دليل ماسة
أكثر الروابط استخداما
أحياناً يبدو الرثاء مهيناً لشرف الشهادة... فكيف إذا كان الشهيد مدينة أو وطناً، وكانت القضية جهاداً من أجل التحرّر والتحرير.
إن الأمة تكتب مستقبلها الآن بدمائها. إن ملامح الطريق مرسومة بوجوه الشهداء، رجالاً ونساءً وأطفالاً، باعة ومشترين بسطاء لحاجيات بيوتهم، وعابري سبيل إلى مواقع أعمالهم أو إلى صلاة المغرب، وسائقي سيارات أجرة يطاردون الرزق في المسافة بين المدينتين: بيروت التي يتوهّج اسمها كأميرة للصمود، وإن خالطه شيء من حزن الضياع عن الهدف، أحياناً، و«الضاحية» التي باتت بين عناوين النصر على الحرب الإسرائيلية، وقد كانت من قبل بين مواقع التصدي لانحراف سياسة الحكم في اتجاه التسليم بشروط العدو للجلاء عن البلاد بعد اجتياح الرابع من حزيران 1982.
لكأن «الضاحية» منذورة للشهادة. لعلها، وهي ولاّدة المجاهدين، أو مسكنهم ومدرستهم وجامعتهم، ترفض الغرق في ترف العيش اليومي العادي. لعلها ترى، بحكم تجربتها، أنها تستطيع أن تقدم لوطنها الأغلى والأبهى والأكثر.
لعلها وقد سبقت إلى الجهاد واحتضان السابقين إلى الشهادة من أجل فلسطين، وقاومت وهي تحفظ صورة جمال عبد الناصر في وجدانها، وواجهت الانحراف في اتجاه التسليم للانحراف عبر اتفاق 17 أيار 1983 بصدرها العاري، واحترقت متمثلة بالعاصمة ـ الأميرة بيروت في مواجهة الاجتياح الإسرائيلي في حزيران 1982، رافضة أن ترفع أعلام الذل البيضاء... لعلها تأبى أن تخضع لإرهاب القتلة تحت راية الشعار الديني والإسلام منهم براء، خصوصاً وأنها تعرف «الجهاد» بل أن بعضه يعرَّف بها، وأول «الشهود» على عميق معرفتها هو العدو الإسرائيلي ذاته الذي دكها وهدم عمرانها في حربه على لبنان وشعبه بعنوان مقاومته على امتداد ثلاثة وثلاثين يوماً بين 12 تموز و14 آب 2006.
ليس التفجير القاتل في الضاحية الجنوبية لبيروت حادثًا من خارج سياق العمليات الإرهابية التي تضرب فكرة المقاومة قبل جمهورها، وجهد الحركات الثورية التي تفجّرت في مختلف الأقطار العربية لتحرير إرادة الأمة وبناء غدها الأفضل بإرادتها. إنها عملية نموذجية في اختيار الهدف المدني، أي كل الناس، لتخويفهم من فعل الصمود ومن إرادة المواجهة والجهاد من أجل الغد الأفضل.
ومع أن لهذه الجريمة المنظمة خصوصيتها «اللبنانية»، في هذه اللحظة، إلا أنها لا تجيء من خارج سياق الإرهاب المخطط له والممنهج الذي يطاول إرادة الأمة في مختلف أقطارها: من اليمن إلى البحرين فإلى العراق وسوريا، وصولاً إلى مصر وتونس وليبيا، من دون أن ننسى فلسطين الممزقة بالإرهاب الأعظم: العدو الإسرائيلي الذي يبدو أن بعض «التنظيمات السلفية أو الجهادية» قد باتت تقوم بمهمة الأذرع التنفيذية لأغراضه.
ومع اختلاف الأغراض والأهداف المباشرة فإن مفجري العواصم والمدن والضواحي، الذين «يتمنون» قتل أكبر عدد ممكن من «أهلهم»، مسخرين الشعار الديني (الأميركي ـ الإسرائيلي التوجيه والمردود) ضد إرادة أبناء هذه الأرض في بناء غدهم الأفضل بإرادتهم وقدراتهم، من دون أن يغادروا إيمانهم، بل وهم في عميق إيمانهم الديني.
في الماضي كان كثير من اللبنانيين يسمعون اسم «الضاحية» وكأنه آت من خارج عالمهم، لا يستدعيه من البعيد إلا حادث جلل يصلح عنواناً لكارثة وطنية أو لبطولة تتجاوز حدود التوقع. وحتى الأمس القريب كان اسم «الضاحية» يثير لدى سامعيه قدراً من القلق، كأنها، وهي المتداخلة مع شرايين العاصمة حتى التماهي، عالم غامض يقع في كوكب خارج هذه الأرض، تسكنه أقوام من المقنعين متجهمي الوجوه وكأنهم قُدُّوا من صخر.
أما الكثير من الإخوان العرب، الذين يأتون للسياحة والترفيه عن النفس، فكانوا يحاولون تجنب المرور، مجرد المرور، في الضاحية... حتى أن وزراء الخارجية العرب الذين جاءوا لتفقد جراح لبنان خلال الحرب الإسرائيلية قد امتنعوا عن زيارة أهلها وتفقد من قضى منهم ومن ينتظر وما تهدم من عمرانها فطاله الخراب.
لقد باتت «الضاحية» علامة صمود مشعة في ليل الهزيمة العربية. ولقد اكتسب أهلها، الذين ندر أن تفقدهم بعد الاجتياح أو بعد العمليات الإرهابية، إلا قلة قليلة من المسؤولين، مناعة استثنائية في مواجهة الاعتداءات الإسرائيلية، لا سيما وقد أعادت المقاومة عبر مشروع «وعد» بناء ما تهدم فيها.
ولقد كانت الضاحية مجموعة من قرى البرتقال وبساتين الخضرة وبعض المصانع والورش في أطراف العاصمة التي كان ازدهارها يستدعي الفقراء لخدمتها حين اجتاحتها الطفرة الاقتصادية منذ أواسط الخمسينيات. وكما ينمو الأطفال ويكبرون ويبلغون سن الشباب نمت الضاحية وترعرعت عند هوامش العاصمة وعلى فرص العمل فيها. أخذت البيوت تنبت على أطراف البساتين، عشوائياً في البداية، ثم انضبطت داخل أطر التنظيم المدني، إلى حد كبير. صارت الضاحية عالماً متنوع السكان، واعترف أهلها (الأصليون) بالوافدين بعدما تعارفوا فائتلفوا وأخذت الجيرة إلى المصاهرة، وتدريجيا توسعت «الضاحية» حتى صارت مجمعاً من المدن التي تزيد مساحتها على مساحة العاصمة وقد يتعادل السكان فيهما. صارت مدناً لكن أهلها ظلوا يستعذبون تسمية «الضاحية». أسماء شوارعها للشهداء وليس للزعامات. لكأن بيوتها مكتوبة بدماء أهلها. لكأنها منذورة للتضحيات.
ها هي الضاحية المبنية الآن بدماء الشهداء، ترفع هامتها سموا: إنها مهيأة لأن تفتدي وطنها وأمتها، دائماً.
... وهي تعرف أنها هدف دائم للانتقام، لا سيما وقد أضيف الآن إلى العدو الإسرائيلي عدو من الصنف ذاته، بل قد يفوقه شهية للدم، ثم أنه يدعي زوراً وبهتاناً أنه يمثل الدين الحنيف. مع ذلك فهي اليوم أعظم صمودا وأهلها أعظم تمسكا بدينهم، بأرضهم ووطنهم ودولتهم حتى وهي لا تتذكرهم إلا نادراً.
إنها الضاحية ـ النوارة دائماً.
المصدر :
السفير/ طلال سلمان
اكتب تعليق
كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة