كل شيء اختلف صباح أمس. الأخبار الآتية من هُناك تحكي عن انتصار، أو ربما انسحاب «تكتيكي» كما يحلو لمقاتلي الجيش الحُر تسمية انسحابهم عادةً. عناصر الجيش السوري الذين كانوا يتهيأون للمعركة العنيفة، هم أنفسهم، لم يصدّقوا سهولة المعركة الأخيرة، بعد ما قدّموه من ضحايا على مذبح الانتصار، فلم تصبح القصير بالنسبة إليهم سوى حبّة في مسبحة ستنفرط سريعاً

«لقد هربوا. سقطت القصير». عبارة يقولها أحد مقاتلي الجيش، تحمل في طيّاتها عدم تصديق. فالقصير ليست معركة واحدة، بل حرب قاسية أخذت معها ما أخذته من حياة اجتماعية ورفاق سلاح، ووصلت إلى حدّ من الصعوبة، أن استحالت، بالنسبة إلى كثيرين، إمكانية لفظ جملة كهذه أمام الواقع الميداني. أحد الجنود، في داخل مبنى ما يسمّى «المحكمة الإسلامية العسكرية» يقول بفرح وعاطفة واضحَين: «منذ سنة ونصف، هذا اليوم الذي أتيتُم فيه إلى هُنا، هو أجمل يوم»، ثم يقسم بشرفه على جمال هذا اليوم بتأثر بالغ. ملامح الجنود مختلفة. كل شيء أصبح مُباحاً؛ المزاح، إطلاق الرصاص ابتهاجاً، والدردشات مع الصحافيين، وحتى التقاط الصور التذكارية. هذا الجندي الذي لطالما مررتَ أمامه، فنهَرك أن تبتعد بكاميرتك، يبتسم لك اليوم في ساحة الساعة وسط القصير، ويدلّك على المستشفى الميداني المُكتشَف اليوم. الأخبار تأتي من بعض أحياء دمشق ومن داخل الأراضي اللبنانية أن الناس يحتفلون ويوزّعون الحلويات في الشوارع، فتصيب الجنود نشوة أكبر.

وجهة المسلحين المجهولة

محاولة الاستيقاظ باكراً لانتظار مواكبة بداية العملية العسكرية على القصير لن تنفع. فالصباح حمل معه سقوط المدينة، من خلال حشد عسكري لكامل القوات داخل مدينة القصير والضبعة في محاولة التفاف لإعلان إشارة البدء بالمعركة… معركة حُسِمت خلال ساعات، بهرب مسلّحي المعارضة إلى مناطق أُخرى. بعض العسكريين رجّحوا أن معظم مقاتلي المعارضة، باتوا في القرى كالبويضة والضبعة والمسعودية يزيدون تعزيزاتهم بعد تفكّكهم وحصارهم داخل فكّي الكماشة في القصير. عسكريون آخرون توقّعوا أنّ عدداً من المقاتلين الهاربين لجأوا إلى منطقة القلمون في ريف دمشق، ما يعني أن العمليات العسكرية هُناك يجب أن تتكامل مع انتصار القصير، لتثبيت الإنجاز الأخير، فيما قسم آخر من العسكريين أكّد أن أعداداً كبيرة من المسلحين هربوا باتجاه عرسال اللبنانية. يختلف الجنود على هذا الأمر، أحدهم يؤكد أن طريق عرسال قد بات مقطوعاً منذ بداية إعلان العمليات العسكرية في القصير، بينما يخالفه آخر في الرأي، إذ يرى أن هنالك صعوبة في ضبط الطريق بين القصير والحدود، حيث يمكن أن يتوه المرء في الجرد بين المنطقتين بنحو توضّحه طبيعة الأرض الوعرة، ويتناسب معها.

الطريق إلى النصر طويل

سلوك طريق الغسانية للوصول إلى القصير هو الحل الأسلم بالنسبة إلى رحلة هذا الصباح، المنسجم مع ما يسمّيه المؤيدون «يوم النصر في القصير». والمرور بقرية عرجون يبعث على الاستغراب، فكمية الدمار المبالغ فيه تثير الشعور بالجهل لدى الموجودين على الطريق. والتساؤلات تكثر: «إلى أي مدى كان من الضروري أن تُدَك هذه البيوت لتُسوّى بالأرض؟». جواب مقاتل سوري في القرية سيُسكتُك حتماً: «هل قاتلتَ مكاننا، ومررتَ بما مررنا به؟». لا يمكنك أن تضع نفسك مكان الجيش السوري في حربه مع المتمردين المسلحين، حيث للمعركة قوانينها الخاصة التي قد لا تتفق مع الأخلاقيات النسبية لدى المتابعين. وكلّ بحسب انتمائه السياسي، فالمؤيد يبالغ في التبرير، بينما المعارض يبالغ في الهجوم والتجنّي أحياناً. أسلاك معدنية مقطوعة من خطوط الكهرباء. يتهم المعارضون عناصر من اللجان بسرقة النحاس الذي بداخلها، وأخذ ما في البيوت من غنائم حرب. فيما على خطوط النار الأولى، ترى جنوداً لا يحملون سوى أرواحهم على أكفّهم، بالإضافة إلى دروعهم الثقيلة، فلا يمكن إلا أن تستغرب ما يُقال. تنظر إليهم نظرات متفحّصة: «هل حقاً يخفي هذا الجندي خلف طيبة ملامحه غنائم الحرب؟». في قرية الحميدية التي سيطر عليها الجيش السوري منذ أيام، سترى بيوتاً صغيرة متراصّة بما يثير الاستغراب، على اعتبار أنها بيوت ريفية، ومن الأكثر شيوعاً أن تكون متباعدة بحكم المساحات الشاسعة من حولها. البيوت المتلاصقة أضحت منفصلاً بعضها عن بعض من خلال فجوات في الجدران. ستلفتك هُنا حتماً بعض الأسوار والبيوت الطينية، التي استخدم بعضها كمتاريس. جامع الحميدية نال حصته من الرصاص والاشتباكات؛ إذ كان مقراً لقيادة العمليات، ومئذنته مركزاً للقناص الذي يكشف المنطقة المحيطة. القنّاص اليوم أضحى من الذكريات المرعبة للمكان، فجنود الجيش السوري يمرون الآن باطمئنان بسياراتهم وآلياتهم من دون أي احتياطات. على جدار المدرسة كُتبت عبارة: «لواء الفاروق مرّ من هُنا». بعض النسخ من هذه العبارة أغفلت حرفاً من كلمة «الفاروق» لتصبح «الفارق». الدليل المرافق يعزو الأخطاء الكتابية الدائمة في جمل مسلحي المعارضة تعود مرات إلى انتماء بعضهم إلى جنسيات أجنبية، ومرات أُخرى إلى جهلهم أصول الكتابة. ورغم ذلك، فإن عسكرياً في القرية شهد بملاحظته أن قسماً كبيراً ممن قاتل في القصير هم من أهل المنطقة أنفسهم، الذين انتمى بعضهم إلى جبهة النصرة، لا عن تديّن ودراية في أمور الدين، إذ إن عدداً منهم لا يفهم في أمور الدين، بل يمضي في الحرب عن جهل وسوء تقدير. عبارة أُخرى ستلفتك في الحميدية: «كلما زاد عدد شهدائنا… زاد إصرارنا». هي إذاً حرب عناد وكسر عظم بين الطرفين، ولعلّها تفسّر سرّ عدم انتهاء الحرب، التي تزداد عطشاً للدماء، كلما ازدادت أعداد ضحاياها.

الوضع في الصفصافة يختلف؛ فالقرية الحدودية لم تعانِ آثار الخراب. على بعض البيوت آثار إطلاق نار، وبعض القذائف، لكنّ المدنيين هُنا على حالهم. لم يتركوا بيوتهم ويخرجوا رغم كل التهديدات من حولهم. احتضنوا الجيش السوري واحتموا به، وانتظروا هذه اللحظة طويلاً لحظة إعلان النصر في القصير وريفه. أحد سكان القرية يؤكد أن النصر لن يكتمل دون إعادة القرى الباقية إلى حضن الدولة السورية، حينها يستطيع النوم بأمان. الحياة عادية في القرية. الأبقار بين الأشجار ترعى العشب، غير معنية بالمواكب التي تسير قربها، والآليات الماضية إلى عملها. ما يعنيها هو هذه المساحات الخضراء التي تأسر الأنظار، والتي تكفل لها عدم الجوع، مهما اقتتل البشر من حولها.

الطريق إلى «النصر» طويلٌ طويل. هكذا يخطر في بالك وأنت في الطريق إلى القصير، ولا سيما إن كنتَ تسلك طريق الجيش السوري الذي استغرق أكثر من سنة لتأمينه. الوصول إلى قرى النهرية وأبو حوري، سيعيد إلى الذهن ذكريات لجولات سابقة وتحقيقات قرب مياه عين التنور، أثناء مواكبة المعارك في الريف منذ شهرين. يمكن أحد العناصر أن يستعيد ذكرياته ويروي لك حكايات معارك أبو حوري والنهرية، وبداية محاولات جبهة النصرة إثبات وجود مقاتلي حزب الله اللبناني بين جنود الجيش السوري. الكثير من السواتر الترابية العالية والأكياس بين ألوان الطبيعة الآسرة، حيث يتفق الجنود أن النهرية من أجمل قرى ريف القصير، التي بدأت أمضى فيها المقاتلون أولى لحظات الانتصار.

مع مَن يقف الله؟

الوصول إلى ساحة الساعة وسط القصير له رهبته. جنود بكامل عتادهم يجتمعون وسط الساحة. صوت الرصاص الذي يطلق ابتهاجاً يصمّ الآذان. تظن للحظات أن كمية الرصاص التي تُطلَق في الأجواء تعادل ما أُطلق خلال الاشتباكات. بعض العسكريين يشيرون بضرورة إيقاف مظاهر الاحتفال تلك، وتوفير الرصاص لمعارك لاحقة، لكن بقراراتهم يعون أن للجنود المتعبين حقوقهم في التعبير عن فرحهم بإنجازهم. تستغرب من إمكانية الشعور بالنصر وسط هذا الخراب المرعب. إلا أن النصر القادم سيكون في حلب، بحسب أحد العسكريين. يعلّق آخر: «ينبغي تأمين بعض الجيوب، وإحكام السيطرة على ريف حمص». الجنود في المدينة غير معنيين بوجهة المعركة المقبلة. يعنيهم فقط الانتصار الحالي، وجاهزون للانتقال إلى أية نقطة عسكرية أُخرى. يندفع أحد العناصر لتنكيس علم «لواء فجر الإسلام» الأسود عن ساعة القصير الحجرية، بينما يناوله جندي آخر العلم السوري لرفعه مكانه.

وبدخول أحد المفارق ستجد أمامك مدخل «المحكمة الإسلامية العسكرية». على الجدار كُتبت عبارة: «الدعاء. لا تحزن إن الله معنا». لكن الدعاء لم ينفع، و«الله معنا» عبارة قالها عناصر من الطرف الآخر عن أنفسهم. وبغض النظر عن «مع من يقف الله» فعلاً، إلا أن جبهة النصرة قد أضحت خارج القصير. علم «الثورة» في الداخل يلون عبارة «مدينة القصير» المعلقة على الحائط. وعبارات أُخرى مثل: «إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم» و«قائدنا إلى الأبد سيدنا محمد». دجاجة تنقر الحَب في الحديقة، غير معنية برائحة الدماء التي تملأ المكان. أما المسشفى الميداني، فهو يحتوي على أدوية غير موجودة حتى في المستشفيات الحكومية بغرف عمليات وقسم للأمراض النسائية.

  • فريق ماسة
  • 2013-06-06
  • 10324
  • من الأرشيف

الجيش يستعيد القصير… والمسلّحـــون يتبخّرون

كل شيء اختلف صباح أمس. الأخبار الآتية من هُناك تحكي عن انتصار، أو ربما انسحاب «تكتيكي» كما يحلو لمقاتلي الجيش الحُر تسمية انسحابهم عادةً. عناصر الجيش السوري الذين كانوا يتهيأون للمعركة العنيفة، هم أنفسهم، لم يصدّقوا سهولة المعركة الأخيرة، بعد ما قدّموه من ضحايا على مذبح الانتصار، فلم تصبح القصير بالنسبة إليهم سوى حبّة في مسبحة ستنفرط سريعاً «لقد هربوا. سقطت القصير». عبارة يقولها أحد مقاتلي الجيش، تحمل في طيّاتها عدم تصديق. فالقصير ليست معركة واحدة، بل حرب قاسية أخذت معها ما أخذته من حياة اجتماعية ورفاق سلاح، ووصلت إلى حدّ من الصعوبة، أن استحالت، بالنسبة إلى كثيرين، إمكانية لفظ جملة كهذه أمام الواقع الميداني. أحد الجنود، في داخل مبنى ما يسمّى «المحكمة الإسلامية العسكرية» يقول بفرح وعاطفة واضحَين: «منذ سنة ونصف، هذا اليوم الذي أتيتُم فيه إلى هُنا، هو أجمل يوم»، ثم يقسم بشرفه على جمال هذا اليوم بتأثر بالغ. ملامح الجنود مختلفة. كل شيء أصبح مُباحاً؛ المزاح، إطلاق الرصاص ابتهاجاً، والدردشات مع الصحافيين، وحتى التقاط الصور التذكارية. هذا الجندي الذي لطالما مررتَ أمامه، فنهَرك أن تبتعد بكاميرتك، يبتسم لك اليوم في ساحة الساعة وسط القصير، ويدلّك على المستشفى الميداني المُكتشَف اليوم. الأخبار تأتي من بعض أحياء دمشق ومن داخل الأراضي اللبنانية أن الناس يحتفلون ويوزّعون الحلويات في الشوارع، فتصيب الجنود نشوة أكبر. وجهة المسلحين المجهولة محاولة الاستيقاظ باكراً لانتظار مواكبة بداية العملية العسكرية على القصير لن تنفع. فالصباح حمل معه سقوط المدينة، من خلال حشد عسكري لكامل القوات داخل مدينة القصير والضبعة في محاولة التفاف لإعلان إشارة البدء بالمعركة… معركة حُسِمت خلال ساعات، بهرب مسلّحي المعارضة إلى مناطق أُخرى. بعض العسكريين رجّحوا أن معظم مقاتلي المعارضة، باتوا في القرى كالبويضة والضبعة والمسعودية يزيدون تعزيزاتهم بعد تفكّكهم وحصارهم داخل فكّي الكماشة في القصير. عسكريون آخرون توقّعوا أنّ عدداً من المقاتلين الهاربين لجأوا إلى منطقة القلمون في ريف دمشق، ما يعني أن العمليات العسكرية هُناك يجب أن تتكامل مع انتصار القصير، لتثبيت الإنجاز الأخير، فيما قسم آخر من العسكريين أكّد أن أعداداً كبيرة من المسلحين هربوا باتجاه عرسال اللبنانية. يختلف الجنود على هذا الأمر، أحدهم يؤكد أن طريق عرسال قد بات مقطوعاً منذ بداية إعلان العمليات العسكرية في القصير، بينما يخالفه آخر في الرأي، إذ يرى أن هنالك صعوبة في ضبط الطريق بين القصير والحدود، حيث يمكن أن يتوه المرء في الجرد بين المنطقتين بنحو توضّحه طبيعة الأرض الوعرة، ويتناسب معها. الطريق إلى النصر طويل سلوك طريق الغسانية للوصول إلى القصير هو الحل الأسلم بالنسبة إلى رحلة هذا الصباح، المنسجم مع ما يسمّيه المؤيدون «يوم النصر في القصير». والمرور بقرية عرجون يبعث على الاستغراب، فكمية الدمار المبالغ فيه تثير الشعور بالجهل لدى الموجودين على الطريق. والتساؤلات تكثر: «إلى أي مدى كان من الضروري أن تُدَك هذه البيوت لتُسوّى بالأرض؟». جواب مقاتل سوري في القرية سيُسكتُك حتماً: «هل قاتلتَ مكاننا، ومررتَ بما مررنا به؟». لا يمكنك أن تضع نفسك مكان الجيش السوري في حربه مع المتمردين المسلحين، حيث للمعركة قوانينها الخاصة التي قد لا تتفق مع الأخلاقيات النسبية لدى المتابعين. وكلّ بحسب انتمائه السياسي، فالمؤيد يبالغ في التبرير، بينما المعارض يبالغ في الهجوم والتجنّي أحياناً. أسلاك معدنية مقطوعة من خطوط الكهرباء. يتهم المعارضون عناصر من اللجان بسرقة النحاس الذي بداخلها، وأخذ ما في البيوت من غنائم حرب. فيما على خطوط النار الأولى، ترى جنوداً لا يحملون سوى أرواحهم على أكفّهم، بالإضافة إلى دروعهم الثقيلة، فلا يمكن إلا أن تستغرب ما يُقال. تنظر إليهم نظرات متفحّصة: «هل حقاً يخفي هذا الجندي خلف طيبة ملامحه غنائم الحرب؟». في قرية الحميدية التي سيطر عليها الجيش السوري منذ أيام، سترى بيوتاً صغيرة متراصّة بما يثير الاستغراب، على اعتبار أنها بيوت ريفية، ومن الأكثر شيوعاً أن تكون متباعدة بحكم المساحات الشاسعة من حولها. البيوت المتلاصقة أضحت منفصلاً بعضها عن بعض من خلال فجوات في الجدران. ستلفتك هُنا حتماً بعض الأسوار والبيوت الطينية، التي استخدم بعضها كمتاريس. جامع الحميدية نال حصته من الرصاص والاشتباكات؛ إذ كان مقراً لقيادة العمليات، ومئذنته مركزاً للقناص الذي يكشف المنطقة المحيطة. القنّاص اليوم أضحى من الذكريات المرعبة للمكان، فجنود الجيش السوري يمرون الآن باطمئنان بسياراتهم وآلياتهم من دون أي احتياطات. على جدار المدرسة كُتبت عبارة: «لواء الفاروق مرّ من هُنا». بعض النسخ من هذه العبارة أغفلت حرفاً من كلمة «الفاروق» لتصبح «الفارق». الدليل المرافق يعزو الأخطاء الكتابية الدائمة في جمل مسلحي المعارضة تعود مرات إلى انتماء بعضهم إلى جنسيات أجنبية، ومرات أُخرى إلى جهلهم أصول الكتابة. ورغم ذلك، فإن عسكرياً في القرية شهد بملاحظته أن قسماً كبيراً ممن قاتل في القصير هم من أهل المنطقة أنفسهم، الذين انتمى بعضهم إلى جبهة النصرة، لا عن تديّن ودراية في أمور الدين، إذ إن عدداً منهم لا يفهم في أمور الدين، بل يمضي في الحرب عن جهل وسوء تقدير. عبارة أُخرى ستلفتك في الحميدية: «كلما زاد عدد شهدائنا… زاد إصرارنا». هي إذاً حرب عناد وكسر عظم بين الطرفين، ولعلّها تفسّر سرّ عدم انتهاء الحرب، التي تزداد عطشاً للدماء، كلما ازدادت أعداد ضحاياها. الوضع في الصفصافة يختلف؛ فالقرية الحدودية لم تعانِ آثار الخراب. على بعض البيوت آثار إطلاق نار، وبعض القذائف، لكنّ المدنيين هُنا على حالهم. لم يتركوا بيوتهم ويخرجوا رغم كل التهديدات من حولهم. احتضنوا الجيش السوري واحتموا به، وانتظروا هذه اللحظة طويلاً لحظة إعلان النصر في القصير وريفه. أحد سكان القرية يؤكد أن النصر لن يكتمل دون إعادة القرى الباقية إلى حضن الدولة السورية، حينها يستطيع النوم بأمان. الحياة عادية في القرية. الأبقار بين الأشجار ترعى العشب، غير معنية بالمواكب التي تسير قربها، والآليات الماضية إلى عملها. ما يعنيها هو هذه المساحات الخضراء التي تأسر الأنظار، والتي تكفل لها عدم الجوع، مهما اقتتل البشر من حولها. الطريق إلى «النصر» طويلٌ طويل. هكذا يخطر في بالك وأنت في الطريق إلى القصير، ولا سيما إن كنتَ تسلك طريق الجيش السوري الذي استغرق أكثر من سنة لتأمينه. الوصول إلى قرى النهرية وأبو حوري، سيعيد إلى الذهن ذكريات لجولات سابقة وتحقيقات قرب مياه عين التنور، أثناء مواكبة المعارك في الريف منذ شهرين. يمكن أحد العناصر أن يستعيد ذكرياته ويروي لك حكايات معارك أبو حوري والنهرية، وبداية محاولات جبهة النصرة إثبات وجود مقاتلي حزب الله اللبناني بين جنود الجيش السوري. الكثير من السواتر الترابية العالية والأكياس بين ألوان الطبيعة الآسرة، حيث يتفق الجنود أن النهرية من أجمل قرى ريف القصير، التي بدأت أمضى فيها المقاتلون أولى لحظات الانتصار. مع مَن يقف الله؟ الوصول إلى ساحة الساعة وسط القصير له رهبته. جنود بكامل عتادهم يجتمعون وسط الساحة. صوت الرصاص الذي يطلق ابتهاجاً يصمّ الآذان. تظن للحظات أن كمية الرصاص التي تُطلَق في الأجواء تعادل ما أُطلق خلال الاشتباكات. بعض العسكريين يشيرون بضرورة إيقاف مظاهر الاحتفال تلك، وتوفير الرصاص لمعارك لاحقة، لكن بقراراتهم يعون أن للجنود المتعبين حقوقهم في التعبير عن فرحهم بإنجازهم. تستغرب من إمكانية الشعور بالنصر وسط هذا الخراب المرعب. إلا أن النصر القادم سيكون في حلب، بحسب أحد العسكريين. يعلّق آخر: «ينبغي تأمين بعض الجيوب، وإحكام السيطرة على ريف حمص». الجنود في المدينة غير معنيين بوجهة المعركة المقبلة. يعنيهم فقط الانتصار الحالي، وجاهزون للانتقال إلى أية نقطة عسكرية أُخرى. يندفع أحد العناصر لتنكيس علم «لواء فجر الإسلام» الأسود عن ساعة القصير الحجرية، بينما يناوله جندي آخر العلم السوري لرفعه مكانه. وبدخول أحد المفارق ستجد أمامك مدخل «المحكمة الإسلامية العسكرية». على الجدار كُتبت عبارة: «الدعاء. لا تحزن إن الله معنا». لكن الدعاء لم ينفع، و«الله معنا» عبارة قالها عناصر من الطرف الآخر عن أنفسهم. وبغض النظر عن «مع من يقف الله» فعلاً، إلا أن جبهة النصرة قد أضحت خارج القصير. علم «الثورة» في الداخل يلون عبارة «مدينة القصير» المعلقة على الحائط. وعبارات أُخرى مثل: «إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم» و«قائدنا إلى الأبد سيدنا محمد». دجاجة تنقر الحَب في الحديقة، غير معنية برائحة الدماء التي تملأ المكان. أما المسشفى الميداني، فهو يحتوي على أدوية غير موجودة حتى في المستشفيات الحكومية بغرف عمليات وقسم للأمراض النسائية.

المصدر : الأخبار/ مرح ماشي


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة