في الأسابيع الأخيرة التي قضاها المتحدث باسم وزارة الخارجية السورية جهاد مقدسي، في دمشق، كان يحمل مسدساً على خصره، ويسبق تحركاته مرافق مسلح، أسوة بكثير من المسؤولين السوريين الذين شعروا، عن حق، بأن حياتهم مهددة.

وفي تلك الأسابيع ربما ترسخت قناعات مقدسي عن الصراع الدائر في سوريا، حتى اتخذ قراره بالمغادرة الصامتة، التي أرادها من دون ضجة، وإن كان ذلك شبه مستحيل. وقد اختار لحظة لا مغزى لها كتوقيت، ولا يرمى عليها حمل سياسي ليقول إن قراره فردي ومستقل، وأن لا نية له «في أن يكون خنجراً في يد أحد»، وهو من دون أدنى شك رفض إغراءات كبيرة ليفعل غير ذلك.

وأعدَّ مقدسي، بياناً من ألف كلمة، صاغه على مهل، وتمحص فيه وقتاً طويلاً، قبل أن يرسله إلى قناة «سكاي نيوز» العربية، التي وصفه مذيعها في نشرة الظهيرة عن غير حق بكونه «منشق»، رغم أن بيانه يقول ما هو أعمق من ذلك.

واستخدم مقدسي، في بيانه أمس، منطقه الذي كثيراً ما استخدمه، قبل رحيله، خلف جدران مكتبه في وزارة الخارجية في كفرسوسة، لا أمام شاشات التلفزة. «كنت آمل أن يضمد جراحنا الحوار الوطني المنشود الذي للأسف لم ير النور، لكن العنف والاستقطاب لم يتركا مكاناً للاعتدال والديبلوماسية»، مستتبعاً مقدمته في البيان المنشور «واعتقدت أن مجرد مغادرتي بقرار شخصي ومستقل كانت كفيلة بأن تفهم الناس أنني وددت بذلك مخاطبة العقلاء فقط، لأن الأطراف على الأرض لم تعد تستطيع، بسبب الدماء، أن تسمع أي صوت».

ويضيف مقدسي، بعد أن يلاحظ بأن «الحراك الشعبي المتمثل بالمطالب المشروعة قد كسب - بمبادئه وجوهره - معركة القلوب»، أن «الاستقطاب بين السوريين وصل إلى مرحلة قاتلة ومدمرة».

ويفند مقدسي، في بيانه، الذي حصلت «السفير» عليه، أن ما من ألغاز وراء مغادرته ولا أسرار لديه، كما أنه «ليس ممن يفرّط بالأمانة أصلاً، والدليل على عدم وجود أجندة مسبقة لي هو صمتي وعدم استثمار أحد لمغادرتي أبداً». ويتابع «خرجت من المشهد مستقلاً لكي لا أزيد ألم بلدي وليس العكس، ولكي لا أكون خنجراً بيد أحد ضد مصلحة سوريا»، و«وصلت إلى مرحلة وجدت نفسي كسائر السوريين ممزقاً بداخلي بكل ما للكلمة من معنى، فالعنف أجهز على كل منطق وعقل، في الوقت الذي تحتاج سوريا فيه للعقل والحكمة أكثر من أي وقت مضى. وبات الاستقطاب والاصطفاف سيد الموقف، وكأن ما يحصل في سوريا مجرد وجهة نظر».

ويضيف مقدسي «لقد غادرت بلدي سوريا مؤقتاً لاستقر ـ منذ مغادرتي ـ لدى إخوان لنا من الشرفاء ممن يساعدون الشعب السوري على تجاوز محنته الإنسانية من دون تمييز. لقد غادرت ساحة حرب ولم أغادر بلداً طبيعياً، وأعتذر من الناس الذين وثقوا بمصداقيتي على المغادرة من دون إعلان مسبق، فقد تمنيت لو كان بإمكاني البقاء على تراب الشام، لكن لم يعد للوسطية والاعتدال مكان في هذه الفوضى وخرجت الأمور عن السيطرة، يريدها البعض معركة وجود، فيما أنا أرى أنها يجب أن تبقى معركة لإنقاذ الدولة والكيان السوري عبر الشراكة الوطنية»، ليقول لاحقاً إن «كمية الدماء من كل الأطراف أكبر بكثير من قدرتي كإنسان وكأب على الاحتمال».

وأمل مقدسي «بعد كل هذه التضحيات الجسيمة والمؤلمة أن تستكمل المعارضة شرعيتها، عبر مد اليد للآخر وطمأنة الداخل المتنوع من كل الأطياف بأن المعارضة تعمل لإنجاز الشراكة الوطنية، فهناك الكثير من الوطنيين والعقلاء ممن هم حريصون على الدولة وعلى عدم انهيار مؤسساتها». وشدد على ضرورة أن يتم التغيير «بعيداً عن الكراهية والتطرف والتدخل العسكري الخارجي، فهذا هو المخرج السياسي الأنسب وقد يكون الوحيد للأزمة السورية».

عدا ذلك لا يتحدث جهاد عن مستقبله. عما سيفعل. عن الأفق الذي يريده لنفسه. لكنه يشدد في تصريح لوكالة «فرانس برس» على أنه «مستقل ولن ينضم إلى صفوف أحد». لذا ولأسباب أخرى يمكن تقديرها اختار وتمنى وسعى تقريباً لخروج صامت من دون ضجة واستغلال إعلامي وإن لم يفلح في ذلك. إذ كان اختار أن يترك رسالة على مكتبه يطلب فيها إجازة من دون راتب لمدة ثلاثة شهور، قبل أن يهم ظهر الخميس في 29 تشرين الثاني الماضي بالمغادرة إلى بيروت من دون عودة. ولكن لتكتشف الرسالة بعد أربعة أيام، إثر ضجة حول اختفائه، ارتبطت بقضية «الأسلحة الكيميائية» التي كان لها أثر على أداء الرجل، سواء اتفق على أن «الاعتراف» كان خطأ منه أم نصاً مكتوباً.

الضجة أثارت أطرافاً مختلفة، بينها وزارة الخارجية، التي سارع موظفوها لاستكشاف مكتبه ليجدوا عليه الرسالة، وذلك وفقاً لما قاله لـ«السفير» مصدر موثوق في الخارجية، نفى حينها تماماً أن يكون الرجل قد أعفي من منصبه، رغم ما ضج به صحافيون بعضهم كان التقى مقدسي قبل ذلك بيوم واحد فقط.

وتم التعاطي رسمياً مع رحيل جهاد مقدسي بهذه الطريقة المبسطة، ليس لأن الرجل يملك أسراراً (كما ينفي)، وإنما لأن الرجل حظي باحترام مرؤوسيه، ولأن الحكومة ليست بحاجة إلى قصة انشقاق أخرى، خصوصاً أن للرجل شعبية، حصدها من اعتلائه موقعاً احتاجته سوريا وافتقدته طوال العقود الماضية.

كلام مقدسي عن الاستقطاب يعبر صراحة عن مستوى العنف والكراهية العميقين الذي وصل إليهما الصراع في سوريا، والأبعاد المفتوحة التي يجترحها. ورغم أنه كان يظهر ليتحدث عن عصابات مسلحة في مؤتمراته، إلا أنه كان يصف الصراع بالأهلي في لقاءاته الخاصة. يضاف إلى ذلك صراعات داخلية استنتج مقدسي من خلالها أن لا مكان لشهاداته البريطانية والأميركية في التعاطي الإعلامي الدائر، وأن الرؤوس والشاشات المتواجهة ستبقى بذات الأسلوب والصيغة التي بدأتها في ربيع العام 2011.

ينهي مقدسي جدلاً حوله ببيانه الطويل. ويضع نقطة أخيرة، على مسيرته. والواقع أن كثراً منذ بداية تجربته تمنوا أو توقعوا لها الفشل، رغم أن سوريا احتاجت ناطقاً يدافع عن سياستها منذ أربعة عقود مضت، ولم توفق به إلا لبضعة أشهر.

  • فريق ماسة
  • 2013-02-13
  • 9657
  • من الأرشيف

مقدسي يفسر رحيله: الاستقطاب بات لا يحتمل

في الأسابيع الأخيرة التي قضاها المتحدث باسم وزارة الخارجية السورية جهاد مقدسي، في دمشق، كان يحمل مسدساً على خصره، ويسبق تحركاته مرافق مسلح، أسوة بكثير من المسؤولين السوريين الذين شعروا، عن حق، بأن حياتهم مهددة. وفي تلك الأسابيع ربما ترسخت قناعات مقدسي عن الصراع الدائر في سوريا، حتى اتخذ قراره بالمغادرة الصامتة، التي أرادها من دون ضجة، وإن كان ذلك شبه مستحيل. وقد اختار لحظة لا مغزى لها كتوقيت، ولا يرمى عليها حمل سياسي ليقول إن قراره فردي ومستقل، وأن لا نية له «في أن يكون خنجراً في يد أحد»، وهو من دون أدنى شك رفض إغراءات كبيرة ليفعل غير ذلك. وأعدَّ مقدسي، بياناً من ألف كلمة، صاغه على مهل، وتمحص فيه وقتاً طويلاً، قبل أن يرسله إلى قناة «سكاي نيوز» العربية، التي وصفه مذيعها في نشرة الظهيرة عن غير حق بكونه «منشق»، رغم أن بيانه يقول ما هو أعمق من ذلك. واستخدم مقدسي، في بيانه أمس، منطقه الذي كثيراً ما استخدمه، قبل رحيله، خلف جدران مكتبه في وزارة الخارجية في كفرسوسة، لا أمام شاشات التلفزة. «كنت آمل أن يضمد جراحنا الحوار الوطني المنشود الذي للأسف لم ير النور، لكن العنف والاستقطاب لم يتركا مكاناً للاعتدال والديبلوماسية»، مستتبعاً مقدمته في البيان المنشور «واعتقدت أن مجرد مغادرتي بقرار شخصي ومستقل كانت كفيلة بأن تفهم الناس أنني وددت بذلك مخاطبة العقلاء فقط، لأن الأطراف على الأرض لم تعد تستطيع، بسبب الدماء، أن تسمع أي صوت». ويضيف مقدسي، بعد أن يلاحظ بأن «الحراك الشعبي المتمثل بالمطالب المشروعة قد كسب - بمبادئه وجوهره - معركة القلوب»، أن «الاستقطاب بين السوريين وصل إلى مرحلة قاتلة ومدمرة». ويفند مقدسي، في بيانه، الذي حصلت «السفير» عليه، أن ما من ألغاز وراء مغادرته ولا أسرار لديه، كما أنه «ليس ممن يفرّط بالأمانة أصلاً، والدليل على عدم وجود أجندة مسبقة لي هو صمتي وعدم استثمار أحد لمغادرتي أبداً». ويتابع «خرجت من المشهد مستقلاً لكي لا أزيد ألم بلدي وليس العكس، ولكي لا أكون خنجراً بيد أحد ضد مصلحة سوريا»، و«وصلت إلى مرحلة وجدت نفسي كسائر السوريين ممزقاً بداخلي بكل ما للكلمة من معنى، فالعنف أجهز على كل منطق وعقل، في الوقت الذي تحتاج سوريا فيه للعقل والحكمة أكثر من أي وقت مضى. وبات الاستقطاب والاصطفاف سيد الموقف، وكأن ما يحصل في سوريا مجرد وجهة نظر». ويضيف مقدسي «لقد غادرت بلدي سوريا مؤقتاً لاستقر ـ منذ مغادرتي ـ لدى إخوان لنا من الشرفاء ممن يساعدون الشعب السوري على تجاوز محنته الإنسانية من دون تمييز. لقد غادرت ساحة حرب ولم أغادر بلداً طبيعياً، وأعتذر من الناس الذين وثقوا بمصداقيتي على المغادرة من دون إعلان مسبق، فقد تمنيت لو كان بإمكاني البقاء على تراب الشام، لكن لم يعد للوسطية والاعتدال مكان في هذه الفوضى وخرجت الأمور عن السيطرة، يريدها البعض معركة وجود، فيما أنا أرى أنها يجب أن تبقى معركة لإنقاذ الدولة والكيان السوري عبر الشراكة الوطنية»، ليقول لاحقاً إن «كمية الدماء من كل الأطراف أكبر بكثير من قدرتي كإنسان وكأب على الاحتمال». وأمل مقدسي «بعد كل هذه التضحيات الجسيمة والمؤلمة أن تستكمل المعارضة شرعيتها، عبر مد اليد للآخر وطمأنة الداخل المتنوع من كل الأطياف بأن المعارضة تعمل لإنجاز الشراكة الوطنية، فهناك الكثير من الوطنيين والعقلاء ممن هم حريصون على الدولة وعلى عدم انهيار مؤسساتها». وشدد على ضرورة أن يتم التغيير «بعيداً عن الكراهية والتطرف والتدخل العسكري الخارجي، فهذا هو المخرج السياسي الأنسب وقد يكون الوحيد للأزمة السورية». عدا ذلك لا يتحدث جهاد عن مستقبله. عما سيفعل. عن الأفق الذي يريده لنفسه. لكنه يشدد في تصريح لوكالة «فرانس برس» على أنه «مستقل ولن ينضم إلى صفوف أحد». لذا ولأسباب أخرى يمكن تقديرها اختار وتمنى وسعى تقريباً لخروج صامت من دون ضجة واستغلال إعلامي وإن لم يفلح في ذلك. إذ كان اختار أن يترك رسالة على مكتبه يطلب فيها إجازة من دون راتب لمدة ثلاثة شهور، قبل أن يهم ظهر الخميس في 29 تشرين الثاني الماضي بالمغادرة إلى بيروت من دون عودة. ولكن لتكتشف الرسالة بعد أربعة أيام، إثر ضجة حول اختفائه، ارتبطت بقضية «الأسلحة الكيميائية» التي كان لها أثر على أداء الرجل، سواء اتفق على أن «الاعتراف» كان خطأ منه أم نصاً مكتوباً. الضجة أثارت أطرافاً مختلفة، بينها وزارة الخارجية، التي سارع موظفوها لاستكشاف مكتبه ليجدوا عليه الرسالة، وذلك وفقاً لما قاله لـ«السفير» مصدر موثوق في الخارجية، نفى حينها تماماً أن يكون الرجل قد أعفي من منصبه، رغم ما ضج به صحافيون بعضهم كان التقى مقدسي قبل ذلك بيوم واحد فقط. وتم التعاطي رسمياً مع رحيل جهاد مقدسي بهذه الطريقة المبسطة، ليس لأن الرجل يملك أسراراً (كما ينفي)، وإنما لأن الرجل حظي باحترام مرؤوسيه، ولأن الحكومة ليست بحاجة إلى قصة انشقاق أخرى، خصوصاً أن للرجل شعبية، حصدها من اعتلائه موقعاً احتاجته سوريا وافتقدته طوال العقود الماضية. كلام مقدسي عن الاستقطاب يعبر صراحة عن مستوى العنف والكراهية العميقين الذي وصل إليهما الصراع في سوريا، والأبعاد المفتوحة التي يجترحها. ورغم أنه كان يظهر ليتحدث عن عصابات مسلحة في مؤتمراته، إلا أنه كان يصف الصراع بالأهلي في لقاءاته الخاصة. يضاف إلى ذلك صراعات داخلية استنتج مقدسي من خلالها أن لا مكان لشهاداته البريطانية والأميركية في التعاطي الإعلامي الدائر، وأن الرؤوس والشاشات المتواجهة ستبقى بذات الأسلوب والصيغة التي بدأتها في ربيع العام 2011. ينهي مقدسي جدلاً حوله ببيانه الطويل. ويضع نقطة أخيرة، على مسيرته. والواقع أن كثراً منذ بداية تجربته تمنوا أو توقعوا لها الفشل، رغم أن سوريا احتاجت ناطقاً يدافع عن سياستها منذ أربعة عقود مضت، ولم توفق به إلا لبضعة أشهر.

المصدر : زياد حيدر\ السفير


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة