دليل ماسة
أكثر الروابط استخداما
يبدو ان السحر السعودي بدأ يعطي مفعوله بأسرع مما توقعه الكثيرون ونحن منهم، فبعد اقل من يومين من زيارة جون كيري وزير الخارجية الامريكي للرياض ولقائه العاهل السعودي ومسؤولين آخرين، بدأ الموقف الامريكي، واللفظي منه على الاقل، يتغير كليا تجاه سورية، ويعود الى صورته “الصقورية” الاولى.
السعوديون لم يخفوا غضبهم من الادارة الامريكية الحالية التي شعروا انها طعنتهم في الظهر، عندما فتحت حوارا مع عدوتهم ايران، وألغت ضربتها العسكرية لسورية، وبدأت تتحدث عن استبعاد الحل العسكري كليا وتتبنى الحل السياسي للملف السوري.
هذا الغضب الذي انعكس في تهديدات مبطنة لكيري اثناء زيارته للسعودية، من بينها تزويد المعارضة السورية الاسلامية المعتدلة بأسلحة حديثة “فتاكة” دون التنسيق مع واشنطن، وتخفيض انتاج النفط بما يؤدي الى ارتفاع اسعاره عالميا، دفع واشنطن للتراجع عن مواقفها “اللينة” تجاه سورية، والعودة الى مواقفها السابقة التي تطالب برحيل الاسد.
فبعد الاطراء غير المسبوق بالرئيس الاسد وتعاونه الكامل والسريع مع فرق التفتيش الدولية وتقديمه معلومات وافية و”دقيقة” عن مخزونات من الاسلحة الكيماوية، خرجت علينا الادارة الامريكية بتصريحات صحافية تنسف كل ما تقدم جملة وتفصيلا، وتتهم النظام السوري بانه لم يصرح بالكامل عن مخزوناته من الاسلحة الكيماوية، بل انه يخفي بعضا من هذه الاسلحة.
هذه الاتهامات الامريكية “المسيسة” تزامنت مع تأكيد السيدة سيغريد كاخ منسقة البعثة المشتركة لمنظمة حظر الاسلحة الكيماوية، والامم المتحدة في سورية، في مؤتمر صحافي عقدته للحديث عن تقريرها الذي قدمته للامين العام، “بان فريق البعثة حقق تقدما”، واشادت بتعاون السلطات السورية، بينما قال زميلها احمد ازومغو مدير عام المنظمة المذكورة “ان انشطة التحقيق والتدمير قد أنجزت ضمن ما حدد لها في جميع المواقع (21 موقعا) باستثناء موقعين بسبب الوضع الامني.
***
السيدة سامنثا باور سفيرة الولايات المتحدة في الامم المتحدة قالت ان تنفيذ اتفاق تدمير سورية من الاسلحة الكيماوية لم يغير من موقف الولايات المتحدة من (الرئيس) الاسد، فالرجل استخدم الغازات وصواريخ سكود والارهاب ضد شعبه وعليه ان يرحل.
كلام السيدة باور هذا يأتي استجابة لما ذكره زميلها السيد عبد الله المعلمي السفير السعودي في الامم المتحدة، وقال فيه “القضية السورية لا تختزل في مسألة الاسلحة الكيماوية، وعندما نشعر انها اختزلت في هذه الاطار ندعو الى النظر في القضية من كل ابعادها” مؤكدا على ضرورة معاقبة الاسد امام المحكمة الجنائية الدولية كمجرم حرب نظرا للقتل اليومي للسوريين واستخدام السلاح الكيماوي في الغوطة الشرقية”.
لا نعرف ما اذا كان هذا التحول المفاجئ والتصعيدي في الموقف الامريكي تجاه سورية، ما اذا كان مجرد “كلام” لتهدئة الغضب السعودي وامتصاصه، ام انه تغيير حقيقي لانقاذ “التحالف الامريكي السني” الذي بدأ يتصدع في المنطقة، ويوشك على الانهيار بسبب الخلافات مع ابرز قطبيه وهما حكومة الانقلاب العسكري في مصر على ارضية تجميد المساعدات والدولة السعودية للاسباب التي ذكرناها آنفا.
ما نعرفه، والكثيرون غيرنا، ان ادارة الرئيس اوباما لا تريد التورط عسكريا في المنطقة، ولا تملك اي خطط لشن حروب ضد ايران لتدمير منشآتها النووية تلبية لضغوط اسرائيلية، او اللجوء للحل العسكري في سورية، استجابة لاستجداءات المذعورين العرب، فأولويات امريكا الاستراتيجية ومصالحها المشتركة بالتالي، توجد في مكان آخر، اي جنوب شرق آسيا اولا، والقارة الافريقية ثانيا.
اتهام النظام السوري باخفاء بعض مخزونات من الاسلحة الكيماوية يذكرنا بأكذوبة اخفاء الرئيس العراقي صدام حسين اسلحته المماثلة تحت سريره في غرفة نومه، ومفاعلاته البيولوجية والكيماوية المتنقلة، مع فارق اساسي ان الرئيس بوش كان يبحث عن الذرائع لتغطية مشروعه بغزو العراق، اما تصريحات المسؤولين الامريكيين الحاليين حول الاسلحة الكيماوية السورية فهي ربما تكون للاستهلاك الاعلامي وخديعة حلفائهم السعوديين والعرب الآخرين وتهدئة مخاوفهم وامتصاص غضبهم.
***
نتمنى ان تكون الاتهامات الامريكية لسورية صحيحة، مثلما تمنينا الشيء نفسه اثناء التفتيش على الاسلحة العراقية، لان اسلحة الفقراء الكيماوية والبيولوجية هي ملك للامة بأسرها، وتشكل قوة ردع في مواجهة الترسانة النووية والكيماوية الاسرائيلية، ولهذا نعارض تدميرها ايا كان الثمن والمقابل.
التمنيات شيء، والواقع شيء آخر فقد ثبت ان الرئيس صدام حسين كان صادقا عندما قرر التعاون مع المفتشين الدوليين في تدمير جميع اسلحته، وليس هناك ما يؤكد ان نظيره السوري يفعل عكس ذلك، لان هدف الرجلين، صدام حسين والاسد، كان كسب الوقت والحفاظ على استمرار نظاميهما في الحكم، ولكن النتائج جاءت مغايرة بالنسبة للاول وغير مضمونة بالنسبة للثاني.
التطور الجديد الذي يمكن ان يقلب كل المعادلات ان امريكا ليست اللاعب الوحيد مثلما كان عليه الحال قبيل غزو العراق، والنظام السوري صمد لاكثر من ثلاث سنوات، والرئيس اوباما لم يفز بجائزة نوبل للسلام، وفي ظل وضع اقتصادي متدهور، لكي يخوض حروبا جديدة.
امريكا لا تريد ان تكون كلب حراسة لحلفائها العرب، تخوض حروبهم، وتكسر رؤوس اعدائهم، خاصة اذا كانت هذه الحروب تتعارض مع مصالحها وتعرض امنها وحياة ابنائها للخطر، او هكذا نعتقد.
فاذا ارادت السعودية خوض الحرب في سورية لوحدها، او بمساعدة بعض حلفائها الخليجيين، وفصائل المقاومة المسلحة على الارض، فهذه مغامرة قد تمتد آثارها الى خارج الحدود السورية، وتشكل تطورا خطيرا في السياسة السعودية التي تعودت خوض الحروب بجيوش غيرها، وتحصين جبهتها الداخلية من ارتداداتها، لكن الحال ربما يكون مختلفا كليا هذه المرة، فسورية ليست وحدها مثلما كان حال العراق، ولا بد ان القيادة السعودية تعرف هذه الحقيقة والاخطار المترتبة عليها.
المصدر :
عبد الباري عطوان
اكتب تعليق
كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة