تغيّر المشهد بعد جريمة الضاحية. أعادت الجريمة الشلل الى مساعي تأليف الحكومة. رئيس الجمهورية غير قادر على الإقدام، والنائب وليد جنبلاط دار دورة جديدة. بات البعض أكثر استهوالاً لمغامرة بندر بن سلطان بحكومة أمر واقع من دون حزب الله. فهل يكون البديل بتعويم «حكومة الأمر الواقع» الميقاتية، في انتظار أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً في سوريا؟

بات شبه مؤكد أن المرحلة الجديدة التي دخلها لبنان مع انفجار الضاحية، يوم انتقال السيدة العذراء، تعني في ما تعنيه بجدّتها وضعاً حكومياً جديداً أيضاً. ففي الأسابيع التي سبقت الجريمة، كان ثمة سعي واضح إلى تنفيذ تهريبة حكومية، قائمة على ثلاثة استعدادات: أولاً استعداد ميشال سليمان لتوقيع أي تشكيلة حكومية تُرفع إليه، حتى ولو كانت من لون واحد، كما صرّح وبرّر. ثانياً، استعداد تمام سلام للسير في تشكيلة حكومية غير مضمونة الثقة نيابياً، أي تشكيلة يمكن أن تكون نتيجتها المعروفة مسبقاً، تحوّلها حكومة مستقيلة تصرّف أعمال مجلس الوزراء، بدلاً من حكومة ميقاتي المستقيلة أيضاً. وثالثاً، استعداد وليد جنبلاط للسكوت عن لعبة من هذا النوع، ومجاراة موازينها ساعة بساعة. فإذا تبين أنها قابلة للحياة، ذهب معها أبعد نحو الثقة والحكم، وإذا تبين العكس، تراجع عن منحها الثقة، من دون أن يُسقط غرضها الأساسي، والمتمثل في طرد وزراء «حكومة حزب الله» من مكاتبهم، وإدارة الفراغ الفاصل عن الاستحقاق الرئاسي، والفراغ الحاصل بعده.

كل المشهد تغيّر بعد جريمة الضاحية. فالاستعدادات الثلاثة المراهن عليها آنفاً قد سقطت. ميشال سليمان بات يدرك ــــ كما يُفترض ــــ أن أي توقيع يضعه على صيغة حكومية غير وفاقية، بات يعني إعطاءه الغطاء الشرعي والدستوري للتكفيريين لاستكمال جرائمهم وتوسيعها أو حتى تعميمها، فيما بدا واضحاً أن الانفجار ــــ الجريمة أعاد تمام سلام إلى شلله الكامل. لا مبادرة، لا خطوة، لا فكرة، ولا حتى زيارة للضاحية لحظة المأساة، كان يمكن أن تشكل ثغرة معنوية، أو على الأقل شحنة استثمار إنساني وعاطفي، في جدار الجمود الذي أرساه تكليفه منذ أربعة أشهر ونيف. أما وليد جنبلاط، فكان تراجعه هو الأكثر وضوحاً وعلانية. بدأ باتهام إسرائيل بالجريمة، ثم دعا إلى تنسيق أمني بين الأجهزة الرسمية وحزب الله، قبل أن يوفد ابنه ووزيره إلى السعودية في محاولة لإقناع البنادرة بتكييف موقفهم مع مستجد الحديد والدم والنار. لكن السعوديين فهموا موقفه المتراجع قبل وصول الجنبلاطيين، تماماً كما فهم هو الرد البندري عليه بترك موفديه خمسة أيام بلا استقبال ولا اعتذار ولا تفسير.

هكذا يبدو، للوهلة الأولى، أن انفجار الضاحية عمّق المأزق الحكومي المستمر منذ 22 آذار الماضي. قبله كان البعض مستعداً لمجاراة الرياض في مغامرتها. بعده بات هذا البعض يستهول الذهاب أكثر في اللعبة، لكن من دون أي قدرة له على تغيير التعنت السعودي، لا بل في ظل خوف من أن يؤدي هذا التراجع بالذات إلى مزيد من التعنت البندري واستفحال نظرية تعميم الحرب على سوريا ولبنان وتسعيرها أكثر، لتحويلها حرباً شاملة، خصوصاً بعد كلام الأمين العام لحزب الله، الذي جعل المعادلة بين طرفي المواجهة من نوع إما قاتلاً وإما مقتولاً.

ما الذي يمكن أن يبدل في هذا المأزق؟ تطورات كثيرة قادرة على تعديله، نظرياً: حسم المعركة في سوريا، توافق أميركي روسي على جنيف _2 ومعادلة سوريا ما بعده، انفراج إيراني ــــ أميركي أو انفتاح إيراني ــــ سعودي، أو حتى حسم معركة الخلافة داخل العائلة المالكة لنفط الحجاز وجواره، بما يسحب من مخيلة البنادرة وهم وجود فرصة لتوسيع ممتلكاتهم حتى المتوسط، أو حتى قيام أي حراك ضاغط في جوار أملاك السعوديين، أكان من البحرين أم من اليمن أم حتى من داخل تلك الأملاك العائلية المسماة دولة. غير أن أياً من هذه الاحتمالات النظرية لا يبدو مرجحاً في المدى المنظور، وهو ما يفرض على لبنان التفكير في سبل إدارة أزمته لفترة طويلة مقبلة.

وفي هذا السياق بدأ يتردد أن المعنيين يفكرون في الطريقة الممكنة لإعادة تعويم حكومة ميقاتي، أو إحياء ما يمكن إحياؤه من مظاهرها كسلطة تنفيذية، علماً بأن دستور الطائف يحول دون ذلك كلياً، ويقطع بشكل حاسم دون العودة عن استقالة الحكومة، خصوصاً بعدما أُجريت استشارات التكليف، ولو لم يصدر شكلاً بعد مرسوما قبول استقالة ميقاتي وتكليف سلام. وهما المرسومان اللذان يظلان معلقين شكلاً حتى صدورهما مع توأمهما الثالث، مرسوم تشكيل الحكومة الجديدة.

حتى إن البعض بدأ يفكر في ابتكارات دستورية للتحايل على الواقع الراهن، من نوع توقيع عريضة نيابية تطلب من رئيس الجمهورية المبادرة في الموضوع الحكومي، في حال استمرار الفراغ، بما قد يفسر دستورياً على أنه سحب نيابي لثقة استشارات التكليف. لكن الأكيد في هذه الأثناء هو اتجاه رئيسي الجمهورية والحكومة المستقيل للتفكير في دعوة حكومة تصريف الأعمال إلى عقد جلسات استثنائية، على قاعدة الضرورة والعجلة، من أجل كسر صورة الاستقالة السابقة، وفرض اعتياد الجميع صورة جديدة لحكومة تجتمع وتعمل. وقيل إن البعض حاول إمرار الخطوة الأولى على هذا الصعيد في سياق انفجار الضاحية، بحيث يفرض هول الجريمة نفسه على الجميع، وتنبثق من ضحاياه حياة جديدة لحكومة سقطت بذريعة الأمن، وتعود إلى شكل من أشكال الحياة بحجة الأمن أيضاً... في النهاية، قد نكون متجهين فعلاً إلى «حكومة أمر واقع»، لكن من النوع المستقيل، بدل النوع المستحيل.

  • فريق ماسة
  • 2013-08-19
  • 11931
  • من الأرشيف

حكومة الأمر الواقع الميقاتية... الى التعويم

تغيّر المشهد بعد جريمة الضاحية. أعادت الجريمة الشلل الى مساعي تأليف الحكومة. رئيس الجمهورية غير قادر على الإقدام، والنائب وليد جنبلاط دار دورة جديدة. بات البعض أكثر استهوالاً لمغامرة بندر بن سلطان بحكومة أمر واقع من دون حزب الله. فهل يكون البديل بتعويم «حكومة الأمر الواقع» الميقاتية، في انتظار أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً في سوريا؟ بات شبه مؤكد أن المرحلة الجديدة التي دخلها لبنان مع انفجار الضاحية، يوم انتقال السيدة العذراء، تعني في ما تعنيه بجدّتها وضعاً حكومياً جديداً أيضاً. ففي الأسابيع التي سبقت الجريمة، كان ثمة سعي واضح إلى تنفيذ تهريبة حكومية، قائمة على ثلاثة استعدادات: أولاً استعداد ميشال سليمان لتوقيع أي تشكيلة حكومية تُرفع إليه، حتى ولو كانت من لون واحد، كما صرّح وبرّر. ثانياً، استعداد تمام سلام للسير في تشكيلة حكومية غير مضمونة الثقة نيابياً، أي تشكيلة يمكن أن تكون نتيجتها المعروفة مسبقاً، تحوّلها حكومة مستقيلة تصرّف أعمال مجلس الوزراء، بدلاً من حكومة ميقاتي المستقيلة أيضاً. وثالثاً، استعداد وليد جنبلاط للسكوت عن لعبة من هذا النوع، ومجاراة موازينها ساعة بساعة. فإذا تبين أنها قابلة للحياة، ذهب معها أبعد نحو الثقة والحكم، وإذا تبين العكس، تراجع عن منحها الثقة، من دون أن يُسقط غرضها الأساسي، والمتمثل في طرد وزراء «حكومة حزب الله» من مكاتبهم، وإدارة الفراغ الفاصل عن الاستحقاق الرئاسي، والفراغ الحاصل بعده. كل المشهد تغيّر بعد جريمة الضاحية. فالاستعدادات الثلاثة المراهن عليها آنفاً قد سقطت. ميشال سليمان بات يدرك ــــ كما يُفترض ــــ أن أي توقيع يضعه على صيغة حكومية غير وفاقية، بات يعني إعطاءه الغطاء الشرعي والدستوري للتكفيريين لاستكمال جرائمهم وتوسيعها أو حتى تعميمها، فيما بدا واضحاً أن الانفجار ــــ الجريمة أعاد تمام سلام إلى شلله الكامل. لا مبادرة، لا خطوة، لا فكرة، ولا حتى زيارة للضاحية لحظة المأساة، كان يمكن أن تشكل ثغرة معنوية، أو على الأقل شحنة استثمار إنساني وعاطفي، في جدار الجمود الذي أرساه تكليفه منذ أربعة أشهر ونيف. أما وليد جنبلاط، فكان تراجعه هو الأكثر وضوحاً وعلانية. بدأ باتهام إسرائيل بالجريمة، ثم دعا إلى تنسيق أمني بين الأجهزة الرسمية وحزب الله، قبل أن يوفد ابنه ووزيره إلى السعودية في محاولة لإقناع البنادرة بتكييف موقفهم مع مستجد الحديد والدم والنار. لكن السعوديين فهموا موقفه المتراجع قبل وصول الجنبلاطيين، تماماً كما فهم هو الرد البندري عليه بترك موفديه خمسة أيام بلا استقبال ولا اعتذار ولا تفسير. هكذا يبدو، للوهلة الأولى، أن انفجار الضاحية عمّق المأزق الحكومي المستمر منذ 22 آذار الماضي. قبله كان البعض مستعداً لمجاراة الرياض في مغامرتها. بعده بات هذا البعض يستهول الذهاب أكثر في اللعبة، لكن من دون أي قدرة له على تغيير التعنت السعودي، لا بل في ظل خوف من أن يؤدي هذا التراجع بالذات إلى مزيد من التعنت البندري واستفحال نظرية تعميم الحرب على سوريا ولبنان وتسعيرها أكثر، لتحويلها حرباً شاملة، خصوصاً بعد كلام الأمين العام لحزب الله، الذي جعل المعادلة بين طرفي المواجهة من نوع إما قاتلاً وإما مقتولاً. ما الذي يمكن أن يبدل في هذا المأزق؟ تطورات كثيرة قادرة على تعديله، نظرياً: حسم المعركة في سوريا، توافق أميركي روسي على جنيف _2 ومعادلة سوريا ما بعده، انفراج إيراني ــــ أميركي أو انفتاح إيراني ــــ سعودي، أو حتى حسم معركة الخلافة داخل العائلة المالكة لنفط الحجاز وجواره، بما يسحب من مخيلة البنادرة وهم وجود فرصة لتوسيع ممتلكاتهم حتى المتوسط، أو حتى قيام أي حراك ضاغط في جوار أملاك السعوديين، أكان من البحرين أم من اليمن أم حتى من داخل تلك الأملاك العائلية المسماة دولة. غير أن أياً من هذه الاحتمالات النظرية لا يبدو مرجحاً في المدى المنظور، وهو ما يفرض على لبنان التفكير في سبل إدارة أزمته لفترة طويلة مقبلة. وفي هذا السياق بدأ يتردد أن المعنيين يفكرون في الطريقة الممكنة لإعادة تعويم حكومة ميقاتي، أو إحياء ما يمكن إحياؤه من مظاهرها كسلطة تنفيذية، علماً بأن دستور الطائف يحول دون ذلك كلياً، ويقطع بشكل حاسم دون العودة عن استقالة الحكومة، خصوصاً بعدما أُجريت استشارات التكليف، ولو لم يصدر شكلاً بعد مرسوما قبول استقالة ميقاتي وتكليف سلام. وهما المرسومان اللذان يظلان معلقين شكلاً حتى صدورهما مع توأمهما الثالث، مرسوم تشكيل الحكومة الجديدة. حتى إن البعض بدأ يفكر في ابتكارات دستورية للتحايل على الواقع الراهن، من نوع توقيع عريضة نيابية تطلب من رئيس الجمهورية المبادرة في الموضوع الحكومي، في حال استمرار الفراغ، بما قد يفسر دستورياً على أنه سحب نيابي لثقة استشارات التكليف. لكن الأكيد في هذه الأثناء هو اتجاه رئيسي الجمهورية والحكومة المستقيل للتفكير في دعوة حكومة تصريف الأعمال إلى عقد جلسات استثنائية، على قاعدة الضرورة والعجلة، من أجل كسر صورة الاستقالة السابقة، وفرض اعتياد الجميع صورة جديدة لحكومة تجتمع وتعمل. وقيل إن البعض حاول إمرار الخطوة الأولى على هذا الصعيد في سياق انفجار الضاحية، بحيث يفرض هول الجريمة نفسه على الجميع، وتنبثق من ضحاياه حياة جديدة لحكومة سقطت بذريعة الأمن، وتعود إلى شكل من أشكال الحياة بحجة الأمن أيضاً... في النهاية، قد نكون متجهين فعلاً إلى «حكومة أمر واقع»، لكن من النوع المستقيل، بدل النوع المستحيل.

المصدر : الأخبار /جان عزيز


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة