دليل ماسة
أكثر الروابط استخداما
ماهي إلا أيام وتحل الذكرى الثانية لنشوب الحرب التي لا تزال دائرة في سورية. وهذه فترة طويلة بما يكفي لحسم نتيجة أي حرب، وخاصة اذا كانت البيانات التي تصورها في أنحاء العالم تترك انطباعاً بأن أحد جانبيها يحقق انتصارات يومية لا مثيل لها.
الحرب التي تدور ضد سورية ـ شأنها شأن كل الحروب الاخرى في زمننا الحالي ـ هي حرب ذات وجهين: وجه عسكري يملك قدرة على التدمير والقتل، ووجه إعلامي يصور نتائج هذا التدمير والقتل. وفي الحرب الدائرة في سورية طوال العامين الماضيين يظهر ان الكلمة العليا في الوجه الإعلامي من الحرب ـ وجهها الدعائي الخالص ـ تثبت قدرة غير عادية على تصوير واقع لا علاقة له بما يجري على الارض من معارك التدمير والقتل.
حرب الدعاية ضد سورية حرب عالمية بكل الأبعاد التي يمكن تصورها. أما حرب التدمير والقتل فلا تزال قاصرة عن تحقيق نتيجة مماثلة ولا تزال حرباً تقتصر حدودها على الاراضي السورية، حتى وإن كانت لها تبعات وآثار تطال لبنان أحياناً وتطال تركيا أحياناً أخرى. الحرب الدعائية التي تشن على سورية تملك كل الأساليب والقدرات التي تجعلها تنجح في تصوير نتائج حرب التدمير والقتل على أنها نتائج حاسمة لمصلحة أحد الطرفين، هو بالتحديد الطرف الذي يقف العالم الخارجي كله ـ تقريباً ـ في صفه. إزاء هذه الصورة الدعائية التي تصنعها مؤسسات الغرب الإعلامية وتنقلها الى باقي انحاء العالم، فإن كل دول العالم ـ مع استثناءات قليلة ـ تقف في صف الطرف الذي يطلق عليه وصف «الثورة السورية». ويمثل هذا خروجاً على العادة المألوفة في كل حروب القرن العشرين وبدايات القرن الحالي الحادي والعشرين. اغرب ما في الحرب في سورية ـ او بالأحرى الحرب على سورية ـ ان عالم الغرب بزعامة الولايات المتحدة ومعها بريطانيا وفرنسا وهولندا، وكل توابع هؤلاء يقف في صف «الثورة». واقع بالغ الغرابة لم يبدأ في سورية والحرب عليها إنما بدأ في ليبيا وينذر بالتحول الى نمط سائد.
الغرب يقف في صف «الثورة» على غير العادة. وهذا وحده ما يكفي لمعرفة طبيعة هذه الثورة وأهدافها. ومع ذلك فقد مضت على هذه الحرب على سورية سنتان كاملتان من دون ان تستطيع ان تفوز، او بالأحرى ان تنتصر. كيف يحدث هذا؟ سؤال مهم ولكن الأهم من هذا السؤال هو السؤال عن السبب في استمرار هذه الحرب من دون نتيجة حاسمة، على الرغم من ان الغرب كله وجميع توابعه من دول العالم يقف في صف «الثورة» وضد النظام الحاكم. ما يبدو حتى الآن هو ان الغرب يريد لهذه الحرب ان تطول الى هذا الحد لأنه يريد ان تدمر هذه الحرب سورية البلد العربي فلا تقوم لها قائمة، حتى اذا أمكن أن تفوز «الثورة» فيها على «النظام». لكن حرب الدعاية الى جانب احد الطرفين مستمرة تردد النغمات نفسها التي توحي بأن «الثورة» تنتصر وتفوز من دون أن يلوح طيف انتصار نهائي لها. فإن حرب التدمير والقتل بدورها لا تزال مستمرة تتمتع بدعم عسكري ومالي تنفق عليه دول عربية تملك من المال ما يكفي. يكفي ان نذكر ان السعودية وقطر والإمارات «العربية» تفتح أبواب خزائنها على مصراعيها نزولاً عند خطط الأميركيين والأوروبيين وخطط «الثوريين» الجدد لتستمر حرب التدمير والقتل ضد سورية، ولتستمر في الوقت نفسه حرب الدعاية ضد سورية في رسم صورة لا تطابق الواقع بأي حال.
من الواضح ان الولايات المتحدة، التي غيرت استراتيجيتها لتقف الى جانب القوى «الثورية»، إنما تريد لهذه الحرب ان تستمر حتى لو اقتضى الأمر ان تحسب مدتها بسنوات وليس بمجرد سنتين. فالولايات المتحدة أدركت من تجارب تونس ومصر وليبيا أن النتيجة التي تنتهي اليها هذه الحروب تكون أجدى اذا لم تستقر النظم الحاكمة. وسورية بحكم التاريخ والجغرافيا أهم وأشد خطورة استراتيجياً وسياسياً في المنطقة ككل من حيث التأثير، الامر الذي لا يمكن لأي طرف في المنطقة او خارجها ان ينكره أو ان يرتب حساباته على اساس آخر. لهذا تستمر الحرب على سورية بوجهيها القتالي والدعائي. التمويل والدعم بالأسلحة مستمران.الدول النفطية العربية مستمرة في توفير المال والسلاح، وأميركا وأوروبا ترقبان الموقف من بعيد حتى الآن. وتتكفل الحرب الدعائية التي تشترك فيها كل مؤسسات الإعلام والدعاية الغربية وتوابعها بتغييب صوت الشعب السوري الذي لا يقف في صف «الثورة» انما يقف في صف وطنه الذي ينزف بلا توقف.
تفشل ثورات الربيع العربي واحدة بعد اخرى بينما تستمر الحرب على سورية. ويلوح خطر السيناريو السوري على بلدان الربيع العربي وتظهر في الأفق ملامح الثورة على ثورات الربيع العربي في تونس ومصر وليبيا. ويلوح خطر الدور الاميركي وخطر الدور الاسرائيلي على المنطقة ككل. ويتضح لأميركا ان العرب ـ ربما كل العرب في كل بلدانهم ـ يتهيأون لثورات حقيقية قادمة تنفي وتلغي اثر ثورات الربيع الزائف الذي كان يلعب دور توطيد النفوذ الأميركي ومعه الهيمنة الإسرائيلية الإقليمية. وتحرص اسرائيل على ان تبدو بعيدة، بعيدة تماماً، عن تطورات المنطقة مشغولة بشؤونها الداخلية وبالفلسطينيين الذين لا تنكسر شوكاتهم أبداً.
وفجأة لا تعود"اسرائيل" قادرة على ان تبدو بعيدة كلياً عما يجري في سورية، وإن كانت تنجح في ان تبدو بعيدة عن تطورات خطرة تجري في مصر وفي تونس وفي ليبيا، فتقدم على الإغارة بطائراتها الحربية على موقع شبه عسكري في سورية. وكأن اسرائيل لم تستطع ان تستسلم لانطباع عام تركته حرب الدعاية الغربية بأنها ـ أي "إسرائيل" ـ تقف موقف الحياد مما يجري في سورية ضد سوريا، او ـ وهو الانطباع الحقيقي الذي تكون في المنطقة بفعل الحرب الدعائية الغربية ـ موقف تأييد اسرائيلي لجانب النظام السوري (…).
لقد أرادت الحرب الغربية والنفطية العربية ضد سورية ان ترسخ هذا التصور الخرافي بأن إسرائيل حزينة ـ على الأقل حزينة ـ على ما يجري ضد سورية النظام الحاكم. ولكن هذا لم يوافق الشعور العام السائد في اسرائيل والسائد لدى كل صهيوني في اميركا والعالم. وكان لا بد من تكذيبه، شاءت اميركا او لم تشأ. شاءت نظم النفط العربية الغنية او لم تشأ. فكانت الغارة الاسرائيلية داخل الاراضي السورية، وكان ما صحب هذه الغارة وأعقبها من تأكيد بأن اسرائيل ربما تكرر مثل هذه الغارة ضد سورية في عز الحربين القتالية والدعائية عليها.
من المؤكد ان يزداد الدور الاسرائيلي في الاحداث العربية وضوحاً عندما يحضر وزير الخارجية الاميركي الجديد جون كيري الى المنطقة ليزور اسرائيل وإلى جانبها بعض البلدان العربية. وستكون زيارة كيري تمهيداً لزيارة الرئيس الاميركي باراك اوباما لعدد من هذه الدول. هل يعمد المسؤولان الاميركيان الابرز، خلال هذه الجولة في المنطقة العربية، الى الابتعاد عن الالتحام التقليدي مع اسرائيل؟
ليس في مثل الظروف المعقدة التي تدور فيها الدول العربية، خاصة تلك التي ترتبط بأميركا وبإسرائيل بعلاقات عميقة وقوية. ليس في ظروف الحرب العالمية ضد سورية بوجهيها القتالي والدعائي، ففي اجواء هذه الحرب تبدو اميركا اقرب الى اسرائيل وتبدو اسرائيل اقرب الى اميركا وتبدو الدولتان اقرب الى إشاعة الفوضى في المنطقة العربية لمصلحتيهما ولمصلحة النظم الحاكمة التي تبدو الآن في ابعد نقطة يمكن تصورها عن تطلعات الشعوب العربية.
ولقد بدأت بوادر فهم انضج وأكثر موضوعية لما يجري في سورية. بدأت تتسرب من خلال حواجز الحرب الدعائية ضد سوريا حقائق عن الحرب القتالية الدامية الجارية في سورية. وكلما زادت موجات الثورات الحقيقية ارتفاعاً في المحيط العربي فإن حقيقة ما يجري في سورية كجزء من مناورات اميركية واسرائيلية ستزداد وضوحاً وانكشافاً لجماهير الشعب العربي. ولا يهم بعد ذلك أيهما ينتصر قبل الآخر، الثورة ضد سلطة الإخوان المسلمين ـ المؤيدة لأميركا والمستسلمة لإسرائيل في مصر ـ او التيار الشعبي المناهض لهيمنة الإخوان ـ حزب النهضة ـ في تونس او التيار المناهض للهيمنة الأميركية والأوروبية في ليبيا. لا يهم ان ينتصر التيار الشعبي في سورية على التنظيمات المتطرفة الأجنبية التي تحارب من اجل اهداف أميركية وإسرائيلية وذاتية قبل هذه الثورات او بعدها.
المهم والمؤكد أن حالة الغليان الثوري في البلدان العربية بدأت رحلتها لمواجهة مع الهيمنة الأميركية والإسرائيلية في الوقت ذاته الذي بدأت فيه ملامح الارتباك الأميركي إزاء المنطقة العربية. ارتباك بدأ عندما غيرت اميركا اتجاه خططها بالتحالف مع التنظيمات الدينية المتطرفة في المنطقة، وخاصة تنظيم «الإخوان المسلمين» الذي لم يستطع على مدى تسعين عاماً أن يبتعد عن استراتيجية التحالف مع الولايات المتحدة، حتى عندما كان هذا التحالف عاجزاً عن تحقيق أهداف التنظيم الإخواني الأكبر في مصر.
ومن المؤكد ان ينعكس التيار العام الذي يسود الوطن العربي انعكاساً إيجابياً وقوياً على الحرب العالمية ضد سورية. هذا ما يدعمه صمود القوة السورية بوجه مؤامرة الحرب العالمية التي لم تستثن من طوابيرها سوى روسيا والصين من خارج المنطقة، وإيران وحزب الله من داخلها، ومع ذلك فإن هذا الصمود يؤكد فاعليته يوماً بعد يوم.
المصدر :
السفير /سمير كرم
اكتب تعليق
كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة