تدَّ رئيس الجمهورية الإيراني حسن روحاني في الأرض قدمه. تطرف في إعلان اعتداله من قلب مؤسسة الإذاعة والتلفزيون، حيث الذراع الإعلامية الضاربة للرئيس المنتهية ولايته محمود أحمدي نجاد.

من هناك قالها دون وجل، "الحكومة الحاصلة على دعم الشعب لا تخشى الرأي الحر، ولا مكان للمعايير المزدوجة في إعلامنا، نريد أن نسمع الصوت الذي يعارضنا".

كثر كانوا في انتظار الكلمة الأولى لروحاني، فالتكهنات لم تترك باباً إلا وطرقته: حيناً هو إصلاحي اخترق النظام من موقع الرئاسة، وحيناً آخر هو محافظ اخترق الإصلاحيين مرشحاً للرئاسة، وبين هؤلاء وأولئك خرج الرجل ليشرح رؤيته للمرحلة المقبلة، وفي السطر الأول فيها تأكيد على كونه ابناً شرعياً لولاية الفقيه، وأن انتصاره كان انتصاراً للنظام الذي أكد عبر نسبة المقترعين شرعيته الشعبية.

لا يختلف اثنان على أن إيران قبل انتخاب روحاني ليست كما بعده، لكن العارفين بإيران الثورة والدولة يؤكدون أن ما تغير هو الأسلوب، لكن الهدف لم يتغير. التغيير تكتيكي لا يؤثر في الاستراتيجيا، ولعل في خطاب الرئيس المنتخب حسن روحاني خير دليل على ذلك. فهو، وإن كان، بوضوح، تحيز داخلياً إلى الشباب وفرحهم وللصحافة وحريتها، فبدا أكثر تساهلاً من الرئيس الأسبق السيد محمد خاتمي، إلا أنه في العلاقات مع الخارج قدم توليفة جديدة يجوز تسميتها ربما بـ"التشدد المعتدل"، فانطلق من كون بلاده أكبر دولة إقليمية، وأن عليها أن "تلعب دوراً تاريخياً في المنطقة، عبر انتهاج سياسة الاعتدال التي لا تعني الخضوع والتسليم".

هنا رمى الرجل قنبلة بين السطور عندما تحدث عن مخططات من وصفهم بأعداء إيران لضربها، ودعوته إلى برنامج دقيق لتفكيك الشرق الأوسط الجديد.

المحك الحقيقي لحكومة روحاني سيكون طاولة المفاوضات حول الملف النووي، وفي تعامل إيران مع دول الجوار، لا سيما أن العلاقات بين طهران ودول الضفة الغربية من الخليج في أسوأ أحوالها بسبب تناقض الرؤية والمصالح حول الملف السوري.

كان واضحاً من سير الخطاب واللغة أن الرئيس المنتخب لم يُُرِد الدخول في التفاصيل، فلم يُسَمِّ دولة باسمها، فغابت إسرائيل وأميركا، كما غابت سوريا وفلسطين، ربما لأن الخطاب، بشكل كبير، كان موجهاً للداخل الإيراني.

في بعض تفاصيله، كان خطاب روحاني أشبه بثورة في قلب الثورة، فإلى جانب النقاط التي تحدث فيها عن حرية الإعلام وازدواجية المعايير الإعلامية، تطرق "الرئيس الشيخ" إلى مسألة العلاقة بين الدولة والشباب، فدعا بوضوح إلى تخفيف القيود.

هنا تحدث عن الفرح وأهميته، مستذكراً لحظات من الأسبوع الفائت حين نزل الشبان والشابات إلى شوارع طهران للاحتفال بفوزه، وبعدها بيومين عادوا إلى الساحات للاحتفال بتأهل إيران إلى نهائيات كأس العالم، فأشار إلى أن الشعب الإيراني بطبيعته "يحترم ذاتياً الأخلاق والقواعد السياسية والإسلامية"، وأنه في حال حدوث مخالفة "تكفي نصيحة ودية".

أراد "الرئيس الشيخ" أن يحسم من البداية استقلاله عن التسميات المتبعة في السياسة الإيرانية، فأعلن بوضوح أن حكومته المقبلة لا تتبع أي خط سياسي، بل هي حكومة كل صاحب همة، وصاحب كفاءة، والشرط مجدداً هو الاعتدال.

خطا روحاني في إعلانه هذا خطوة ثابتة نحو تقديم نفسه رئيساً لكل إيران، لا زعيماً إصلاحياً في موقع الرئاسة، وهو ما سيفتح أمامه الكثير من الأبواب المغلقة.

استفاد روحاني كثيراً من خطأ سلفه بالتموضع سياسياً في مكان واحد. فنجاد كان يحكم في ظل علاقة مقطوعة، مع المعارضة جمعاء، ومع جزء من النظام، واعتمد على علاقته المباشرة بالشعب لكنها لم تكن تكفي لتسمح لحالته بالاستمرار.

لا يتناسب هذا مع عقلية روحاني، الذي يعلم وقبل شهر تقريباً على تقلده الحكم رسمياً، أن الطريق إلى شارع "باستور" مقر الرئاسة الإيرانية لم تكن مفروشة بالورد، وأنها من قصر "باستور" باتجاه التحديات التي يواجهها لن تكون كذلك، فالمعركة الحقيقية ستبدأ في ذلك اليوم.

ما يكفيه هو أن تكون الطريق سالكة بين بيته و"بيت رهبر" أو بيت المرشد الأعلى كما يعرف هنا في إيران، ليتمكن من القفز فوق العوائق وليحقق جزءاً رئيسياً من برنامجه الذي وعد بتنفيذه، وعاد وأكد عليه في خطابه الأول.

ما يكفيه إذًا علاقة جيدة مع خامنئي، وخامنئي لم يبخل عليه بذلك، بل وأوصى الجميع قبل أيام بوضع انتقاداتهم جانباً وتقديم ما أمكن من عون ومساعدة إلى الرئيس المنتخب، لأن البلاد في هذه الأيام تحتاج إلى أكثر من الكلام والانتقاد للعمل.

يعلم آية الله خامنئي أن الشارع يعول كثيراً على الحلول التي وعد بتقديمها روحاني خلال الحملة الانتخابية، لا سيما في الجانب الاقتصادي. ويعلم أيضاً، أن البلاد في حالة مواجهة مع بعض الغرب وبعض العرب، وأن الحصار أثخن جراح الاقتصاد المحلي حتى وصل التضخم إلى مستويات غير مسبوقة. ولأنه يعلم ذلك، فهو بحاجة اليوم أكثر مما مضى إلى تحسين الوضع في البلاد وتمتين الجبهة الداخلية، لأنها خط الدفاع الأول في أي معركة مقبلة مع أي من أعداء إيران الكثر.

 

  • فريق ماسة
  • 2013-06-30
  • 6863
  • من الأرشيف

روحاني: سياسة الاعتدال التي لا تعني الخضوع

تدَّ رئيس الجمهورية الإيراني حسن روحاني في الأرض قدمه. تطرف في إعلان اعتداله من قلب مؤسسة الإذاعة والتلفزيون، حيث الذراع الإعلامية الضاربة للرئيس المنتهية ولايته محمود أحمدي نجاد. من هناك قالها دون وجل، "الحكومة الحاصلة على دعم الشعب لا تخشى الرأي الحر، ولا مكان للمعايير المزدوجة في إعلامنا، نريد أن نسمع الصوت الذي يعارضنا". كثر كانوا في انتظار الكلمة الأولى لروحاني، فالتكهنات لم تترك باباً إلا وطرقته: حيناً هو إصلاحي اخترق النظام من موقع الرئاسة، وحيناً آخر هو محافظ اخترق الإصلاحيين مرشحاً للرئاسة، وبين هؤلاء وأولئك خرج الرجل ليشرح رؤيته للمرحلة المقبلة، وفي السطر الأول فيها تأكيد على كونه ابناً شرعياً لولاية الفقيه، وأن انتصاره كان انتصاراً للنظام الذي أكد عبر نسبة المقترعين شرعيته الشعبية. لا يختلف اثنان على أن إيران قبل انتخاب روحاني ليست كما بعده، لكن العارفين بإيران الثورة والدولة يؤكدون أن ما تغير هو الأسلوب، لكن الهدف لم يتغير. التغيير تكتيكي لا يؤثر في الاستراتيجيا، ولعل في خطاب الرئيس المنتخب حسن روحاني خير دليل على ذلك. فهو، وإن كان، بوضوح، تحيز داخلياً إلى الشباب وفرحهم وللصحافة وحريتها، فبدا أكثر تساهلاً من الرئيس الأسبق السيد محمد خاتمي، إلا أنه في العلاقات مع الخارج قدم توليفة جديدة يجوز تسميتها ربما بـ"التشدد المعتدل"، فانطلق من كون بلاده أكبر دولة إقليمية، وأن عليها أن "تلعب دوراً تاريخياً في المنطقة، عبر انتهاج سياسة الاعتدال التي لا تعني الخضوع والتسليم". هنا رمى الرجل قنبلة بين السطور عندما تحدث عن مخططات من وصفهم بأعداء إيران لضربها، ودعوته إلى برنامج دقيق لتفكيك الشرق الأوسط الجديد. المحك الحقيقي لحكومة روحاني سيكون طاولة المفاوضات حول الملف النووي، وفي تعامل إيران مع دول الجوار، لا سيما أن العلاقات بين طهران ودول الضفة الغربية من الخليج في أسوأ أحوالها بسبب تناقض الرؤية والمصالح حول الملف السوري. كان واضحاً من سير الخطاب واللغة أن الرئيس المنتخب لم يُُرِد الدخول في التفاصيل، فلم يُسَمِّ دولة باسمها، فغابت إسرائيل وأميركا، كما غابت سوريا وفلسطين، ربما لأن الخطاب، بشكل كبير، كان موجهاً للداخل الإيراني. في بعض تفاصيله، كان خطاب روحاني أشبه بثورة في قلب الثورة، فإلى جانب النقاط التي تحدث فيها عن حرية الإعلام وازدواجية المعايير الإعلامية، تطرق "الرئيس الشيخ" إلى مسألة العلاقة بين الدولة والشباب، فدعا بوضوح إلى تخفيف القيود. هنا تحدث عن الفرح وأهميته، مستذكراً لحظات من الأسبوع الفائت حين نزل الشبان والشابات إلى شوارع طهران للاحتفال بفوزه، وبعدها بيومين عادوا إلى الساحات للاحتفال بتأهل إيران إلى نهائيات كأس العالم، فأشار إلى أن الشعب الإيراني بطبيعته "يحترم ذاتياً الأخلاق والقواعد السياسية والإسلامية"، وأنه في حال حدوث مخالفة "تكفي نصيحة ودية". أراد "الرئيس الشيخ" أن يحسم من البداية استقلاله عن التسميات المتبعة في السياسة الإيرانية، فأعلن بوضوح أن حكومته المقبلة لا تتبع أي خط سياسي، بل هي حكومة كل صاحب همة، وصاحب كفاءة، والشرط مجدداً هو الاعتدال. خطا روحاني في إعلانه هذا خطوة ثابتة نحو تقديم نفسه رئيساً لكل إيران، لا زعيماً إصلاحياً في موقع الرئاسة، وهو ما سيفتح أمامه الكثير من الأبواب المغلقة. استفاد روحاني كثيراً من خطأ سلفه بالتموضع سياسياً في مكان واحد. فنجاد كان يحكم في ظل علاقة مقطوعة، مع المعارضة جمعاء، ومع جزء من النظام، واعتمد على علاقته المباشرة بالشعب لكنها لم تكن تكفي لتسمح لحالته بالاستمرار. لا يتناسب هذا مع عقلية روحاني، الذي يعلم وقبل شهر تقريباً على تقلده الحكم رسمياً، أن الطريق إلى شارع "باستور" مقر الرئاسة الإيرانية لم تكن مفروشة بالورد، وأنها من قصر "باستور" باتجاه التحديات التي يواجهها لن تكون كذلك، فالمعركة الحقيقية ستبدأ في ذلك اليوم. ما يكفيه هو أن تكون الطريق سالكة بين بيته و"بيت رهبر" أو بيت المرشد الأعلى كما يعرف هنا في إيران، ليتمكن من القفز فوق العوائق وليحقق جزءاً رئيسياً من برنامجه الذي وعد بتنفيذه، وعاد وأكد عليه في خطابه الأول. ما يكفيه إذًا علاقة جيدة مع خامنئي، وخامنئي لم يبخل عليه بذلك، بل وأوصى الجميع قبل أيام بوضع انتقاداتهم جانباً وتقديم ما أمكن من عون ومساعدة إلى الرئيس المنتخب، لأن البلاد في هذه الأيام تحتاج إلى أكثر من الكلام والانتقاد للعمل. يعلم آية الله خامنئي أن الشارع يعول كثيراً على الحلول التي وعد بتقديمها روحاني خلال الحملة الانتخابية، لا سيما في الجانب الاقتصادي. ويعلم أيضاً، أن البلاد في حالة مواجهة مع بعض الغرب وبعض العرب، وأن الحصار أثخن جراح الاقتصاد المحلي حتى وصل التضخم إلى مستويات غير مسبوقة. ولأنه يعلم ذلك، فهو بحاجة اليوم أكثر مما مضى إلى تحسين الوضع في البلاد وتمتين الجبهة الداخلية، لأنها خط الدفاع الأول في أي معركة مقبلة مع أي من أعداء إيران الكثر.  

المصدر : الماسة السورية


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة