ها هم الإخوان المسلمون في مصر يسقطون ـ أيضاً ـ كمعارضة، بعدما جاء سقوطهم كسلطة مدوّياً... حتى ليصح فيها ما قيل في آخر ملوك الأندلس: «أعطيت حكماً فلم تحسن سياسته/ ومَن لا يسوس الحكم يخلعه».

في السلطة: استغنوا عن الآخرين، كل الآخرين، حتى من كانوا في موقع «الحليف» أو «الصديق»، بل وثمة من كان يتصرف وكأنه «الشريك»... لكنهم اندفعوا يحتكرون مواقع الحكم والنفوذ والمنافع ويبعدون الجميع وقد أخذتهم العزة بالإثم.

افترضوا أنهم يختصرون المسلمين في أربع رياح الأرض، وأنهم حليف استراتيجي للغرب وللأميركيين تحديداً، لا يمكن الاستغناء عنه.. وقدّروا أنهم قادرون على نسج «محور» مع حكّام تركيا، باعتبارهم إخواناً، ومع قاعدة المثلث في باكستان، وبهذا تكتمل سيطرتهم على المشرق عموماً، مكررين تجربة الأحلاف التي حاول الأميركيون والبريطانيون إنشاءها على قاعدة «إسلامية» في مواجهة الحركة القومية العربية الصاعدة، في الخمسينيات، تحت قيادة جمال عبد الناصر.

ولقد اندفعوا كهواة، يريدون احتكار مواقع السلطة والثروة جميعاً.. حاولوا تحييد الجيش، معتمدين على انضباطه وعلى تجربتهم «المغرية» مع المجلس الأعلى لقيادة القوات المسلحة، بشخص المشير طنطاوي ورفاقه، ثم اندفعوا يستبعدون الجميع، حلفاء وأصدقاء، ويقربون أصحاب الثروة من جماعة عهد المخلوع حسني مبارك بمصالحات مشبوهة درّت عليهم مليارات الدولارات، (عليهم وليس على الدولة، وفي مجال تحصيل حقوقها التي سلبها هؤلاء النهّابون)..

لم يتخذوا قراراً واحداً صحيحاً في توقيته أو في استهدافاته، بل لقد استعدوا القوى السياسية جميعاً، وطنية وتقدمية ووسطية، وحتى تلك التي ترفع مثلهم الشعار الإسلامي، ولكن بمنطق مختلف وبمضمون سلفي..

ثم كانت الخطيئة المميتة في استعدائهم الجيش، وذلك حين تصرفوا معه وكأنه «فوج حراسة» لحكمهم، من واجبه أن ينصر المرشد الأعلى، ومن ثم الرئيس الإخواني ظالماً كان أم مظلوماً... وهو كان ظالماً بطبيعة الحال.

وهكذا طُويت صفحة غير مشرقة من تاريخ مصر الحديث، وخرج الإخوان من السلطة مغضبين، وهم بالكاد قد أكملوا السنة الأولى فيها.

.. وها هم يعتصمون في بعض الساحات ويندفعون إلى بعض الشوارع مغضبين، معلنين «الثورة» على «الثورة» التي أنزلت عشرات الملايين إلى ميادين مصر، بمدنها ودساكرها وقراها جميعاً.. تجهر برفض حكمهم، وتطالب بإسقاط رئيسهم الذي لم يشتهر عنه الذكاء كأنهم يتقصدون الصدام ويحاولون استدراج الجيش إلى مواجهات لا يريدها ولا هو بحاجة إليها.

على أن مصر الثورة تمضي في طريقها، وها هي حكومتها الانتقالية الأولى التي لا يجوز بأي حال اعتبارها عنواناً للثورة أو للعهد الجديد، تتقدم لتواجه المسؤولية، بعد مخاض طويل، تبدى خلاله الحرص على محاولة فتح أبواب المصالحة مع الإخوان لتجاوز احتمالات الصراع ولكنهم رفضوا بتعنت ومضوا في التحدي وكأنهم يحاولون تحقيق أهداف سياسية عبر اللجوء إلى العنف.

واضح أن الحكومة الجديدة مزيج من التكنوقراط وممثلي تيارات سياسية ذات حضور شعبي، بينها الناصريون والليبراليون، والأهم: أنها تضم 3 سيدات لكل منهن تاريخها في العمل الثقافي أو الاجتماعي... ثم أنها تضم خبرات اقتصادية وديبلوماسية محترمة..

كذلك فمن الواضح أن ثمة خلافات بين أهل الثورة: هل تكون الانتخابات أولاً أم يتم وضع الدستور أولاً، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الجيش لا يريد أن يمكث في الشارع فترة طويلة.

اليوم، يمكن أن يقال إن صفحة حكم الإخوان قد طُويت تماماً، وإن بقيت تحوم في الأفق مخاطر أن يمضي الإخوان في تحدي إرادة التغيير، وأن يتورطوا في لعبة الدم، حتى وهم يدركون أنهم قد خسروا السلطة وقضي الأمر... ولعلهم قد فجعوا بالموقف الأميركي الذي كانوا يراهنون على أنه لن يتخلى عنهم ولن يعترف بالحكم الجديد... ولكن المبعوث الأميركي الذي زار القاهرة فالتقى أركان الحكم المؤقت قد خيّب أمل الإخوان، فلم يطرح «قضيتهم» وإن أوصى «بالحكمة والحذر».

إلى متى يستمر الإخوان في اعتصامهم وفي مشاغباتهم وفي محاولة تعطيل دورة العمل اليومية، وكل ذلك يكلّفهم مبالغ طائلة؟.. لقد جاءتهم بعض أسباب الدعم من «فلول» يعملون ويقيمون في الخليج.. ولكن هذا لا يكفي وبالتالي فعليهم أن ينفقوا من «مالهم» وهم في هذا المجال مقترون ربما لأنهم يفترضون أنهم سيخوضون مواجهة طويلة لاستعادة «الحكم الشرعي».

أما أطرف ما أبدعه الإخوان فهي تلك الشعارات الثورية باللغة الإنكليزية التي رفعوها بمطالبهم الوطنية أو محاولتهم ترجمة بعض «الأحاديث» وكأنهم يتوجهون بها إلى الخارج.

في أي حال فإن مصر تصنع تاريخها، وربما التاريخ الجديد للمنطقة جميعاً، هذه الأيام... وعيون الدول وكذلك الشعوب تتابع تجربتها باهتمام شديد..

وسيكون يوم الجمعة المقبل موعداً مع تجديد زخم الثورة، عبر استذكار «العبور» وبطولات حرب تشرين (أكتوبر) 1973، والتي ستوفر تزكية إضافية للدور الوطني للقوات المسلحة وإسهامها، بالدم، في معركة تحرير الأرض والإرادة.
  • فريق ماسة
  • 2013-07-16
  • 12894
  • من الأرشيف

خطيئة «الإخوان»

ها هم الإخوان المسلمون في مصر يسقطون ـ أيضاً ـ كمعارضة، بعدما جاء سقوطهم كسلطة مدوّياً... حتى ليصح فيها ما قيل في آخر ملوك الأندلس: «أعطيت حكماً فلم تحسن سياسته/ ومَن لا يسوس الحكم يخلعه». في السلطة: استغنوا عن الآخرين، كل الآخرين، حتى من كانوا في موقع «الحليف» أو «الصديق»، بل وثمة من كان يتصرف وكأنه «الشريك»... لكنهم اندفعوا يحتكرون مواقع الحكم والنفوذ والمنافع ويبعدون الجميع وقد أخذتهم العزة بالإثم. افترضوا أنهم يختصرون المسلمين في أربع رياح الأرض، وأنهم حليف استراتيجي للغرب وللأميركيين تحديداً، لا يمكن الاستغناء عنه.. وقدّروا أنهم قادرون على نسج «محور» مع حكّام تركيا، باعتبارهم إخواناً، ومع قاعدة المثلث في باكستان، وبهذا تكتمل سيطرتهم على المشرق عموماً، مكررين تجربة الأحلاف التي حاول الأميركيون والبريطانيون إنشاءها على قاعدة «إسلامية» في مواجهة الحركة القومية العربية الصاعدة، في الخمسينيات، تحت قيادة جمال عبد الناصر. ولقد اندفعوا كهواة، يريدون احتكار مواقع السلطة والثروة جميعاً.. حاولوا تحييد الجيش، معتمدين على انضباطه وعلى تجربتهم «المغرية» مع المجلس الأعلى لقيادة القوات المسلحة، بشخص المشير طنطاوي ورفاقه، ثم اندفعوا يستبعدون الجميع، حلفاء وأصدقاء، ويقربون أصحاب الثروة من جماعة عهد المخلوع حسني مبارك بمصالحات مشبوهة درّت عليهم مليارات الدولارات، (عليهم وليس على الدولة، وفي مجال تحصيل حقوقها التي سلبها هؤلاء النهّابون).. لم يتخذوا قراراً واحداً صحيحاً في توقيته أو في استهدافاته، بل لقد استعدوا القوى السياسية جميعاً، وطنية وتقدمية ووسطية، وحتى تلك التي ترفع مثلهم الشعار الإسلامي، ولكن بمنطق مختلف وبمضمون سلفي.. ثم كانت الخطيئة المميتة في استعدائهم الجيش، وذلك حين تصرفوا معه وكأنه «فوج حراسة» لحكمهم، من واجبه أن ينصر المرشد الأعلى، ومن ثم الرئيس الإخواني ظالماً كان أم مظلوماً... وهو كان ظالماً بطبيعة الحال. وهكذا طُويت صفحة غير مشرقة من تاريخ مصر الحديث، وخرج الإخوان من السلطة مغضبين، وهم بالكاد قد أكملوا السنة الأولى فيها. .. وها هم يعتصمون في بعض الساحات ويندفعون إلى بعض الشوارع مغضبين، معلنين «الثورة» على «الثورة» التي أنزلت عشرات الملايين إلى ميادين مصر، بمدنها ودساكرها وقراها جميعاً.. تجهر برفض حكمهم، وتطالب بإسقاط رئيسهم الذي لم يشتهر عنه الذكاء كأنهم يتقصدون الصدام ويحاولون استدراج الجيش إلى مواجهات لا يريدها ولا هو بحاجة إليها. على أن مصر الثورة تمضي في طريقها، وها هي حكومتها الانتقالية الأولى التي لا يجوز بأي حال اعتبارها عنواناً للثورة أو للعهد الجديد، تتقدم لتواجه المسؤولية، بعد مخاض طويل، تبدى خلاله الحرص على محاولة فتح أبواب المصالحة مع الإخوان لتجاوز احتمالات الصراع ولكنهم رفضوا بتعنت ومضوا في التحدي وكأنهم يحاولون تحقيق أهداف سياسية عبر اللجوء إلى العنف. واضح أن الحكومة الجديدة مزيج من التكنوقراط وممثلي تيارات سياسية ذات حضور شعبي، بينها الناصريون والليبراليون، والأهم: أنها تضم 3 سيدات لكل منهن تاريخها في العمل الثقافي أو الاجتماعي... ثم أنها تضم خبرات اقتصادية وديبلوماسية محترمة.. كذلك فمن الواضح أن ثمة خلافات بين أهل الثورة: هل تكون الانتخابات أولاً أم يتم وضع الدستور أولاً، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الجيش لا يريد أن يمكث في الشارع فترة طويلة. اليوم، يمكن أن يقال إن صفحة حكم الإخوان قد طُويت تماماً، وإن بقيت تحوم في الأفق مخاطر أن يمضي الإخوان في تحدي إرادة التغيير، وأن يتورطوا في لعبة الدم، حتى وهم يدركون أنهم قد خسروا السلطة وقضي الأمر... ولعلهم قد فجعوا بالموقف الأميركي الذي كانوا يراهنون على أنه لن يتخلى عنهم ولن يعترف بالحكم الجديد... ولكن المبعوث الأميركي الذي زار القاهرة فالتقى أركان الحكم المؤقت قد خيّب أمل الإخوان، فلم يطرح «قضيتهم» وإن أوصى «بالحكمة والحذر». إلى متى يستمر الإخوان في اعتصامهم وفي مشاغباتهم وفي محاولة تعطيل دورة العمل اليومية، وكل ذلك يكلّفهم مبالغ طائلة؟.. لقد جاءتهم بعض أسباب الدعم من «فلول» يعملون ويقيمون في الخليج.. ولكن هذا لا يكفي وبالتالي فعليهم أن ينفقوا من «مالهم» وهم في هذا المجال مقترون ربما لأنهم يفترضون أنهم سيخوضون مواجهة طويلة لاستعادة «الحكم الشرعي». أما أطرف ما أبدعه الإخوان فهي تلك الشعارات الثورية باللغة الإنكليزية التي رفعوها بمطالبهم الوطنية أو محاولتهم ترجمة بعض «الأحاديث» وكأنهم يتوجهون بها إلى الخارج. في أي حال فإن مصر تصنع تاريخها، وربما التاريخ الجديد للمنطقة جميعاً، هذه الأيام... وعيون الدول وكذلك الشعوب تتابع تجربتها باهتمام شديد.. وسيكون يوم الجمعة المقبل موعداً مع تجديد زخم الثورة، عبر استذكار «العبور» وبطولات حرب تشرين (أكتوبر) 1973، والتي ستوفر تزكية إضافية للدور الوطني للقوات المسلحة وإسهامها، بالدم، في معركة تحرير الأرض والإرادة.

المصدر : السفير/ طلال سلمان


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة