القوى الكبرى لا تحتضر في الفراش. هكذا قال مارتن وايت، ولكن اين تحتضر القوى الصغرى؟ قد يكون الجواب…تحت اقدام الفيلة!

اذاً، اين يحتضر السوريون؟ رئيس هيئة الاركان المشتركة في الولايات المتحدة الجنرال مارتن ديمبسي قال ان الحرب في سورية قد تستغرق عقدا من الزمن. للتو، سارع الصحافي الاميركي مايكل موينيهان الى التساؤل «هل يقصد الجنرال ان هذا هو الوقت الذي يقتضيه فناء سوريا؟».

لم يكن التساؤل عبثياً. الحصيلة حتى الآن مائة الف قتيل. بالطبع هناك مئات آلاف الجرحى والمعوقين. هناك ايضا ملايين النازحين. ماذا عندما تصل كل الاسلحة المتطورة الى رجال المعارضة وتأخذ الحرب منحى اكثر جنوناً بعدما حدد مسؤولون عرب، ضنينون بالدم السوري كما بالتراب السوري، مهلاً زمنية لاختراق دمشق، وللسيطرة الكاملة على حلب، وللوصول الى مرفأ اللاذقية.

هذه كلها تفاصيل، وقد تكون كلها تمنيات اذا ما اخذنا بالاعتبار ان القوى الكبرى التي لا تحتضر في الفراش حوّلت سورية الى مسرح فسيح لحرب العشر سنوات، وربما لحرب المائة عام، اذا لم يكن العقد كافياً لاعادة ترتيب التوازنات، والمعادلات، ومناطق النفوذ في الكرة الارضية.

خدعنا كثيراً الرئيس جورج بوش الاب حين قال بالنظام العالمي الجديد لدى زوال الاتحاد السوفياتي. عقّب على ذلك زبغنيو بريجنسكي بالقول» بل الفوضى العالمية الجديدة»، وسألنا آنذاك اي نظام عالمي جديد اذا لم تتم اعادة هيكلة منظمة الامم المتحدة التي يفترض ان تكون قد انشئت في ضوء المعادلات التي احدثها مؤتمر يالطا في شباط 1945 بين فرنكلين روزفلت وجوزف ستالين وونستون تشرشل…

لم يحدث اي شيء من هذا القبيل، كما لو ان شيئا لم يتغير. بقيت الهند والمانيا والبرازيل وغيرها وغيرها خارج مجلس الامن الدولي، وبقي هناك البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي دون اي تعديل بنيوي ، ودون ان يمس احد بحلف شمال الاطلسي الذي لم تتم تصفيته كما تمت تصفية حلف وارسو. وكان واضحا ان المقصود بالنظام العالمي الجديد ان يقود القرن( الحادي والعشرون) مولانا…وحيد القرن!

ما يحدث في سورية الآن، ولاحظوا دقة الاختيار وحساسيته، كما لو انه ترجمة عملانية لنبؤة بريجنسكي. ثمة فوضى عالمية على الارض السورية، فلا الاميركيون، ولا الروس، ولا الصينيون، ولا الاوروبيون، يملكون تصوراً لما يفترض ان يكون عليه العالم الذي احد مفاصله الاساسية هو الشرق الاوسط، وان كان هناك عدد من الباحثين الاميركيين يعتبرون ان الولايات المتحدة انما تعيش «ليلة الوداع» في هذه المنطقة لانها ستتحول، في عام 2015، الى مصدّر للنفط إن بفعل النفط الصخري او بفعل اكتشاف حقول جديدة في المدار الكندي وغيره…

 

ولكن هناك اسرائيل التي قد تكون بنظر المحافظين الجدد وغيرهم الكثيرين اكثر اهمية من فلوريدا او اريزونا او حتى كاليفورنيا. هنا يخبرنا آرون ديفيد ميلر ان التعاون التكنولوجي بين واشنطن وتل ابيب في ذروته، على ان تشهد الحقبة الممتدة حتى عام 2030 ثورة الكترونية قد تتعدى الخيال وتحوّل اسرائيل الى قوة كبرى ولعقود طويلة، وان كان هناك من يشكك في دقة هذه «الرؤيا» لان دولاً مثل الصين او مثل ايران تمضي بخطى حثيثة و«خطيرة» في هذا المجال، ودون ان يكون هناك من مجال امام اسرائيل او اي دولة اخرى ان تتحكم بالعالم، او بمناطق معينة من هذا العالم، بواسطة الازرار او ماشاكل ذلك.

ما يعنينا الآن سوريا. لا نتصور ان رئيس الاركان الاميركي يلقي بكلامه جزافاً، بل انه يستند الى معطيات على الارض وفي المحيط، وهي معطيات قد لا تتوفر لأي آخر، وان كان الكثيرون قبله قد تحدثوا عن سنوات طويلة من الصراع، وعلى غرار ما حدث في لبنان حيث لا احد كان يعتقد ان الحروب التي دارت على ارضه، وليس صحيحا انها حروب الآخرين فقط، يمكن ان تستمر لمدة خمسة عشر عاماً. في سوريا، الوضع اكثر تعقيداً بكثير، وثمة ضبابية لامتناهية تحكم المشهد الدولي الآن…

ان جون الترمان، مدير برنامج الشرق الاوسط في مركز الدراسات الاستراتيجية في الولايات المتحدة، هو الذي يقول ان بلاده في مأزق عميق بعد التجربتين الفاشلتين في افغانستان والعراق واللتين تسببتا، بصورة مباشرة او غير مباشرة في اندلاع الازمة المالية التي هزت كل ناطحات السحاب في نيويورك والتي كانت بمثابة الانذار الاخير بأن اميركا فرنكلين روزفلت او هاري ترومان او دوايت ايزنهاور، او حتى اميركا رونالد ريغان آيلة الى الافول،فيما تعقيدات السوق، كما تعقيدات الجغرافيا، ناهيك عن التفاعلات الايديولوجية الغامضة، تجعل من المستحيل الرهان على اتفاق القوى الكبرى على بلورة اطار جديد للمعادلات الاستراتيجية التي يفترض ان تسود العلاقات الدولية بكل تشعباتها وبكل حساسياتها الجيوبوليتيكية.

عندما تكون الصورة هكذا، وبكلام اميركي فصيح، فأي منطق ثأري ذاك الذي يحكم السياسات العربية الخاصة بتزويد المعارضة بأسلحة متطورة لقتل سوريا ولقتل السوريين مادام النظام او المصير  يرتبط باستمرار الضبابية إياها، او بالاحرى باستمرار «اللامعادلات» بحسب تعبير هنري كيسنجر، ودون ان يتخلى فريق اسطنبول عن ذلك الدور الاحمق، فهل تراهم يتقنون القراءة ليتبينوا الى اين هم ذاهبون؟

الذين تابعوا السيناريو الذي اتى بأحمد العاصي الجربا رئيسا للائتلاف  يدركون الى اين تمضي بنا لعبة القبائل داخل لعبة الامم. اجل لعبة قبائل، ولتتكدس الجثث في هذه الصحراء!

  • فريق ماسة
  • 2013-07-16
  • 10626
  • من الأرشيف

الفوضى العالميّة الجديدة … سورية مثالاً

القوى الكبرى لا تحتضر في الفراش. هكذا قال مارتن وايت، ولكن اين تحتضر القوى الصغرى؟ قد يكون الجواب…تحت اقدام الفيلة! اذاً، اين يحتضر السوريون؟ رئيس هيئة الاركان المشتركة في الولايات المتحدة الجنرال مارتن ديمبسي قال ان الحرب في سورية قد تستغرق عقدا من الزمن. للتو، سارع الصحافي الاميركي مايكل موينيهان الى التساؤل «هل يقصد الجنرال ان هذا هو الوقت الذي يقتضيه فناء سوريا؟». لم يكن التساؤل عبثياً. الحصيلة حتى الآن مائة الف قتيل. بالطبع هناك مئات آلاف الجرحى والمعوقين. هناك ايضا ملايين النازحين. ماذا عندما تصل كل الاسلحة المتطورة الى رجال المعارضة وتأخذ الحرب منحى اكثر جنوناً بعدما حدد مسؤولون عرب، ضنينون بالدم السوري كما بالتراب السوري، مهلاً زمنية لاختراق دمشق، وللسيطرة الكاملة على حلب، وللوصول الى مرفأ اللاذقية. هذه كلها تفاصيل، وقد تكون كلها تمنيات اذا ما اخذنا بالاعتبار ان القوى الكبرى التي لا تحتضر في الفراش حوّلت سورية الى مسرح فسيح لحرب العشر سنوات، وربما لحرب المائة عام، اذا لم يكن العقد كافياً لاعادة ترتيب التوازنات، والمعادلات، ومناطق النفوذ في الكرة الارضية. خدعنا كثيراً الرئيس جورج بوش الاب حين قال بالنظام العالمي الجديد لدى زوال الاتحاد السوفياتي. عقّب على ذلك زبغنيو بريجنسكي بالقول» بل الفوضى العالمية الجديدة»، وسألنا آنذاك اي نظام عالمي جديد اذا لم تتم اعادة هيكلة منظمة الامم المتحدة التي يفترض ان تكون قد انشئت في ضوء المعادلات التي احدثها مؤتمر يالطا في شباط 1945 بين فرنكلين روزفلت وجوزف ستالين وونستون تشرشل… لم يحدث اي شيء من هذا القبيل، كما لو ان شيئا لم يتغير. بقيت الهند والمانيا والبرازيل وغيرها وغيرها خارج مجلس الامن الدولي، وبقي هناك البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي دون اي تعديل بنيوي ، ودون ان يمس احد بحلف شمال الاطلسي الذي لم تتم تصفيته كما تمت تصفية حلف وارسو. وكان واضحا ان المقصود بالنظام العالمي الجديد ان يقود القرن( الحادي والعشرون) مولانا…وحيد القرن! ما يحدث في سورية الآن، ولاحظوا دقة الاختيار وحساسيته، كما لو انه ترجمة عملانية لنبؤة بريجنسكي. ثمة فوضى عالمية على الارض السورية، فلا الاميركيون، ولا الروس، ولا الصينيون، ولا الاوروبيون، يملكون تصوراً لما يفترض ان يكون عليه العالم الذي احد مفاصله الاساسية هو الشرق الاوسط، وان كان هناك عدد من الباحثين الاميركيين يعتبرون ان الولايات المتحدة انما تعيش «ليلة الوداع» في هذه المنطقة لانها ستتحول، في عام 2015، الى مصدّر للنفط إن بفعل النفط الصخري او بفعل اكتشاف حقول جديدة في المدار الكندي وغيره…   ولكن هناك اسرائيل التي قد تكون بنظر المحافظين الجدد وغيرهم الكثيرين اكثر اهمية من فلوريدا او اريزونا او حتى كاليفورنيا. هنا يخبرنا آرون ديفيد ميلر ان التعاون التكنولوجي بين واشنطن وتل ابيب في ذروته، على ان تشهد الحقبة الممتدة حتى عام 2030 ثورة الكترونية قد تتعدى الخيال وتحوّل اسرائيل الى قوة كبرى ولعقود طويلة، وان كان هناك من يشكك في دقة هذه «الرؤيا» لان دولاً مثل الصين او مثل ايران تمضي بخطى حثيثة و«خطيرة» في هذا المجال، ودون ان يكون هناك من مجال امام اسرائيل او اي دولة اخرى ان تتحكم بالعالم، او بمناطق معينة من هذا العالم، بواسطة الازرار او ماشاكل ذلك. ما يعنينا الآن سوريا. لا نتصور ان رئيس الاركان الاميركي يلقي بكلامه جزافاً، بل انه يستند الى معطيات على الارض وفي المحيط، وهي معطيات قد لا تتوفر لأي آخر، وان كان الكثيرون قبله قد تحدثوا عن سنوات طويلة من الصراع، وعلى غرار ما حدث في لبنان حيث لا احد كان يعتقد ان الحروب التي دارت على ارضه، وليس صحيحا انها حروب الآخرين فقط، يمكن ان تستمر لمدة خمسة عشر عاماً. في سوريا، الوضع اكثر تعقيداً بكثير، وثمة ضبابية لامتناهية تحكم المشهد الدولي الآن… ان جون الترمان، مدير برنامج الشرق الاوسط في مركز الدراسات الاستراتيجية في الولايات المتحدة، هو الذي يقول ان بلاده في مأزق عميق بعد التجربتين الفاشلتين في افغانستان والعراق واللتين تسببتا، بصورة مباشرة او غير مباشرة في اندلاع الازمة المالية التي هزت كل ناطحات السحاب في نيويورك والتي كانت بمثابة الانذار الاخير بأن اميركا فرنكلين روزفلت او هاري ترومان او دوايت ايزنهاور، او حتى اميركا رونالد ريغان آيلة الى الافول،فيما تعقيدات السوق، كما تعقيدات الجغرافيا، ناهيك عن التفاعلات الايديولوجية الغامضة، تجعل من المستحيل الرهان على اتفاق القوى الكبرى على بلورة اطار جديد للمعادلات الاستراتيجية التي يفترض ان تسود العلاقات الدولية بكل تشعباتها وبكل حساسياتها الجيوبوليتيكية. عندما تكون الصورة هكذا، وبكلام اميركي فصيح، فأي منطق ثأري ذاك الذي يحكم السياسات العربية الخاصة بتزويد المعارضة بأسلحة متطورة لقتل سوريا ولقتل السوريين مادام النظام او المصير  يرتبط باستمرار الضبابية إياها، او بالاحرى باستمرار «اللامعادلات» بحسب تعبير هنري كيسنجر، ودون ان يتخلى فريق اسطنبول عن ذلك الدور الاحمق، فهل تراهم يتقنون القراءة ليتبينوا الى اين هم ذاهبون؟ الذين تابعوا السيناريو الذي اتى بأحمد العاصي الجربا رئيسا للائتلاف  يدركون الى اين تمضي بنا لعبة القبائل داخل لعبة الامم. اجل لعبة قبائل، ولتتكدس الجثث في هذه الصحراء!

المصدر : الديار/ نبيه البرجي


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة