دليل ماسة
أكثر الروابط استخداما
منذ 13 عاماً، حمل غازي العريضي لقبي المعالي والسعادة معاً. وفيما بقيت نيابته اسماً على أجندة مجلس النواب، كانت الوزارة وظيفته الأهم سواء في الإعلام أو في الثقافة أو، أخيراً، في وزارة الأشغال العامة والنقل. بعد ثلاثة عشر عاماً، يبدو أن العريضي، صاحب الألقاب المزدوجة، سينهي مسيرته كما بدأها، باللقبين معاً
لا يمكن قاصدَ قرى عاليه المرتفعة والمتجول في مناطق كيفون ورأس الجبل إلا ملاحظة «السرايا» الفخمة المنتصبة فوق تلة الرادار في بيصور. ولا يسعه غضّ النظر أيضاً عن تلك الفيلا المميزة المزروعة وسط التلة والكروم الخضراء المحيطة بها. أخيراً أضيفت تلك التلة وما يحيط بها من أراضٍ شاسعة، المنطقة الأجمل في بيصور ومقصد البيصوريين للتنزه، إلى ممتلكات وزير الأشغال العامة والنقل في حكومة تصريف الأعمال غازي العريضي. أهالي بيصور على دراية بواقع الحال، لذلك يستعيضون عن عناء عرض ترابهم للبيع بالتوجه إلى قصر العريضي أو فيلته، فأبو عمر «شاري» بالتأكيد.
إلى جانب نجوميته العقارية في بيصور ومناطق عدة أخرى، صعد نجم العريضي في الإعلام المرئي والمسموع والمكتوب بشكل غير مسبوق في الآونة الأخيرة. الأضواء التي يعشقها ويتقن أصول «تشغيلها»، جرت بعكس ما يشتهيه و... الحق على «الستين». فمنذ قرابة عشرة أيام، قدّم الاشتراكيون ترشيحاتهم في وزارة الداخلية. ظنّ الجميع عندما تلا مفوض العدل في الحزب الاشتراكي نشأت حسنية أسماء المرشحين أن اسم الوزير الثابت سقط سهواً، ليتبين لاحقاً أن العريضي زاهد بالنيابة «لأسباب شخصية»، كما ادعى حسنية. من هنا بدأت القصة: الوزير «الزاهد» لا يردّ على هاتفه أبداً، وشاشات التلفزة تفتقد حضوره، وتلك سابقة في حدّ ذاتها. وزراء الاشتراكي ونوابه يرفضون الحديث عن زميلهم، ملتزمين ما يصدر رسمياً عن أحد مسؤولي الحزب أو الرئيس. والرئيس، أي النائب وليد جنبلاط، يتقن فن تدوير الزوايا والانتقال من موضوع إلى آخر بلمح البصر حين يسأل عن معالي وزيره. أما الحلفاء المفترضون، فلا ينطقون بكلمة حق أو باطل: «القصة غريبة» بالنسبة إليهم.
فضيحة «الكمبنسكي»
ليس استثناء العريضي من النيابة بالأمر المعهود، هو الذي حافظ على ذاك اللقب منذ 13 عاماً وأبى إلا أن يرفقه بحقيبة وزارية. ومن يعرف «أبو عمر» جيداً، يدرك صعوبة تخليه شخصياً عن أحد اللقبين أو ربما الاثنين، بإرادته. ففي نظر المقربين منه، لا يقلّ شغفه بالكتابة وتوسيع إصداراته كل عام، عن نهمه للنيابة والوزارة والشهرة السياسية عموماً. ويكاد يجزم هؤلاء بأن «أوامر جنبلاطية فقط كفيلة بإبعاده عن العمل الوحيد الذي يحترفه». ويخلصون، بالتالي، إلى أن الرجل استبعد وأحيل على «التقاعد» باكراً. هذا ما تُجمع عليه كل الصالونات السياسية حيث تفتتح الجلسة على نية الوزير الاشتراكي وتختتم بالصلاة لئلا ينال أي من المجتمعين المصير نفسه.
أما الأسباب «الشخصية» أو «الحزبية» لعدم الترشح، فتدور في فلك احتمالات ثلاثة:
أولاً، «انتفاخ» العريضي المالي الذي أصبح على كل شفة ولسان وحديث أبناء بيصور الشاغل، على حدّ قول أحد المترددين إلى المختارة، بعدما تضاعفت ثروة الوزير في السنوات الخمس الماضية بنحو مبالغ فيه. بعض تلك الأموال، بحسب المصدر الاشتراكي، كان يتشاركها وجنبلاط، على غرار الحقائب التي كان يعود بها من السعودية... وبعضها الآخر بقي مكتوماً في نفس العريضي إلى أن فضحه اللقاء ــــ الصدفة الذي جمع جنبلاط بصاحب مشروع «كمبنسكي» (السمرلاند سابقاً). ووفقاً لأحد الحاضرين في اللقاء، استغل وليد صعب (صاحب المشروع) المناسبة لشكر زعيم المختارة على تغطيته المخالفة البحرية لمشروعه عبر تشريع توسيع «كمبنسكي» من 28 ألف متر مربع إلى 30 ألف متر، سائلاً إياه ما إذا كانت الأسهم المقدمة منه على شكل شاليهات عند حسن ظنه. وبعد تدقيق جنبلاطي بالأمر، تبين أن ابن العريضي حصل على أسهم في المشروع باسم زعيم المختارة من دون علمه. الأمر الذي، بحسب المصدر، جعل كأس العريضي تفيض في عيون جنبلاط.
ثانياً، ترجّح أوساط 8 آذار فرضية عدم ترشيح الاشتراكي للعريضي في بيروت بغية توزيره في حكومة الرئيس تمام سلام «من غير المرشحين». بذلك يضمن جنبلاط تعيين وزير قوي في حكومة يفترض أن تشرف على الانتخابات.
ثالثاً: يقول أحد المسؤولين الإشتراكيين إن «غازي «الأشغال» غير غازي «الإعلام»، وعلاقات غازي «الإعلام» تختلف تماماً عن علاقاته السياسية المحلية والإقليمية اليوم». وبنظر الاشتراكي، قدرة جنبلاط في السابق على تحجيم وزيره وردّه إلى بيت الطاعة لم تعد سارية بعد أن تمكن من بناء شبكة علاقات في لبنان وسوريا (علاقة وطيدة مع اللواء محمد ناصيف) والسعودية (علاقة وطيدة بالأمير مقرن بن عبد العزيز)، تجعله قادراً على خلع ثوب المختارة وبناء حيثيته الخاصة.
تيمور أولاً
ليست كل تلك الأمور خفية على جنبلاط، لكن ما ساهم في إخراجها إلى دائرة الضوء أخيراً ليس إلا إعداد تيمور جنبلاط لتسلم رئاسة الحزب الاشتراكي، وما يشكله العريضي من خطر على زعامة الشاب الصاعد. ففي رأي أهل المختارة، وحده العريضي قادر اليوم على وراثة جنبلاط محلياً ودولياً، وهو إن رغب قادر أيضاً على خطف نجم الشاب الوريث قبل أن يسطع. لذلك بات من الضروري، بحسب المسؤول الاشتراكي، إبعاد العريضي من الواجهة السياسية لإراحة تيمور مستقبلاً. فوفقاً لجنبلاط الذي بلغ الـ 63 من عمره، «لا يعيش أي جنبلاطي أكثر من 64 عاماً»، وبالتالي يردد في مجالسه الحزبية أن «العام الحالي صعب». لذلك يقضي معظم أوقاته في الفترة الأخيرة مسوقاً وريثه ومحيطاً إياه بالشباب الاشتراكيين غير المنافسين له. وكان لا بدّ من كفّ يد العريضي (المنافس الوحيد لتيمور) عن الملفات السياسية التي يمسك بها، ولا سيما الملف السعودي، عبر إيفاد نجله برفقة الوزير وائل أبو فاعور إلى البلاط السعودي، مستبعداً العريضي الذي دأب في السنوات الماضية على تولي التنسيق مع بندر بن سلطان. والواضح أن المختارة تعمل قبل إنهاء العريضي على تجريده من كل امتيازاته السياسية وتوريثها إلى أبو فاعور، حتى في ما يعنى بالشأن اللبناني. فقد بات وزير الشؤون الاجتماعية موفد رئيس جبهة النضال الوطني إلى عين التينة، وهي المهمة التي لطالما كانت من نصيب العريضي، لكونه مهندس العلاقات السياسية الأقوى في الحزب الاشتراكي.
إلى جانب الاحتمالات الثلاثة، يبرز احتمال رابع من خارج الصالونات السياسية اليومية. إذ تلمّح الدائرة القريبة من المختارة إلى خلاف مالي سعودي مع وزير الأشغال، بعد أن أخلّ العريضي ببنود الصفقة المتفق عليها لمصلحته الخاصة. وعلى ذمة هؤلاء، تمثل العقاب السعودي بأوامر مباشرة إلى جنبلاط بعدم ترشيح العريضي واستبعاده نهائياً. فكان أن نفذت الأوامر بحذافيرها فوراً.
في السنوات الخمس المنصرمة، فاضت أدراج المختارة بملفات العريضي المالية. والمفارقة هنا أن صفقات الوزير كانت تجري بالتنسيق مع البيك وبمعرفته الشخصية. لذلك يفتقد الاحتمال الأول للمقومات القوية التي تدفع جنبلاط إلى التخلي عن وزيره المحنك. وكذلك الأمر بالنسبة إلى الاحتمال الثاني، حيث إن كل الدلالات تشير إلى تسمية وزراء من خارج دائرة السياسيين الضيقة، مع استبعاد توزير العريضي نهائياً. ويشير الجنبلاطيون أنفسهم إلى أن الاحتمالين الأخيرين هما الأكثر قوة، ولا سيما أن محاضر المجالس الحزبية الاشتراكية باتت ممتلئة بالامتعاضات من «عنجهية» العريضي و«تضخم ثروته»، والتمنيات المستمرة باستبدال الوجوه التقليدية بوجوه شابة. أمر يؤيده تيمور بشدة، هو الذي لا يحبذ شخصية العريضي وتجمعه وإياه علاقة مضطربة جداً، تطورت في كثير من الأحيان إلى حدّ تدخل جنبلاط لخفض التوتر بينها. وكان لا بد للوزير الطموح أن يدرك من خلال مطالعته وكتابته للكتب التاريخية أنه لا يمكن أي سياسي صنع في قصور العائلات الإقطاعية أن يتخطى طموحه الخط الذي رسم له منذ البداية، وخصوصاً إذا كان الأمر يتعلق بمستقبل «الوريث». والأكيد أن وراثة تيمور لحزب والده وجده قد ساهمت في تسريع كتابة نهاية «الشاعر» الاشتراكي الأفصح في البلاط الجنبلاطي.
العريضي & Co
لم يكتف الوزير غازي العريضي بإدارة ملفات الأشغال والتعهدات بنفسه. بحسب مصادر قصر المختارة وبعض المقربين من العريضي، بات الأخير يشترط على متعهدي المشاريع في وزارة الأشغال بـ«المونة» تلزيم مشاريعهم إلى شركات مقاولات يملكها نجله وصهره. وعمد أيضاً، وفقاً للمصادر نفسها، إلى تلزيم كل إعلانات المطار لأحد أشقائه. فيما آثر سياسياً إغراق السياسيين بوعود تزفيت الطرقات وتأهيلها، مسبباً في بعض الأحيان نشوب خلافات ضمن الكتلة النيابية الواحدة، من دون أن يتحقق أي من هذه الوعود. ويُحكى في هذا السياق عن خلافات أخرى مع قوى 14 آذار، بما فيها رئيس الحكومة السابق سعد الحريري، بشأن «موقف العريضي الرمادي من الأزمة السورية والسياسة المحلية اللبنانية»، ما دفع «الشيخ» إلى عدم التمسك أو المطالبة به مستقبلاً لشغل المقعد الدرزي في بيروت. أما الحديث عن زيادة عدد النواب إلى عشرة، التي ستؤدي إلى ضم مقعد إضافي إلى المقعدين الدرزيين في عاليه، بحيث يصبح ممكناً للعريضي الترشح في دائرته، فينفيها الاشتراكيون عبر إعادة تلاوة كلمات زعيمهم: «غازي يريد أن يرتاح، ولن يكون على لوائح الاشتراكي النيابية، وبات مؤكداً ترشيح جهاد الزهيري في بيروت».
المصدر :
الاخبار\رولا إبراهيم
اكتب تعليق
كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة