يبحثون عمّا يسد رمق الحياة، في أي حي، أو غرفة يمكن أن تؤويهم. تحول كل تجمع للنازحين السوريين إلى مخيم، نظراً لأعدادهم الضخمة.

كأنما ما يواجهه لبنان حالياً من نزوح سوري يتجاوز بكثير ما واجهه إبّان نكبة فلسطين.

للنازحين تجمعات كبرى في ضواحي بيروت ومخيماتها، كما في القرى، الكثير منها لم تصل إليها المؤسسات الدولية والجمعيات الأهلية، ولم تعترف بوجودها لدى إبلاغها عنها.

يؤكد أحد الناشطين السوريين في مجال مساعدة النازحين، أن منظمات الأمم المتحدة المعنية أخبرت الناشطين أنها لا تعترف سـوى بنازحي الشمال والبقـاع، لأنهم يقيمون في مخيمات تابعة لها. أما الآخرون فليس لهم سوى تدّبر أمورهم... إن اسـتطاعوا إلى ذلك سـبيلا.

وماذا يطلق على مخيم صبرا مثلا، غير إسم مخيم؟ فقد أحصى ناشطون، أنه مع حلول شهر تشرين الأول الماضي، وصل نحو ثلاثة آلاف عائلة سورية غير فلسطينية إلى صبرا وحي الداعوق المجاور.

بعدها، توقفوا عن الإحصاء بسبب تزايد الأعداد. يعتمد نازحو مخيمات صبرا وشاتيلا وبرج البراجنة على مساعدات رمزيّة يقدمها بعض الناشطين، فيما تزورهم جمعيات بين الحين والآخر، حاملة وعوداً بالمساعدات، لكنها تغادر من دون عودة.

من يملك المال من السوريين الذين لجأوا إلى لبنان من مدخرات يعيش منها حتى تنفد، ومن لا يملك مدخرات، يواجه الموت البطيء، «لعل من سيبني سوريا الجديدة، بعد دمارها، أكثر جدارة بالحياة من الذين يعيشون فيها اليوم».

شروق في أزقّة المخيم

ربما يكفي وصف ثلاث حالات من «العيش» في صبرا، للتعرف على ما تخبره يومياً آلاف العائلات التي تواجه الأمراض والعوز، وتبحث فعلاً، لا قولاً، عمّا يسد رمق الحياة.

تحوّلت شروق، إبنة الستة عشر ربيعاً، من طالبة في الثانوية العامة، إلى «سيّدة صغيرة»، بعد نزوحها مع عائلتها من معرّة النعمّان، إلى مخيم صبرا.

هي فتاة تشتعل ذكاء، تحفظ أزّقة المخيم كلها، وتعمل في روضة أعدت للأطفال السوريين عند طرفه.

تعود إلى المنزل ظهراً، تساعد أمها في إعداد الطعام، وتحاول مواساتها في حزنها على شقيقتها البكر التي قتلت بقذيفة. وتحتار كيف تُسّلي شقيقها الصغير ابن السنوات الست، العنيف حيناً، والصامت حينا آخر.

أمّا الأخ «الأكبر» بأعوامه التسعة، فيعمل مع قريب له لدى أحد القصابين.

كانت الإبنة البكر التي استشهدت في سوريا، متزوجة، وكانت في الثامنة عشرة من العمر. ذات يوم، كانت تزور أهلها عندما تعرض منزلهم للقصف، فخرجت مسرعة، تحاول الانتقال إلى منزلها المجاور، لكن القذيفة الثانية كانت أسرع منها، فاصطدمت بجدار المنزل، وسقط حجر على رأسها أدى إلى كسر جمجمتها.

خرج أهلها ووجدوها مضرجة بالدماء، رفعوها عن الأرض، وشارك شقيقها الصغير في رفعها، لكنها فارقت الحياة مع جنينها الذي كان في شهره الثامن. منذ وفاتها، لا تكف الأم عن البكاء.

تحمل الأم مع عائلتها خلاصة جمال أهل معرة النعمان، شعر أشقر، وبشرة بيضاء، وعيون ملونة. أخذت تصف منزلها المؤلف من طابقين في المعرة، وتقول: كان لدي غرف نوم، ومطبخ واسع، وأدوات كهربائية.

كان زوجها يعمل في مهنة تبليط المنازل، ويحصل على دخل يتيح له تأمين حاجيات أفراد عائلته وتعليمهم.. إلى أن تعرض المنزل للقصف المباشر.

تقسم الأم أنها لم تنم على الأرض يوماً مع أولادها، لكن الحرب ساقتها إلى منزل من غرفتين، أشبه بكوخ، جدرانه متسخة، وأرضه مائلة، لا يدخله نور ولا هواء. وفوق ذلك، تضطر الأسرة حاليا إلى تقاسمه مع عائلة شقيق زوجها التي هربت من المعرة قبل أيام.

ينام الجميع على فرش من الإسفنج. الرجال في غرفة الجلوس، والنساء في الغرفة المجاورة ذات الأرضية المائلة. للشقيق طفل معوّق في الخامسة من عمره، لا يعرف من أين سيوفر له العلاج؟. يقول: «في سوريا، ندخل المستشفى مجانا، وفي لبنان يطلبون النقود قبل الدخول، نحن عاجزون عن الطبابة والاستشفاء».

تعيش العائلتان من دخل لا يتعدى الستمئة ألف ليرة شهرياً، إذ يتقاضى الأب مئتي ألف ليرة أسبوعياً، بسبب المنافسة الشديدة في العمل، بينما تتقاضى شروق مبلغ مئتين وخمسين ألف ليرة شهرياً، وتدفع العائلة مبلغ ثلاثمئة دولار بدل إيجار المنزل، بعد ارتفاع الأسعار بشكل ناري في صبرا.

ذات يوم، مرضت شروق، أصيبت بدوار شديد، وسقطت أرضاً، فنقلها أهلها إلى طبيب في أحد مستوصفات المنطقة، طلب أن تجري مجموعة فحوصات مخبرية، لم تجرها، لأنها لا تملك كلفتها. تقول شروق: لقد مرضت من القهر والحزن والتعب.

لمنى ورم في صدرها

في حي الداعوق، تقيم منى، وهي في الثامنة والعشرين من عمرها، مع زوجها وولديها، في غرفة لا تتوافر فيها أدنى مقومات الحياة. تدلف المياه من سقفها بشكل متواصل، فتشعر لشدة الرطوبة، بحال أشبه بالاختناق. يؤدي درج ضيّق إلى الغرفة، من دون درابزين حماية، كأنما هي الحماية الإلهية وحدها التي تحول دون وقوع أحد من أعلاه، بالغاً كان أم صغيراً.

ما أن بدأت منى في وصف حياتها، حتى أجهشت بالبكاء. لديها ورم في صدرها، وتخاف من الذهاب إلى الطبيب للكشف عليه. تعاني طفلتها التي تبلغ السنة من العمر من الحساسية، بينما يواجه طفلها البكر وهو في التاسعة من العمر من حالة نشاط مفرط، أدت إلى إصابته بجرح بليغ في فخذه، بعد وقوعه عن الطاولة.

تروي أن ابنها احتجز في مخيم اليرموك مع جده لمدة خمسة عشر يوما، وخرج من الحجز طفلا آخر لا يتوقف عن الحركة.

وجد زوجها عملا في محل لتصنيع التمور في بيروت، بأجر زهيد قدره ستمئة الف ليرة شهريا، يدفع منه مئتي دولار بدل إيجار الغرفة، «ومن لا يعجبه فليبحث عن مأوى آخر». يبقى للعائلة مبلغ ثلاثمئة ألف ليرة للمصاريف اليومية. ماذا ستفعل منى غير البكاء؟.

سبع عائلات في غرفتين

في منزل آخر مكون من غرفتين، يتكدس أفراد سبع عائلات، هم أخوة وأخوات وأولاد عم، يبلغ عددهم أربعة وعشرين شخصاً، بينهم أطفال، وزوجان عريسان، «يا ولدي». يبلغ بدل إيجار الغرفتين خمسمئة وخمسين ألف ليرة شهريا، ومن لا يصدق عليه التأكد، وذلك بذريعة أن المنزل أكثر ترتيباً وحداثة من المنازل الأخرى، فجدرانه نظيفة، ومطبخه مقبول، وطبعاً مع حمام واحد. يعمل من أفراد العائلات السبع رجلان فقط، لدى لحّامين، ويتقاضى كل منهما ثمانمئة ألف ليرة في الشهر.

تحاول الأسر السبع توفير الطعام بصعوبة، لكن أحد الرجال وهو في الخامسة والأربعين من عمره، يعاني من ورم في الدماغ، متزوج ولديه صبيان وأربع فتيات، كما أن والدته مريضة أيضا، وتحتاج إلى عملية قسطرة في القلب، وجراحة في المرارة. وقد تناول الرجل الجرعة الأولى من العلاج في المستشفى الحكومي في بئر حسن، وأقسم اليمين بأنه دفع ثمنها من مدخرات كان يملكها. يوضح أن علاجه يتطلب تناول حبة دواء يومياً، كمرحلة أولى لمدة خمسة وأربعين يوما، بينما يبلغ ثمن كل خمس حبات تسعمئة الف ليرة، ولا يعرف كيف يؤمنها.
  • فريق ماسة
  • 2013-03-04
  • 14684
  • من الأرشيف

نازحون سوريون «غير معترف بهم»:هـكــذا «يـعـيشــون» الآن وهـنــا

يبحثون عمّا يسد رمق الحياة، في أي حي، أو غرفة يمكن أن تؤويهم. تحول كل تجمع للنازحين السوريين إلى مخيم، نظراً لأعدادهم الضخمة. كأنما ما يواجهه لبنان حالياً من نزوح سوري يتجاوز بكثير ما واجهه إبّان نكبة فلسطين. للنازحين تجمعات كبرى في ضواحي بيروت ومخيماتها، كما في القرى، الكثير منها لم تصل إليها المؤسسات الدولية والجمعيات الأهلية، ولم تعترف بوجودها لدى إبلاغها عنها. يؤكد أحد الناشطين السوريين في مجال مساعدة النازحين، أن منظمات الأمم المتحدة المعنية أخبرت الناشطين أنها لا تعترف سـوى بنازحي الشمال والبقـاع، لأنهم يقيمون في مخيمات تابعة لها. أما الآخرون فليس لهم سوى تدّبر أمورهم... إن اسـتطاعوا إلى ذلك سـبيلا. وماذا يطلق على مخيم صبرا مثلا، غير إسم مخيم؟ فقد أحصى ناشطون، أنه مع حلول شهر تشرين الأول الماضي، وصل نحو ثلاثة آلاف عائلة سورية غير فلسطينية إلى صبرا وحي الداعوق المجاور. بعدها، توقفوا عن الإحصاء بسبب تزايد الأعداد. يعتمد نازحو مخيمات صبرا وشاتيلا وبرج البراجنة على مساعدات رمزيّة يقدمها بعض الناشطين، فيما تزورهم جمعيات بين الحين والآخر، حاملة وعوداً بالمساعدات، لكنها تغادر من دون عودة. من يملك المال من السوريين الذين لجأوا إلى لبنان من مدخرات يعيش منها حتى تنفد، ومن لا يملك مدخرات، يواجه الموت البطيء، «لعل من سيبني سوريا الجديدة، بعد دمارها، أكثر جدارة بالحياة من الذين يعيشون فيها اليوم». شروق في أزقّة المخيم ربما يكفي وصف ثلاث حالات من «العيش» في صبرا، للتعرف على ما تخبره يومياً آلاف العائلات التي تواجه الأمراض والعوز، وتبحث فعلاً، لا قولاً، عمّا يسد رمق الحياة. تحوّلت شروق، إبنة الستة عشر ربيعاً، من طالبة في الثانوية العامة، إلى «سيّدة صغيرة»، بعد نزوحها مع عائلتها من معرّة النعمّان، إلى مخيم صبرا. هي فتاة تشتعل ذكاء، تحفظ أزّقة المخيم كلها، وتعمل في روضة أعدت للأطفال السوريين عند طرفه. تعود إلى المنزل ظهراً، تساعد أمها في إعداد الطعام، وتحاول مواساتها في حزنها على شقيقتها البكر التي قتلت بقذيفة. وتحتار كيف تُسّلي شقيقها الصغير ابن السنوات الست، العنيف حيناً، والصامت حينا آخر. أمّا الأخ «الأكبر» بأعوامه التسعة، فيعمل مع قريب له لدى أحد القصابين. كانت الإبنة البكر التي استشهدت في سوريا، متزوجة، وكانت في الثامنة عشرة من العمر. ذات يوم، كانت تزور أهلها عندما تعرض منزلهم للقصف، فخرجت مسرعة، تحاول الانتقال إلى منزلها المجاور، لكن القذيفة الثانية كانت أسرع منها، فاصطدمت بجدار المنزل، وسقط حجر على رأسها أدى إلى كسر جمجمتها. خرج أهلها ووجدوها مضرجة بالدماء، رفعوها عن الأرض، وشارك شقيقها الصغير في رفعها، لكنها فارقت الحياة مع جنينها الذي كان في شهره الثامن. منذ وفاتها، لا تكف الأم عن البكاء. تحمل الأم مع عائلتها خلاصة جمال أهل معرة النعمان، شعر أشقر، وبشرة بيضاء، وعيون ملونة. أخذت تصف منزلها المؤلف من طابقين في المعرة، وتقول: كان لدي غرف نوم، ومطبخ واسع، وأدوات كهربائية. كان زوجها يعمل في مهنة تبليط المنازل، ويحصل على دخل يتيح له تأمين حاجيات أفراد عائلته وتعليمهم.. إلى أن تعرض المنزل للقصف المباشر. تقسم الأم أنها لم تنم على الأرض يوماً مع أولادها، لكن الحرب ساقتها إلى منزل من غرفتين، أشبه بكوخ، جدرانه متسخة، وأرضه مائلة، لا يدخله نور ولا هواء. وفوق ذلك، تضطر الأسرة حاليا إلى تقاسمه مع عائلة شقيق زوجها التي هربت من المعرة قبل أيام. ينام الجميع على فرش من الإسفنج. الرجال في غرفة الجلوس، والنساء في الغرفة المجاورة ذات الأرضية المائلة. للشقيق طفل معوّق في الخامسة من عمره، لا يعرف من أين سيوفر له العلاج؟. يقول: «في سوريا، ندخل المستشفى مجانا، وفي لبنان يطلبون النقود قبل الدخول، نحن عاجزون عن الطبابة والاستشفاء». تعيش العائلتان من دخل لا يتعدى الستمئة ألف ليرة شهرياً، إذ يتقاضى الأب مئتي ألف ليرة أسبوعياً، بسبب المنافسة الشديدة في العمل، بينما تتقاضى شروق مبلغ مئتين وخمسين ألف ليرة شهرياً، وتدفع العائلة مبلغ ثلاثمئة دولار بدل إيجار المنزل، بعد ارتفاع الأسعار بشكل ناري في صبرا. ذات يوم، مرضت شروق، أصيبت بدوار شديد، وسقطت أرضاً، فنقلها أهلها إلى طبيب في أحد مستوصفات المنطقة، طلب أن تجري مجموعة فحوصات مخبرية، لم تجرها، لأنها لا تملك كلفتها. تقول شروق: لقد مرضت من القهر والحزن والتعب. لمنى ورم في صدرها في حي الداعوق، تقيم منى، وهي في الثامنة والعشرين من عمرها، مع زوجها وولديها، في غرفة لا تتوافر فيها أدنى مقومات الحياة. تدلف المياه من سقفها بشكل متواصل، فتشعر لشدة الرطوبة، بحال أشبه بالاختناق. يؤدي درج ضيّق إلى الغرفة، من دون درابزين حماية، كأنما هي الحماية الإلهية وحدها التي تحول دون وقوع أحد من أعلاه، بالغاً كان أم صغيراً. ما أن بدأت منى في وصف حياتها، حتى أجهشت بالبكاء. لديها ورم في صدرها، وتخاف من الذهاب إلى الطبيب للكشف عليه. تعاني طفلتها التي تبلغ السنة من العمر من الحساسية، بينما يواجه طفلها البكر وهو في التاسعة من العمر من حالة نشاط مفرط، أدت إلى إصابته بجرح بليغ في فخذه، بعد وقوعه عن الطاولة. تروي أن ابنها احتجز في مخيم اليرموك مع جده لمدة خمسة عشر يوما، وخرج من الحجز طفلا آخر لا يتوقف عن الحركة. وجد زوجها عملا في محل لتصنيع التمور في بيروت، بأجر زهيد قدره ستمئة الف ليرة شهريا، يدفع منه مئتي دولار بدل إيجار الغرفة، «ومن لا يعجبه فليبحث عن مأوى آخر». يبقى للعائلة مبلغ ثلاثمئة ألف ليرة للمصاريف اليومية. ماذا ستفعل منى غير البكاء؟. سبع عائلات في غرفتين في منزل آخر مكون من غرفتين، يتكدس أفراد سبع عائلات، هم أخوة وأخوات وأولاد عم، يبلغ عددهم أربعة وعشرين شخصاً، بينهم أطفال، وزوجان عريسان، «يا ولدي». يبلغ بدل إيجار الغرفتين خمسمئة وخمسين ألف ليرة شهريا، ومن لا يصدق عليه التأكد، وذلك بذريعة أن المنزل أكثر ترتيباً وحداثة من المنازل الأخرى، فجدرانه نظيفة، ومطبخه مقبول، وطبعاً مع حمام واحد. يعمل من أفراد العائلات السبع رجلان فقط، لدى لحّامين، ويتقاضى كل منهما ثمانمئة ألف ليرة في الشهر. تحاول الأسر السبع توفير الطعام بصعوبة، لكن أحد الرجال وهو في الخامسة والأربعين من عمره، يعاني من ورم في الدماغ، متزوج ولديه صبيان وأربع فتيات، كما أن والدته مريضة أيضا، وتحتاج إلى عملية قسطرة في القلب، وجراحة في المرارة. وقد تناول الرجل الجرعة الأولى من العلاج في المستشفى الحكومي في بئر حسن، وأقسم اليمين بأنه دفع ثمنها من مدخرات كان يملكها. يوضح أن علاجه يتطلب تناول حبة دواء يومياً، كمرحلة أولى لمدة خمسة وأربعين يوما، بينما يبلغ ثمن كل خمس حبات تسعمئة الف ليرة، ولا يعرف كيف يؤمنها.

المصدر : الماسة السورية


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة