تستعيد السعودية دورها تدريجاً في المنطقة بعد الانكفاء الاخير على خلفية التفاهم الاميركي ـــ الروسي حول سوريا. وتأتي زيارة وزير الخارجية جون كيري اليها لتزيد وتيرة الحركة مجدداً حول تصوّر جديد لما قبل «جنيف » وما بعده. وحصة لبنان من هذه الحركة لا تزال محدودة

لا يمكن ان تكون قراءة المتغيرات الدولية والاقليمية الاخيرة أكثر اختلافاً بين قوى 8 و14 آذار عما هي عليه اليوم. ثمة مسافة شاسعة بين الرؤيتين، الى الحد الذي لا يمكن لأي منهما ان يلتقي، ولو على تقاطع صغير، حول مستقبل لبنان وسوريا في خضم الحركة الدولية حولهما.

ينقل احد الذين التقوا الرئيس سعد الحريري، اخيراً، ان الرجل لم ينظر يوما الى الحدث اللبناني من الزاوية الاقليمية كما هي حاله اليوم. وهو، بهذا المعنى، يربط الأزمة السياسية الداخلية بالسياق الاقليمي والدولي، فيضع رؤية الفريق الذي ينتمي اليه لمعالجة اي ازمة داخلية في ثلاجة الانتظار ريثما يتم تلمّس آفاق مؤتمر جنيف وما بعده. وبذلك، يصبح تأليف الحكومة ومن بعدها استحقاق رئاسة الجمهورية مرهونين بما ينتج من معالم اي تسوية مرتقبة للوضع السوري، ويصير الدور الاميركي في الحوار مع ايران، ومن ثم المحادثات الاخيرة مع السعودية، الحلقة الابرز في انهاء الوضع السوري لمصلحة المعارضة السورية، وفي اخراج لبنان من المحور الايراني ــ السوري الذي يغرق فيه.

في المقابل، فان ما يمكن ان يختصره احد قادة فريق 8 آذار وحلفائه، هو أن الروس (بعد الايرانيين) ارسوا في الشرق الاوسط ــ بعد دخولهم على خط الازمة السورية وخصوصاً ابان التحضير الاميركي للضربة العسكرية على سوريا ــ معادلة جديدة تقضي بوضع فيتو روسي على كل ما من شأنه ان يمس النظام السوري او حلفاءه في لبنان. وهذه المعادلة تكاد تصبح السقف الاساسي لمعالجة وضع سوريا، وحل أزمة الحكم التي يدخلها لبنان تدريجاً، بحيث تبقى الكلمة الفصل للفريق الداعم لهذا المحور.

بين هاتين الرؤيتين، يصبح لأي حدث سوري او اقليمي وجهان مختلفان تماماً. حتى ان المعلومات التي تناولها الفريقان عن نتائج زيارة الموفد الدولي الاخضر الابراهيمي لدمشق، وما سمعه من الرئيس السوري بشار الاسد والشروط التي وضعها لمؤتمر جنيف ودوره فيه وبعده، تختلف جذرياً. لذا، تكاد تصبح محاولة تلمّس بعض المعلومات والقراءة الخارجة عن تطلعات هذين الفريقين ضرورية لاخراج هذا الحدث، الذي يحاول كل منهما تجييره لمصلحته، عن الاطار المعزول ووضعه في سياق سياسي دولي بالحد المقبول، على قاعدة ان واشنطن او طهران او روسيا لا تضع مصلحة لبنان في سلم اولوياتها، خلال نقاشها لمستقبل النظام السوري، او رسمها لخريطة المنطقة.

الزيارة التي قام بها وزير الخارجية الاميركي جون كيري الى السعودية بعد تأخير اسابيع، بحسب الذين اطلعوا على تقارير ديبلوماسية وامنية حولها، لم تأت الا في اطار الجهود التي يبذلها كيري لضم الرياض الى الاتفاق الذي عقده مع نظيره الروسي سيرغي لافروف في شأن ازمة الكيميائي السوري ومتفرعاته. مع التذكير ان الرياض رفضت مرات عدة استقبال اي موفد اميركي، وأحالت اي مراجعة اميركية معها على سفيرها في واشنطن.

يجهد كيري في ايجاد تسوية للازمة السورية قبل مؤتمر «جنيف 2»، من اجل الحصول على تعهد من روسيا وايران بعدم ترشح الرئيس الاسد لولاية جديدة السنة المقبلة. ولا يزال هذا البند، بحسب متصلين بالادارة الاميركية، اساسياً في رؤية واشنطن لمستقبل سوريا، وعلى قاعدته تدور مفاوضاتها الدولية التي لم تجد صدى ايجابيا لدى دول الخليج والسعودية تحديداً. وعلى هذا الاساس ايضاً، نشط مع السعودية عبر تأكيد جملة ثوابت حدّدها بنفسه عن مستقبل هذا النظام، والعلاقة مع المعارضة السورية. ويدرك وزير الخارجية الاميركي تماماً اهمية المكان الذي قال فيه هذا الكلام، وخصوصاً عن الاهداف المشتركة بين البلدين. اذ يأتي لقاؤه الملك عبدالله بن عبد العزيز ونظيره سعود الفيصل بعد اقل من اسبوعين على لقاء جمع العاهل السعودي مع الملك عبد الله الاردني وولي عهد ابو ظبي الشيخ محمد بن زايد آل نهيان في حضور رئيس الاستخبارات السعودية الامير بندر بن سلطان. محور القمة المذكورة، بحسب تقارير غربية، الرد على سياسة واشنطن مع ايران وروسيا تجاه سوريا (والى حد ما مصر) وكيفية تأطير جهود الدول العربية لمنع ايران من تحقيق مكاسب في سوريا، ومساعدة المعارضة السورية بدعمها عسكرياً عبر الدول المجاورة ومنها الاردن، والاهم عدم الموافقة على موعد مؤتمر جنيف الا بعد مجاراة واشنطن للرياض في مواقفها من مستقبل النظام السوري.

جاءت زيارة كيري في اطار السعي الى تخفيف حدّة الشروط السعودية، وتعزيز عوامل الثقة بينهما. لذا سبقت زيارته لها تأكيده من القاهرة استمرار التعاون مع مصر «الشريك الحيوي» والحكومة الموقتة التي تدعمها السعودية، بعدما كانت واشنطن تحفظت على الانقلاب على الرئيس محمد مرسي وجمدت جزءاً من مساعداتها.

من هنا تبدو الانطباعات عن جولة كيري مغايرة تماما لتلك التي عمت بعد الكشف عن الاتفاق الذي توصل اليه مع روسيا وايران في ملف الكيميائي السوري، وبدا في حينه انه رجّح كفة هذا المحور على كفة حلفاء واشنطن التقليديين في المنطقة. وما يعزز هذه الانطباعات ان الدور الروسي لا يزال يترك اسئلة حوله، وخصوصا بعد ما اثير حول «تفهم روسي» لمرحلة ما بعد الاسد، وحول الدور المفترض لنائب رئيس الوزراء السوري قدري جميل وعلاقته بروسيا، اضافة الى حرص موسكو على علاقتها مع السعودية ودورها في اي عملية حل لسوريا.

لكن كل ذلك يبدو اليوم معلقاً في انتظار جولة جديدة من العنف السوري. وتأخير مؤتمر جنيف، كما بدأ يلوح، الى ما بعد السنة الجديدة، سيزيد من فرص النظام السوري لتحقيق نقلة نوعية في معركته تمكّنه من رفض اي تسوية تتم على حسابه. الا اذا دخلت الدول العربية المعنية بقوة لرفع مستوى دعمها للمعارضة ومدّها بأسلحة نوعية ومنها المضاد للطائرات للمساهمة في تحقيق خرق ميداني قادر على قلب موازين القوى وتحسين شروط التفاوض قبل «جنيف ــ 2»، وهو ما كان محور اللقاءات العربية الاخيرة في الرياض التي تستعيد حركتها بعد انكفاء، وسيكون للبنان حصة فيها، وما يرشح حتى الآن انها حركة سياسية محصورة بالمكان والزمان.
  • فريق ماسة
  • 2013-11-05
  • 7005
  • من الأرشيف

الرياض تستعيد حركتها على ايقاع تفاهــم كيري ـ لافروف

تستعيد السعودية دورها تدريجاً في المنطقة بعد الانكفاء الاخير على خلفية التفاهم الاميركي ـــ الروسي حول سوريا. وتأتي زيارة وزير الخارجية جون كيري اليها لتزيد وتيرة الحركة مجدداً حول تصوّر جديد لما قبل «جنيف » وما بعده. وحصة لبنان من هذه الحركة لا تزال محدودة لا يمكن ان تكون قراءة المتغيرات الدولية والاقليمية الاخيرة أكثر اختلافاً بين قوى 8 و14 آذار عما هي عليه اليوم. ثمة مسافة شاسعة بين الرؤيتين، الى الحد الذي لا يمكن لأي منهما ان يلتقي، ولو على تقاطع صغير، حول مستقبل لبنان وسوريا في خضم الحركة الدولية حولهما. ينقل احد الذين التقوا الرئيس سعد الحريري، اخيراً، ان الرجل لم ينظر يوما الى الحدث اللبناني من الزاوية الاقليمية كما هي حاله اليوم. وهو، بهذا المعنى، يربط الأزمة السياسية الداخلية بالسياق الاقليمي والدولي، فيضع رؤية الفريق الذي ينتمي اليه لمعالجة اي ازمة داخلية في ثلاجة الانتظار ريثما يتم تلمّس آفاق مؤتمر جنيف وما بعده. وبذلك، يصبح تأليف الحكومة ومن بعدها استحقاق رئاسة الجمهورية مرهونين بما ينتج من معالم اي تسوية مرتقبة للوضع السوري، ويصير الدور الاميركي في الحوار مع ايران، ومن ثم المحادثات الاخيرة مع السعودية، الحلقة الابرز في انهاء الوضع السوري لمصلحة المعارضة السورية، وفي اخراج لبنان من المحور الايراني ــ السوري الذي يغرق فيه. في المقابل، فان ما يمكن ان يختصره احد قادة فريق 8 آذار وحلفائه، هو أن الروس (بعد الايرانيين) ارسوا في الشرق الاوسط ــ بعد دخولهم على خط الازمة السورية وخصوصاً ابان التحضير الاميركي للضربة العسكرية على سوريا ــ معادلة جديدة تقضي بوضع فيتو روسي على كل ما من شأنه ان يمس النظام السوري او حلفاءه في لبنان. وهذه المعادلة تكاد تصبح السقف الاساسي لمعالجة وضع سوريا، وحل أزمة الحكم التي يدخلها لبنان تدريجاً، بحيث تبقى الكلمة الفصل للفريق الداعم لهذا المحور. بين هاتين الرؤيتين، يصبح لأي حدث سوري او اقليمي وجهان مختلفان تماماً. حتى ان المعلومات التي تناولها الفريقان عن نتائج زيارة الموفد الدولي الاخضر الابراهيمي لدمشق، وما سمعه من الرئيس السوري بشار الاسد والشروط التي وضعها لمؤتمر جنيف ودوره فيه وبعده، تختلف جذرياً. لذا، تكاد تصبح محاولة تلمّس بعض المعلومات والقراءة الخارجة عن تطلعات هذين الفريقين ضرورية لاخراج هذا الحدث، الذي يحاول كل منهما تجييره لمصلحته، عن الاطار المعزول ووضعه في سياق سياسي دولي بالحد المقبول، على قاعدة ان واشنطن او طهران او روسيا لا تضع مصلحة لبنان في سلم اولوياتها، خلال نقاشها لمستقبل النظام السوري، او رسمها لخريطة المنطقة. الزيارة التي قام بها وزير الخارجية الاميركي جون كيري الى السعودية بعد تأخير اسابيع، بحسب الذين اطلعوا على تقارير ديبلوماسية وامنية حولها، لم تأت الا في اطار الجهود التي يبذلها كيري لضم الرياض الى الاتفاق الذي عقده مع نظيره الروسي سيرغي لافروف في شأن ازمة الكيميائي السوري ومتفرعاته. مع التذكير ان الرياض رفضت مرات عدة استقبال اي موفد اميركي، وأحالت اي مراجعة اميركية معها على سفيرها في واشنطن. يجهد كيري في ايجاد تسوية للازمة السورية قبل مؤتمر «جنيف 2»، من اجل الحصول على تعهد من روسيا وايران بعدم ترشح الرئيس الاسد لولاية جديدة السنة المقبلة. ولا يزال هذا البند، بحسب متصلين بالادارة الاميركية، اساسياً في رؤية واشنطن لمستقبل سوريا، وعلى قاعدته تدور مفاوضاتها الدولية التي لم تجد صدى ايجابيا لدى دول الخليج والسعودية تحديداً. وعلى هذا الاساس ايضاً، نشط مع السعودية عبر تأكيد جملة ثوابت حدّدها بنفسه عن مستقبل هذا النظام، والعلاقة مع المعارضة السورية. ويدرك وزير الخارجية الاميركي تماماً اهمية المكان الذي قال فيه هذا الكلام، وخصوصاً عن الاهداف المشتركة بين البلدين. اذ يأتي لقاؤه الملك عبدالله بن عبد العزيز ونظيره سعود الفيصل بعد اقل من اسبوعين على لقاء جمع العاهل السعودي مع الملك عبد الله الاردني وولي عهد ابو ظبي الشيخ محمد بن زايد آل نهيان في حضور رئيس الاستخبارات السعودية الامير بندر بن سلطان. محور القمة المذكورة، بحسب تقارير غربية، الرد على سياسة واشنطن مع ايران وروسيا تجاه سوريا (والى حد ما مصر) وكيفية تأطير جهود الدول العربية لمنع ايران من تحقيق مكاسب في سوريا، ومساعدة المعارضة السورية بدعمها عسكرياً عبر الدول المجاورة ومنها الاردن، والاهم عدم الموافقة على موعد مؤتمر جنيف الا بعد مجاراة واشنطن للرياض في مواقفها من مستقبل النظام السوري. جاءت زيارة كيري في اطار السعي الى تخفيف حدّة الشروط السعودية، وتعزيز عوامل الثقة بينهما. لذا سبقت زيارته لها تأكيده من القاهرة استمرار التعاون مع مصر «الشريك الحيوي» والحكومة الموقتة التي تدعمها السعودية، بعدما كانت واشنطن تحفظت على الانقلاب على الرئيس محمد مرسي وجمدت جزءاً من مساعداتها. من هنا تبدو الانطباعات عن جولة كيري مغايرة تماما لتلك التي عمت بعد الكشف عن الاتفاق الذي توصل اليه مع روسيا وايران في ملف الكيميائي السوري، وبدا في حينه انه رجّح كفة هذا المحور على كفة حلفاء واشنطن التقليديين في المنطقة. وما يعزز هذه الانطباعات ان الدور الروسي لا يزال يترك اسئلة حوله، وخصوصا بعد ما اثير حول «تفهم روسي» لمرحلة ما بعد الاسد، وحول الدور المفترض لنائب رئيس الوزراء السوري قدري جميل وعلاقته بروسيا، اضافة الى حرص موسكو على علاقتها مع السعودية ودورها في اي عملية حل لسوريا. لكن كل ذلك يبدو اليوم معلقاً في انتظار جولة جديدة من العنف السوري. وتأخير مؤتمر جنيف، كما بدأ يلوح، الى ما بعد السنة الجديدة، سيزيد من فرص النظام السوري لتحقيق نقلة نوعية في معركته تمكّنه من رفض اي تسوية تتم على حسابه. الا اذا دخلت الدول العربية المعنية بقوة لرفع مستوى دعمها للمعارضة ومدّها بأسلحة نوعية ومنها المضاد للطائرات للمساهمة في تحقيق خرق ميداني قادر على قلب موازين القوى وتحسين شروط التفاوض قبل «جنيف ــ 2»، وهو ما كان محور اللقاءات العربية الاخيرة في الرياض التي تستعيد حركتها بعد انكفاء، وسيكون للبنان حصة فيها، وما يرشح حتى الآن انها حركة سياسية محصورة بالمكان والزمان.

المصدر : الأحبار/ هيثم القصيفي


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة