لم يشكّل تعيين الدكتور قدري جميل، نائباً لرئيس الوزراء السوري للشؤون الاقتصادية، قراراً بالحسم مع النهج النيوليبرالي ــــ فالأخير، بهذا الشكل أو ذاك، ما يزال فاعلاً رئيسياً في السياسات الحكومية السورية ـــ ولكنه كان علامة على فتح الباب أمام الصراع السياسي الضروري ضد ذلك النهج، ومقدمة للتحشيد نحو استعادة مركزية الدور الاقتصادي الاجتماعي للدولة الوطنية.

إلى ذلك، كانت رمزية توزير الشيوعي المعارض جميل ـــ وزميله السوري القومي علي حيدر ـــ أكبر بكثير من شخصيهما ودوريهما؛ ذلك أنها تشي بقرار النخبة الحاكمة توسيع نطاقها لتشمل المزيد من التيارات والشخصيات المعارضة، نحو حكومة اتحاد وطني تكون عنواناً لتجربة ديموقراطية تتجاوب مع الاحتياجات السورية في تأمين وحدة المجتمع والدولة، وانخراط كل القوى الوطنية في عملية التنمية والمقاومة.

وعلى هاتين الخلفيتين بالذات، كسب النظام السوري العقول والقلوب لدى الجسم الأساسي من اليسار المشرقي والعربي، الذي حمل أعباء المعركة الأيديولوجية والثقافية وأحياناً الجماهيرية لصالح دمشق، في حين كان خطابها محاصَراً ولا يحظى بالثقل اللازم للمجابهة، خصوصاً أن حزب البعث كان قد فقد فعاليته في سورية والمنطقة.

اليوم، يتعرّض «النائب الاقتصادي»، جميل، إلى حملة لا تستهدف شخصه، وإنما خطه الوطني الاجتماعي اليساري، وتعكس اتجاه أوساط في النظام السوري للتخلّص مبكراً من التحالف مع هذا الخط، ظنّاً منها أن الانجازات التي يحققها الجيش العربي السوري ضد الإرهابيين، وزعزعة مواقع حُماتهم الإقليميين والدوليين، ستمهّد الأرض نحو العودة إلى الاستبدادية واستكمال المشروع النيوليبرالي الكمبرادوري تحت الشعار المضلّل المسمى «اقتصاد السوق الاجتماعي». وهناك توقعات بأن تعكس الحكومة السورية المقبلة، هذا الارتكاس. وهو أسوأ ما يمكن أن يقع لشعب سوريا وجيشها، وما قدماه من تضحيات جسيمة، لكي تتمكن الجمهورية من الحفاظ على استقلالها ووحدتها وقوتها، وتكسر حلقة المتنفذين الفاسدين، وتحسم، نهائياً، مع النهج النيوليبرالي الكمبرادوري الذي أفقر وهمّش ملايين السوريين، وشوّه وعيهم الوطني، وتركهم لقمة سائغة للمؤثرات الظلامية، واخترق، هنا وهناك، الصفوف، لصالح الغزاة.

طوال الأشهر الثمانية والعشرين الماضية من احتدام الحرب في سوريا، تفهّم الوطنيون واليساريون والقوميون التقدميون الذين انضموا إلى خندقه، دواعي الرئيس بشار الأسد في تمهّله الحسم مع الأجنحة اليمينية والفاسدة في نظامه، بسبب الاضطرار الى التماسك وقت الحرب. ولكن، مع وصول الحرب إلى خواتيمها، كيف يمكن تفهُّم أن تحصد تلك الأجنحة بالذات، نتائج تضحيات الضباط والجنود والمواطنين الكادحين؟ وهذه ليست، للأسف، مجرد فرضية في الصراع الاجتماعي المتوقع، وانما عملية شغّالة تتجمّع عناصرها، وتسنّ أسنانها لإخضاع إعادة الإعمار لمصلحة الفئات نفسها التي جرفت سوريا من داخلها، وأساءت لسمعة نظامها الوطني، وألحقت أفدح الأضرار باقتصادها وأفقرت شعبها.

في بداية الحرب، كانت الدوائر الامبريالية والصهيونية تريد اسقاط النظام والدولة في سوريا، ثم تحولت إلى هدفين أقلّ طموحا، إزاحة الأسد (وهذا ما كان محور نشاط الدبلوماسية الأميركية منذ جنيف 1) وتحجيم قدرات الجيش العربي السوري (وهذا ما يشكّل هاجس إسرائيل التي تواظب على ضرب السلاح النوعي السوري). وإذا كانت المساعي لتحقيق هذين الهدفين، لا تزال مستمرة، فإن إعادة دراسة مروحة الأهداف في الحرب على سوريا، من جديد، بدأت بالفعل. وهي تتجه إلى الاعتراف بالانتصار السوري، والسعي إلى تفريغه من محتواه، عبر تفاهمات تضمن اندماج سوريا في اقتصاد السوق المعولَم، والتراجع عن استراتيجية المواجهة الدفاعية مع إسرائيل والمقاومة في الجولان. ومن الواضح أن أجنحة وازنة في النظام السوري، تجد، في هذه الصيغة، ما يحقق مصالحها. وهي تسعى، منذ الآن، لبثّ رسائل الترحيب بها.

المشروع النيوليبرالي الكمبرادوري في سوريا، لا يقتصر الآن، فقط، على تفكيك القطاع العام، واخضاع موارد الدولة للمستثمرين الأجانب ووكلائهم المحليين، وإنما تنفتح شهيته لإلغاء كامل لدور الدولة الاقتصادي الاجتماعي، من جهة، وتهميش البرجوازية الصناعية والصناعة ـــ لدى القطاعين العام والخاص ـــ من جهة ثانية، وتسليع الأرض، وتفكيك الاقتصاد الفلاحي لمصلحة الشركات، من جهة ثالثة. وإذا تمكنت قوى هذا المشروع الأسود من انجازه، فهذا يعني أن الأهداف الرئيسية للحرب على سوريا ستتحقق على المستويين السياسي والدفاعي أيضا؛ فالاستقلال ليس نشيداً وإنما بنية وطنية تنموية مستقلة، والدفاع ـــ والمقاومة ـــ ليسا ممكنين، في دولة بحجم سوريا، من دون اقتصاد عادل وديموقراطية اجتماعية وحكومة اتحاد وطني.

نجاح الأجنحة اليمينية في سرقة الانتصار السوري، ليس قَدراً؛ فالقوى التي قاومت الإرهاب وحُماته، يمكنها ـــ وعليها ـــ أن تهبّ، الآن، لمقاومة النيوليبرالية وحُماتها.

  • فريق ماسة
  • 2013-07-16
  • 12606
  • من الأرشيف

بهدوء | سورية، حملة على الخط الوطني الاجتماعي؟

لم يشكّل تعيين الدكتور قدري جميل، نائباً لرئيس الوزراء السوري للشؤون الاقتصادية، قراراً بالحسم مع النهج النيوليبرالي ــــ فالأخير، بهذا الشكل أو ذاك، ما يزال فاعلاً رئيسياً في السياسات الحكومية السورية ـــ ولكنه كان علامة على فتح الباب أمام الصراع السياسي الضروري ضد ذلك النهج، ومقدمة للتحشيد نحو استعادة مركزية الدور الاقتصادي الاجتماعي للدولة الوطنية. إلى ذلك، كانت رمزية توزير الشيوعي المعارض جميل ـــ وزميله السوري القومي علي حيدر ـــ أكبر بكثير من شخصيهما ودوريهما؛ ذلك أنها تشي بقرار النخبة الحاكمة توسيع نطاقها لتشمل المزيد من التيارات والشخصيات المعارضة، نحو حكومة اتحاد وطني تكون عنواناً لتجربة ديموقراطية تتجاوب مع الاحتياجات السورية في تأمين وحدة المجتمع والدولة، وانخراط كل القوى الوطنية في عملية التنمية والمقاومة. وعلى هاتين الخلفيتين بالذات، كسب النظام السوري العقول والقلوب لدى الجسم الأساسي من اليسار المشرقي والعربي، الذي حمل أعباء المعركة الأيديولوجية والثقافية وأحياناً الجماهيرية لصالح دمشق، في حين كان خطابها محاصَراً ولا يحظى بالثقل اللازم للمجابهة، خصوصاً أن حزب البعث كان قد فقد فعاليته في سورية والمنطقة. اليوم، يتعرّض «النائب الاقتصادي»، جميل، إلى حملة لا تستهدف شخصه، وإنما خطه الوطني الاجتماعي اليساري، وتعكس اتجاه أوساط في النظام السوري للتخلّص مبكراً من التحالف مع هذا الخط، ظنّاً منها أن الانجازات التي يحققها الجيش العربي السوري ضد الإرهابيين، وزعزعة مواقع حُماتهم الإقليميين والدوليين، ستمهّد الأرض نحو العودة إلى الاستبدادية واستكمال المشروع النيوليبرالي الكمبرادوري تحت الشعار المضلّل المسمى «اقتصاد السوق الاجتماعي». وهناك توقعات بأن تعكس الحكومة السورية المقبلة، هذا الارتكاس. وهو أسوأ ما يمكن أن يقع لشعب سوريا وجيشها، وما قدماه من تضحيات جسيمة، لكي تتمكن الجمهورية من الحفاظ على استقلالها ووحدتها وقوتها، وتكسر حلقة المتنفذين الفاسدين، وتحسم، نهائياً، مع النهج النيوليبرالي الكمبرادوري الذي أفقر وهمّش ملايين السوريين، وشوّه وعيهم الوطني، وتركهم لقمة سائغة للمؤثرات الظلامية، واخترق، هنا وهناك، الصفوف، لصالح الغزاة. طوال الأشهر الثمانية والعشرين الماضية من احتدام الحرب في سوريا، تفهّم الوطنيون واليساريون والقوميون التقدميون الذين انضموا إلى خندقه، دواعي الرئيس بشار الأسد في تمهّله الحسم مع الأجنحة اليمينية والفاسدة في نظامه، بسبب الاضطرار الى التماسك وقت الحرب. ولكن، مع وصول الحرب إلى خواتيمها، كيف يمكن تفهُّم أن تحصد تلك الأجنحة بالذات، نتائج تضحيات الضباط والجنود والمواطنين الكادحين؟ وهذه ليست، للأسف، مجرد فرضية في الصراع الاجتماعي المتوقع، وانما عملية شغّالة تتجمّع عناصرها، وتسنّ أسنانها لإخضاع إعادة الإعمار لمصلحة الفئات نفسها التي جرفت سوريا من داخلها، وأساءت لسمعة نظامها الوطني، وألحقت أفدح الأضرار باقتصادها وأفقرت شعبها. في بداية الحرب، كانت الدوائر الامبريالية والصهيونية تريد اسقاط النظام والدولة في سوريا، ثم تحولت إلى هدفين أقلّ طموحا، إزاحة الأسد (وهذا ما كان محور نشاط الدبلوماسية الأميركية منذ جنيف 1) وتحجيم قدرات الجيش العربي السوري (وهذا ما يشكّل هاجس إسرائيل التي تواظب على ضرب السلاح النوعي السوري). وإذا كانت المساعي لتحقيق هذين الهدفين، لا تزال مستمرة، فإن إعادة دراسة مروحة الأهداف في الحرب على سوريا، من جديد، بدأت بالفعل. وهي تتجه إلى الاعتراف بالانتصار السوري، والسعي إلى تفريغه من محتواه، عبر تفاهمات تضمن اندماج سوريا في اقتصاد السوق المعولَم، والتراجع عن استراتيجية المواجهة الدفاعية مع إسرائيل والمقاومة في الجولان. ومن الواضح أن أجنحة وازنة في النظام السوري، تجد، في هذه الصيغة، ما يحقق مصالحها. وهي تسعى، منذ الآن، لبثّ رسائل الترحيب بها. المشروع النيوليبرالي الكمبرادوري في سوريا، لا يقتصر الآن، فقط، على تفكيك القطاع العام، واخضاع موارد الدولة للمستثمرين الأجانب ووكلائهم المحليين، وإنما تنفتح شهيته لإلغاء كامل لدور الدولة الاقتصادي الاجتماعي، من جهة، وتهميش البرجوازية الصناعية والصناعة ـــ لدى القطاعين العام والخاص ـــ من جهة ثانية، وتسليع الأرض، وتفكيك الاقتصاد الفلاحي لمصلحة الشركات، من جهة ثالثة. وإذا تمكنت قوى هذا المشروع الأسود من انجازه، فهذا يعني أن الأهداف الرئيسية للحرب على سوريا ستتحقق على المستويين السياسي والدفاعي أيضا؛ فالاستقلال ليس نشيداً وإنما بنية وطنية تنموية مستقلة، والدفاع ـــ والمقاومة ـــ ليسا ممكنين، في دولة بحجم سوريا، من دون اقتصاد عادل وديموقراطية اجتماعية وحكومة اتحاد وطني. نجاح الأجنحة اليمينية في سرقة الانتصار السوري، ليس قَدراً؛ فالقوى التي قاومت الإرهاب وحُماته، يمكنها ـــ وعليها ـــ أن تهبّ، الآن، لمقاومة النيوليبرالية وحُماتها.

المصدر : الأخبار/ ناهض حتر


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة