يبدو أن خبراء الأنثروبولوجيا في الخارجية الأمريكية نصحوا جون كيري بأن أفضل سياسة للتعامل مع العرب هو اتباع أسلوب ‘بوس الخشم’ واللحية والجبين وجبر الخواطر، وذلك بعد أن أرسلت المملكة العربية السعودية إشارات قويّة الى العالم والمنطقة بأنها قد تتحوّل فجأة الى دولة ممانعة ومقاومة تدعم الانتفاضة الفلسطينية وتزود المعارضة السورية بالأسلحة النوعية ‘الخطيرة’ (على حد تعبير مجلة ‘فورين بوليسي’ الأمريكية الشهيرة) وتبدأ التعاون مع الباكستان للعمل على مفاعل نووي يحقق، في المستقبل القريب (او البعيد جداً!) توازن رعب مفتقداً بينها وبين ايران المنفلتة من عقالها والتي تهدد لا السعودية ودول الخليج العربي فحسب بل كل منطقة المشرق العربي.

سياسة ‘حُبّ الخَشم’ (كما يقال في اللهجة السعودية) بدأت مع اطلالة كيري في مصر، فالتصريحات التطبيعية حول ‘ديمقراطية’ الجيش المصري التي أدلى بها هناك كانت موجّهة الى السلطات السعودية بقدر (او ربّما أكثر) من نظيرتها المصرية، وقد استقبلت كما لو كانت انتصاراً لوجهة النظر الخارجية السعودية في العالم العربي، وما لبث كيري أن أتبعها بتصريح منافق حول قضية باتت تشكل فضيحة كبيرة للسعودية قائلا ان السماح للنساء في السعودية بقيادة السيارات ‘شأن داخلي’ في تراجع عن تصريح لافت لمتحدثة الخارجية الامريكية جنيفر بساكي قبل أسبوع فقط، قالت فيه ان الولايات المتحدة الأمريكية ‘تدعم الحق العالمي للنساء في السعودية بقيادة السيارات’، وأعربت فيه للسعودية عن قلق الحكومة الأمريكية ‘حيال ما يتعلق بحقوق الانسان’.

بعد الملفّ المصري انتقل كيري الى الملف السوري فصرّح عدة تصريحات (من فئة ‘كلام الليل يمحوه النهار’) منها ان ‘لا مكان للأسد في المرحلة الانتقالية’، أما كيف ينزاح الأسد من مكانه فجوابه كان أكثر دقّة وصراحة في قول كيري: ‘الولايات المتحدة ليست لديها سلطة قانونية أو رغبة في هذا الوقت للخوض في الحرب السورية’.

خذوا هذا التصريح القويّ الثاني لكيري: ‘لن نقف مكتوفي الأيدي ضد تجاوزات الأسد’. كيف؟ هل سيدعم الأمريكيون إذن المعارضة السورية لإزاحة الأسد؟ يجيب كيري: بـ’التشاور’ مع السعودية و’الشركاء’ الآخرين للاعداد لجنيف 2، وبـ’النقاش’ حول سبل منع حزب الله من تحديد مستقبل لبنان.

يوضح كيري موقفه الحقيقي بـ’لا’ نافية وجازمة وحاسمة للخوض في الحرب السورية، او تسليح المعارضة السورية (او حتى السماح للسعودية بتسليحها). ما يضعه كيري فعلاً على الطاولة اذن هو ‘نقاش’ و’تشاور’ ومؤتمرات.

لا نعتقد ان المسؤولين السعوديين قد تأثّروا بالهجوم العاطفي الأمريكي هذا فرغم ‘أهمّية’ عدم قيادة النساء للسيارات في السعودية، ورغم قدوم وفد أمريكي لمصر لزيادة المساعدات، فهاتان القضيتان ليستا أكبر مشاكلهم فما يقضّ مضاجعهم حقّاً هو الخوف من صفقة أمريكية تثبّت أركان المحور الإيراني وأدواته في العراق وسورية ولبنان (وصولاً إلى حوثيي اليمن وجيب في أرتيريا وجزر الامارات المحتلة ومصانع السلاح في السودان واستثمار ملفات الشيعة في البحرين والعالم العربي).

قرأ المسؤولون السعوديون ما يجري في المنطقة على أنه محاولة لتحجيم وزن المملكة في العالم ولكنهم لم يدركوا أنهم ‘مسؤولون’ أساساً عن هذا التحجيم بقراءتهم الخاطئة لما يجري في العالم وبانجرافهم نحو قرارات تقسم الأمة العربية وتفضي بها إلى استقطابات مدمّرة.

لا نتوقع أبداً من السعودية أن تكون نصيرة للثورات والديمقراطية والانتقال الى المدنية لكنّ خلطها بين التكتيكي والاستراتيجي أدى لاتخاذ قرار دعم الثورة المضادة في مصر ومنع التسويات بين مكوّنات المجتمع المدني، مما فتح الباب على إنقسام عميق في الجسم العربي الإسلامي تدفع الآن السعودية ثمنه من رصيدها في كل المنطقة.

  • فريق ماسة
  • 2013-11-05
  • 9458
  • من الأرشيف

كيري في السعودية ‘الممانعة’: سياسة جبر الخواطر!

يبدو أن خبراء الأنثروبولوجيا في الخارجية الأمريكية نصحوا جون كيري بأن أفضل سياسة للتعامل مع العرب هو اتباع أسلوب ‘بوس الخشم’ واللحية والجبين وجبر الخواطر، وذلك بعد أن أرسلت المملكة العربية السعودية إشارات قويّة الى العالم والمنطقة بأنها قد تتحوّل فجأة الى دولة ممانعة ومقاومة تدعم الانتفاضة الفلسطينية وتزود المعارضة السورية بالأسلحة النوعية ‘الخطيرة’ (على حد تعبير مجلة ‘فورين بوليسي’ الأمريكية الشهيرة) وتبدأ التعاون مع الباكستان للعمل على مفاعل نووي يحقق، في المستقبل القريب (او البعيد جداً!) توازن رعب مفتقداً بينها وبين ايران المنفلتة من عقالها والتي تهدد لا السعودية ودول الخليج العربي فحسب بل كل منطقة المشرق العربي. سياسة ‘حُبّ الخَشم’ (كما يقال في اللهجة السعودية) بدأت مع اطلالة كيري في مصر، فالتصريحات التطبيعية حول ‘ديمقراطية’ الجيش المصري التي أدلى بها هناك كانت موجّهة الى السلطات السعودية بقدر (او ربّما أكثر) من نظيرتها المصرية، وقد استقبلت كما لو كانت انتصاراً لوجهة النظر الخارجية السعودية في العالم العربي، وما لبث كيري أن أتبعها بتصريح منافق حول قضية باتت تشكل فضيحة كبيرة للسعودية قائلا ان السماح للنساء في السعودية بقيادة السيارات ‘شأن داخلي’ في تراجع عن تصريح لافت لمتحدثة الخارجية الامريكية جنيفر بساكي قبل أسبوع فقط، قالت فيه ان الولايات المتحدة الأمريكية ‘تدعم الحق العالمي للنساء في السعودية بقيادة السيارات’، وأعربت فيه للسعودية عن قلق الحكومة الأمريكية ‘حيال ما يتعلق بحقوق الانسان’. بعد الملفّ المصري انتقل كيري الى الملف السوري فصرّح عدة تصريحات (من فئة ‘كلام الليل يمحوه النهار’) منها ان ‘لا مكان للأسد في المرحلة الانتقالية’، أما كيف ينزاح الأسد من مكانه فجوابه كان أكثر دقّة وصراحة في قول كيري: ‘الولايات المتحدة ليست لديها سلطة قانونية أو رغبة في هذا الوقت للخوض في الحرب السورية’. خذوا هذا التصريح القويّ الثاني لكيري: ‘لن نقف مكتوفي الأيدي ضد تجاوزات الأسد’. كيف؟ هل سيدعم الأمريكيون إذن المعارضة السورية لإزاحة الأسد؟ يجيب كيري: بـ’التشاور’ مع السعودية و’الشركاء’ الآخرين للاعداد لجنيف 2، وبـ’النقاش’ حول سبل منع حزب الله من تحديد مستقبل لبنان. يوضح كيري موقفه الحقيقي بـ’لا’ نافية وجازمة وحاسمة للخوض في الحرب السورية، او تسليح المعارضة السورية (او حتى السماح للسعودية بتسليحها). ما يضعه كيري فعلاً على الطاولة اذن هو ‘نقاش’ و’تشاور’ ومؤتمرات. لا نعتقد ان المسؤولين السعوديين قد تأثّروا بالهجوم العاطفي الأمريكي هذا فرغم ‘أهمّية’ عدم قيادة النساء للسيارات في السعودية، ورغم قدوم وفد أمريكي لمصر لزيادة المساعدات، فهاتان القضيتان ليستا أكبر مشاكلهم فما يقضّ مضاجعهم حقّاً هو الخوف من صفقة أمريكية تثبّت أركان المحور الإيراني وأدواته في العراق وسورية ولبنان (وصولاً إلى حوثيي اليمن وجيب في أرتيريا وجزر الامارات المحتلة ومصانع السلاح في السودان واستثمار ملفات الشيعة في البحرين والعالم العربي). قرأ المسؤولون السعوديون ما يجري في المنطقة على أنه محاولة لتحجيم وزن المملكة في العالم ولكنهم لم يدركوا أنهم ‘مسؤولون’ أساساً عن هذا التحجيم بقراءتهم الخاطئة لما يجري في العالم وبانجرافهم نحو قرارات تقسم الأمة العربية وتفضي بها إلى استقطابات مدمّرة. لا نتوقع أبداً من السعودية أن تكون نصيرة للثورات والديمقراطية والانتقال الى المدنية لكنّ خلطها بين التكتيكي والاستراتيجي أدى لاتخاذ قرار دعم الثورة المضادة في مصر ومنع التسويات بين مكوّنات المجتمع المدني، مما فتح الباب على إنقسام عميق في الجسم العربي الإسلامي تدفع الآن السعودية ثمنه من رصيدها في كل المنطقة.

المصدر : الماسة السورية/ رأي القدس


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة