وغير مستقرة .. وربما بنى ابن خلدون نظريته في بناء الدولة انطلاقا من هذه البدهيات .. فالدولة والأمة تتفسخان وتنهاران عندما تتفسخ قيمهما وتتراجع عصبيتهما وربما يقصد هنا الخطوط المستقيمة الاقليدية للعلاقة بين الفرد ودولته وارتباطه بها ..
لذلك لايصح بعد اليوم استفزاز العقل والسليقة والفطرة بأن ننشغل بالبرهنة على البديهيات السياسية التي انبثقت من الأحداث السورية .. ولم يعد من الضروري طرح اسئلة استنكارية ليس لها الا جواب واحد بديهي من مثل:
هل هذه هي الحرية التي يريدها الثوار؟؟ هل هذا هو الاسلام الذي يذبح ويسرق ويجاهد بفروج النساء ويأكل القلوب ويطعم الكلاب لحم البشر؟؟ هل يمكن ان يكون عضو كنيست اسرائيلي وضيف عزيز على قاعدة العيديد مفكرا عربيا يقود النخب العربية ويعلمها الوطنية؟؟ هل يمكن لشيخ مزواج مطلاق وبلا أخلاق ويسكت عن كل الاحتلال الغربي للخليج العربي مثل القرضاوي أن يعلم الجامع الأموي وقبر صلاح الدين درسا في الجهاد؟؟ وهل الثورات تنبع من قصور الأمراء والملوك الفاسدين الذين يستقبلون قتلة العرب ويرقصون معهم العرضة؟؟ وهل الحرية تستورد من الفصل السابع وتلويث الهواء والماء بقذائف اليورانيوم؟؟ وهل يمكن للناتو أن يكون غبيا ليدعم ثورة شعبية ضد مصالحه؟؟ كيف يكون اسم "الاخوان المسلمون" حزبا وطنيا وهم لايقبلون غير السنة ؟؟ .. كيف تعيب المعارضة على النظام تخليه عن السلاح الكيماوي وتتباكى عليه دون أن ترفض عملية تسليم السلاح الكيماوي علنا ودون أن تنتقد أوباما في تجريد شعبها من سلاحه الرادع؟؟ هل سمعتم بيانا للمعارضة السورية (رغم تشنيعها وبكائياتها على السلاح الكيماوي الذي فرط به النظام من أجل بقائه) يرفض أو يندد بتجريد الغرب لسوريا مما سمي سلاحها الرادع الوطني الذي يفترض أن يكون سلاح الشعب السوري؟؟ .. وهل .. وهل .. وهل ..
ان طرح هذه الأسئلة لم يعد تحديا للعقل بل تحديا للأعصاب واستفزازا للمنطق وتقليلا من مكانة وقوة البدهية ..والانشغال بالاجابة عنها مضيعة للوقت ..بل واهانة للحس السليم .. ولاقليدس نفسه .. فلاشيء يلحق الاهانة بالناس مثل أن تتبرع بشرح البدهيات لهم .. لأنه دوما يعطي انطباعا لدى السامع بأنه استخفاف بقدرات عقله ووعيه .. كأن تسهب في الشرح للناس كيف أن الليل يحدث بسبب غياب الشمس .. أو أن المطر لايأتي من غير غيم .. أو أن العقل في الرأس وليس في أسفل البطن .. حيث عقل الثوار ..
ومن البدهيات التي لم تعد تحتمل نقاشا هي ان الثورات الناتوية والسورية تحديدا ثورات لا تمثل وطنا لأن ماخربته في أوطانها في الانسان والعمران لا يخربه الا العدو .. وأنها كانت أنانية جدا ومدججة بالجشع وتمترست بالناس وبالله ولم تثبت أن قلبها كان على الوطن أو على الفقراء .. بل ان "النظام" على سمعته بالفساد والقسوة والديكتاتورية التي فلقنا بها الثوار على مدى عقود حاول جاهدا تجنب هدم البلاد لأنه يدرك معنى أنه بناها .. أما المعارضة فان شهوتها للسلطة دفعتها للمغامرة بلا حساب ودمرت مابناه "النظام" لأنها ببساطة لاتعرف كلفة البناء .. ومن لايعرف كلفة البناء فلأنه لم يفكر يوما بالبناء .. فالمعارضة تمترست في مدارس الوطن ومشافيه ونصبت القناصات في غرف نوم الناس ومجالس سهراتهم ووضعت فيها قاذفات الهاون والألغام والمدافع الرشاشة والدوشكا .. وهي التي قالت للناس ان "النظام" وحش لارحمة في قلبه وسيدمر من يقف في طريقه فاذا بها بدل أن تستدرجه بعيدا عن المدن والناس لحمايتهم وتجنيبهم الوحش فانها أدخلته مرغما لتدمير المدن رغم ادعائها أنه لايرحم ..
ومن البديهيات التي صارت معروفة هي أن الثورات الاسلامية هي التي كسرت الخط المستقيم الأزلي بين دمشق والقدس وهو أقصر الخطوط على الخرائط كلها على الاطلاق نحو القدس والذي اكتشفته بدهية صلاح الدين .. وصار خط الدوحة - استانبول هو الخط البدهي الجديد الأقصر نحو القدس .. والعجيب أنه بسبب خلو نظريات الثوار من البديهيات الوطنية "تأطلس " الثوار من أجل التخلص من وهم الهلال الشيعي ورحبوا بالناتو وبجون ماكين في حلب .. ومن أجل التخلص من الأسد عانق الثوار الاستعمار ورموا بالاستقلال.. بل ان ثوريا سوريا ضرب لي مثلا كيف ان دبي وقطر صارتا أفضل من سورية اقتصاديا لأنهما سلمتا مصيرهما للاستعمار فنحن شعوب لانقدر على ادارة شؤوننا وليس عارا أن نسلم سورية لفرنسا أو اميريكا لادارة شؤونها اذا كانت النتيجة دولة على غرار قطر ودبي ..أمير وقاعدة عيديد وسكان من الهند وأقلية عربية ..
أصحاب النظريات الجديدة الفاقدة للبديهيات كانوا يباهون بالدوحة والرياض واستنانبول كمحطات للثورات الجديدة ولمستقيم أعمى بلا نقاط ارتكاز ..فيما نحن كنا نباهي بدمشق والقاهرة وبغداد لأنها النقاط التي يمر منها الخط "المستقيم" الوطني للشرق .. ونحن بقي الخط بيننا وبين فلسطين مستقيما ولم نساوم على فلسطين حتى عندما جاء كولن باول الى دارنا وهددنا .. أما اصحاب البدهيات اللااقليدية في السياسة فانهم من أجل السلطة قرروا نسف فلسطين من كل قواميس الثورة .. وحلت اسرائيل ضيفا وصديقا عظيما وحليفا يتكلم العربية .. ووهب الثوار تركيا لواء اسكندرون وحلب كما وهب بلفور أرض فلسطين لليهود لأنهم لاينتمون الى اسكندرون وحلب كما لاينتمي بلفور الى فلسطين .. ومالم يأخذه كولن بول بالقوة أعطاه اياه خالد مشعل بالمجان وبلا مقابل وغلف أمير قطر الهدية المجانية لباول بدم السوريين كالهدية الحمراء ..واعتذر عن الـتأخير ..
من البديهيات الاقليدية في السياسة أن الثورات عموما تأتي لتعيد للمجتمع أخلاقه المنحلة التي أنهكها الفساد والتي حطمها نظام الاستبداد فتعلي من قيمة الانسان وحياته وحريته ومن المرأة والطفل والمدرسة والتعليم والقضاء والعدالة وترفع من مكانة القيم العليا للصدق والتسامح .. فاذا بالمرأة تتحول وظيفيا الى أداة امتاع جنسي للثورة في جهاد النكاح .. واذا بالرجال يموتون كالذباب بلا حساب لحياتهم .. وبالأطفال يتحولون الى قصابين وقتلة وجناة ومشاريع قتلة مستقبليين .. واذا بالثورة تسرق الناس وتظلم الناس وتعلمهم الكذب والسلب والنهب والابتزاز .. ويتولى قضايا الناس من ليس له علم بالقضاء .. وتقتل من أجل أن ينفض الناس عن نظام الاستبداد بالقوة .. ولكن أليس من البديهي أن الاستبداد لايطرد الاستبداد بل يقويه؟؟ .. ومن البديهي أيضا أن اللاعدالة لاتطرد الظلم؟ ..وأن الفوضى لاتأتي بالقانون؟ ..وأن حكم الشريعة بلا بديهيات أحلاقية هو شريعة غاب ..
وعلى العكس تحطمت النظريات الثورية القائمة على البديهيات الزائفة والخطوط الملتوية .. ونهضت من بين الحطام البديهيات الاقليدية الذهبية وتألقت الخطوط المستقيمة التي لاتحتاج برهانا من مثل أن الوطن لايصنع الا في الوطن وليس في عواصم المال والأعمال .. وأن الأوطان التي تأتي من مجلس الأمن ليست شرعية مثلها مثل اسرائيل ومثل الأوطان التي يصنعها الفصل السابع الدولي ويفصلها على مقاس اسرائيل .. وخير مثال هو العراق الذي جعله الفصل السابع سبعة أوطان (شيعستان وسنستان وكردستان ووهابستان .. وبغلستان .. وجحشستان ..وداعشتان)..
فالبديهي أن أي ثورة شعبية تلتقي مع أهداف تل ابيب ليست الا ثورة مركبة استخباراتيا .. ومن البديهي أننا قد نموت من أجل وطن ولكن من البديهي ألا نقبل أن نعيش نحن أو أبناؤنا في وطن ميت مقسم .. ومن البديهي أننا نعشق الحرية ولكن من البديهي أيضا أن لانفرط بالاستقرار والأمان والاستقلال الوطني ..
ولكن هل من قوة على الأرض تستطيع أن تغير بديهة واحدة من بديهيات اقليدس؟؟ بالطبع لا .. رضي أمراء الجهاد والنكاح أم لم يرضوا .. ورضي أوباما أو لم يرض .. وكذلك فان البديهيات الوطنية هي بديهيات اقليدية .. وكل التلاعب بالعواطف والعقول والغرائز لمحاولة تفكيك البديهيات الوطنية نتج عنها مركبات عوجاء وتنسيقيات ثورية مائلة مليئة بالغرائز والجريمة والعنف .. والمنطق البائس .. ومجموعات من القطعان الهائجة .. وثوار لقطاء .. وتصبح امرأة تافهة سكيرة اسمها سهير من قيادات الثورة التي يقودها "أجرب" .. تعلو فيها ديبلوماسية الصفعات والركلات..
وبالفعل تمكن "النظام" من الخروج من المأزق لأنه تمسك بالبديهيات الوطنية وأثراها ولعب على عامل الزمن بدهاء منقطع النظير حتى قلب على المعارضة حواضنها .. وقلب عليها جمهورها .. وتراجع اللون الرمادي تدريجيا واجتاحه العلم الوطني السوري .. وتآكل جيش الاخوان المسلمين (الجيش الحر) بشدة وتمزق .. ومنذ أشهر سقطت الأسنان الاخوانية في مصر وصارت تركيا (الأم الرؤوم) تتوجع من الصداع والعزلة الشديدة اقليميا .. فماذا ينفع العالم تركيا اذا كانت كل حدودها غاضبة من الشمال الى الشرق والجنوب؟؟ انها بديهية رياضية سياسية لم يفكر بها عالم رياضيات "الصفر" داود أوغلو .. ولم يبحث عنها عقل أردوغان الذي بنى نظرية عملاقة عن العالم العثماني من دون بديهية أن الخط العثماني المستقيم لايمكن أن يمر من الرياض والدوحة ومن نقاط التنازل لشروط الاتحاد الأوروبي اللااسلامية .. ولايمكن أن يمر عبر تل أبيب والناتو ..
اليوم تعتقد نظريات الثوار العرجاء أن قذائف الهاون ستسقط نظاما او ستشغله عن اتمام مهمته وأنها يمكن أن تصرفها بشروط قبل مفاوضات جنيف .. وأن معادلة الكاتيوشا على نهاريا وحيفا التي أذلت اسرائيل تشبه معادلة الهاون على دمشق وسترغمها على الاذعان .. ولكن أليس من البديهي أن دمشق التي لم يكسرها زئير التوماهوك لن يكسرها هاون؟؟ .. وأن مرحلة السيارات المفخخة لم تغير من البديهيات الوطنية للدولة والشعب والجيش السوري وأن سياسة الذبح والنحر لم تسقط بديهية واحدة وبقي الخط المستقيم مستقيما بقي قلب المواطن والوطن .. وبقي الاسلاميون لايلتقون مع القلوب مثل الخطين المتوازيين اللذين لايلتقيان الا في اللانهاية .. وأن دمشق لن ترجع قبل أن تعلق الهاون وراجميه على مدخل باب توما وباب شرقي .. وأن باب توما لن يكون الا باب توما .. ولن يمر منه هرقل منذ أن خرج منه منذ خمسة عشر قرنا .. سواء حمله الثوار أم حمله أوباما أو نتنياهو أو أبو متعب أو جربا أو رفعته حرائر الثورة .. وسيبقى جيش محمد وجيش بني عثمان والجيش الحر وجيش داعش .. كلها أسماء لجيش هرقل الذي لن يمر من باب توما الا الى باب الموت .. وليس هناك جيش سيفتح له باب توما ذراعيه مع اخوته الستة ويعانقه ويظلله الا الجيش العربي السوري ..
من ينظر الى الخارطة وتغيراتها السريعة واتجاهات فوهات المدافع وأفواه الدبابات سيعرف أن مرحلة الهاون دخلت في مرحلة شارفت على النهاية لأن الثورة التي كانت تبشرنا بساعات الصفر صار أقصى ماتستطيع قوله هو أنها لم يعد لديها أصفار لأنها أنفقتها في الوهم .. ولم يبق لديها الا رماة الهاون .. وليس سرا أن سقوط مرابض الهاون صار أقرب مما يتوقع البعض حتى وان اشتدت قليلا .. وأنها الغناء الثوري الأخير ومعزوفة النهاية حول الشام لأن فيها محاولة لاثبات أن علاقة الثورة بالناس صارت مثل علاقة الناس بقذائف الهاون .. رحلة الهاون لن تستمر طويلا وهي مرحلة من مراحل الجنون الثوري الكثيرة ونظريات الوهم الخالية من بديهيات النصر لأن كل قذيفة هاون هدية ثمينة لمن هو ضد الثورة واضافة جديدة للبديهيات الوطنية التي لاترى في الثورة خطا مستقيما واحدا .. وهي تصيب وجه الثورة القبيح الدميم وتزيد في قباحته وتثبت أنه اذا كان الخطان المتوازيان سيلتقيان في اللانهاية .. فان خط الثورة لن يلتقي مع خط النصر ولا مع خط قلوب الناس ولا مع خطوط عقولهم .. حتى في
اللانهاية .. واقليدس هو الحكم بيني وبينكم
أما نحن فسنرسم ببديهياتنا خط النهاية للثورة .. ولعل الخط المستقيم الواصل بين دمشق وحلب هو خط النار الذي ينتظر أن ينهض كخط اقليدس المستقيم بين أبهى نقطتين .. أجمل خطوط العالم والأرض .. وأقوى خطوط الوطنية .. ولاشك أن اقليدس لن يعترض ..ولن يمر بها الا خط الوطن السوري .. شاءت الدنيا أم لم تشأ ..
المصدر :
نارام سرجون
اكتب تعليق
كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة