دليل ماسة
أكثر الروابط استخداما
ما تزال أحوال مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين في دمشق على حالها، بل وتزداد سوءاً يوماً بعد يوم، منذ خروج غالبية سكانه في تغريبة فلسطينية جديدة.
وتزداد تلك المعاناة مع صعوبة تأمين ضرورات الحياة والمعيشة اليومية، لمن تبقى من الناس من غذاء ودواء ومحروقات، فضلاً عن انقطاع التيار الكهربائي، وتهتك أجزاء كبيرة من الشبكة الكهربائية نتيجة الأعمال العسكرية. لم يتبق من سكان المخيم سوى 15 في المئة تقريباً، خصوصاً بعد ليلة القصف العنيف بالهاونات في اليومين الأخيرين من العام 2012، حيث دفعت تلك الحالة المشتعلة غالبية من تبقى من سكانه للخروج نحو مناطق دمشق المختلفة والآمنة، بعد أن كان مخيم اليرموك في أوقات سابقة هو الملاذ الأكثر أمناً وأماناً في كل مناطق دمشق وضواحيها وريفها، وحتى في عموم سوريا.
فكيف حال مخيم اليرموك الآن، وهل من آفاق لعودة سريعة لعموم مواطنيه وسكانه المتناثرين والمشردين من سوريين وفلسطينيين؟
تغريبة ومصاعب
نبدأ القول، بأن تغريبة فلسطينيي مخيم اليرموك تمت هذه المرة إلى أحياء مدينة دمشق الداخلية مثل الأمين، الميدان، الزاهرة، القاعة، البرامكة، المزة، ضاحية قدسيا، ودمر، مشروع دمر، صحنايا، الأشرفية، جرمانا، والمنطقة الصناعية، وإلى أبنية المعهد التكنولوجي التعليمي التابع لوكالة "الأونروا"، والمسمى بمعهد الـ "VTC" والقائم في منطقة المزة وغيره، فيما نزحت أعداد إضافية منهم إلى مخيمات وتجمعات فلسطينية مستقرة نسبياً، كمخيم خان دنون الواقع على طريق دمشق - درعا، ومخيم خان الشيح على طريق دمشق - القنيطرة وعلى بعد أقل من 40 كيلومتراً من الحدود السورية - الفلسطينية (حدود سايكس - بيكو)، ومخيم جرمانا الواقع إلى الجنوب الشرقي من دمشق، وهي مخيمات وتجمعات فلسطينية تقع في مناطق ريف دمشق، وتخضع لإدارة وخدمات "الأونروا" بجوانبها الثلاثة، الصحية والتعليمية وخدمات الإغاثة الاجتماعية.
وقد امتدت تلك التغريبة الفلسطينية هذه المرة لتصل إلى لبنان (بحكم الامتداد والتواصل الأسري والعائلي والقرابة والنسب بين فلسطينيي سوريا ولبنان)، كما وصلت إلى مصر (بعد سنوات من إغلاق مصر أبوابها أمام فلسطينيي سوريا)، ووصلت أيضاً إلى عموم دول غرب أوروبا التي يقطن فيها بعض من أبناء مخيم اليرموك بقصد العمل أو الدراسة أو الهجرة السابقة، فانضم إليهم العدد القليل من أفراد عائلاتهم.
وبالطبع، فإن المشكلة الأكبر والتي تواجه مشردي مخيم اليرموك في هذا المجال تتمثل في الحالة الاقتصادية المتردية لعموم اللاجئين الفلسطينيين من أبناء اليرموك، الذين وجدوا أنفسهم من دون مأوى في شتاء سوريا القارس ولا سيما في دمشق، وعدم قدرة غالبيتهم على استئجار منزل جديد ودفع تكاليفه الباهظة مع ارتفاع الأسعار وتراجع الحالة الاقتصادية والإنتاجية في البلد بشكل عام، واستشراء حالة العسر الشديد بين عموم العائلات وتراجع مداخيلها بسبب من توقف الدورة الاقتصادية، أو تعثرها.
مؤشرات غير مبشّرة
إن النزوح الفلسطيني الواسع من مخيم اليرموك، تم بفعل قسري، نتيجة التطاحن الدموي في مناطق مختلفة من المخيم وعلى مداخله وبواباته الرئيسية، واستمرار حالات القنص واستسهال القتل.
وقد تعاظم ذاك النزوح خلال الأيام الأخيرة بالرغم من عودة عدة آلاف من أبناء المخيم من الذين اخترقوا شوارعه الرئيسية وكسروا حالة الحصار. لكن تلك العودة المحدودة انتكست مؤخراً مع توسع نطاق العمليات العسكرية، وتساقط قذائف الهاون بشكل غير مسبوق على مناطق مختلفة من المخيم وشوارعه الرئيسية. وقد ادت تلك القذائف إلى سقوط أعداد متزايدة من أبناء المخيم من فلسطينيي سوريا، وقد تم دفنهم على عجل في مثوى شهداء فلسطين في اليرموك.
إن كل المؤشرات والمعطيات، غير مبشّرة، وتشير إلى أن مشكلة مخيم اليرموك وبقاء سكانه خارجه ربما ستطول، ولن تجد لها حلاً سريعاً، في ظل ارتفاع منسوب الانفجار الداخلي في الحالة السورية عامة، وعجز عموم الفصائل والقوى الفلسطينية عن القيام بمهمة إنقاذ المخيم وإعادة الناس، بالرغم من تواتر الاجتماعات اليومية بين وفد فلسطيني، يمثل كل تلك القوى والفصائل، مع الجهات السورية الرسمية من جانب، ومع ممثلي "الجيش الحر" والفلسطينيين المنضوين في إطاره (لواء العهدة العمرية ولواء زهرة المدائن ولواء أحرار فلسطين) و"جبهة النصرة" المتواجدين داخل المخيم من جانب آخر.
فالمعلومات المتوافرة في هذا الجانب والمستقاة من مصادرها الفلسطينية الرسمية في مخيم اليرموك ومن ممثلي القوى والفصائل (حيث مازلت شخصياً أحاول البقاء في المخيم) تشير إلى أن كل الجهود مازالت تراوح مكانها، وأن عودة الناس مازالت محفوفة بالمخاطر، فكل يوم يستشهد المزيد من أبناء المخيم قنصاً أو بشظايا القذائف أثناء محاولتهم دخول المخيم أو الخروج منه لجلب بعض المواد الضرورية لاستمرار العيش والحياة داخله.
الاحتمالات المفتوحة
وعليه، فإن الاحتمالات المفتوحة الآن بالنسبة لأزمة مخيم اليرموك تتمحور وفق ثلاثة اتجاهات:
أولها، بقاء الوضع على ما هو عليه، من قصف وقتل وقنص وتطاحن دموي، وهو ما سيفضي في نهاية المطاف إلى خروج كل الناس من المخيم وبشكل نهائي، مع شح مقومات الحياة داخله، واستمرار الأعمال العنفية الدموية واستسهال القتل والقنص وأعمال التفجير، وبالنتيجة تشريد نهائي لأبناء المخيم لأجل غير مسمى قد يطول ويطول... وعندها علينا أن ننسى مخيم اليرموك، وسنجد أنفسنا أمام هموم جديدة لها علاقة بمن خرج من اليرموك، خصوصاً بالنسبة لأولئك الذين خرجوا وليس بيدهم حيلة للتغلب على المصاعب الاقتصادية ومصاعب الإقامة وغيرها.
وثانيها، قيام الجيش السوري بعملية عسكرية شاملة لإخراج "الجيش الحر" و"جبهة النصرة" من اليرموك، وعندها ستكون المعركة قاسية، وسيكون الثمن تدمير ونهب أجزاء واسعة من المخيم، ووقوع إصابات بين من تبقى من أبنائه ومقتل أعداد كبيرة منهم، والوصول إلى نهاية دراماتيكية لهذا التجمع الفلسطيني الضخم في الشتات.
وثالثها، أن يتسامى الجميع، ويسعوا لإعلاء صوت العقل، والعودة إلى منطق تحييد مخيم اليرموك وإعادته كما كان، ملاذاً آمناً وأميناً للجميع، ويداً ممدودة تساعد على بلسمة جراح جميع السوريين، وعودة كل سكانه ومواطنيه إليه. وهذا الأمر يبدو صعباً الآن، ويحتاج إلى جهود كبيرة تتعدى إمكانيات وقدرات عموم الفصائل والقوى الفلسطينية، لكنه يمثل حل العقل والحكمة، الذي يحفظ الناس ويحفظ منازلهم ودماءهم، ويحفظ للفلسطينيين خصوصيتهم الوطنية في بلد يحبونه ويتمنون له كل الخير، ويناصرونه في السراء والضراء.
وهنا أود أن أشير إلى أن الحل الأخير هو ما يتمناه الناس ويسعون إليه، فالمزاج العام عندهم يدفع بهذا الاتجاه، وقد خرجت بعد صلاة الجمعة الأولى من العام الجديد مسيرة من مسجد عبد القادر الحسيني وسط المخيم شارك فيها من تبقى من أبناء المخيم، وجابت أجزاء آمنة منه، وهي تنادي بتحييد اليرموك وإعادته كملاذ آمن للجميع، وإلغاء جميع المظاهر المسلحة داخله وعلى أطرافه. كما هتفت للشهيد وطالبت بفك الحصار عن مخيم اليرموك، ونددت بالصمت إزاء ما يتعرض له.
دروس رحلة المآسي
أخيراً، إن ذل النكبة ورحلة المآسي الطويلة، كفيلة بأن تشفع للشعب الفلسطيني وأن تجعله يرتاح قليلاً، فعلائم الخوف والقلق، باتت ترتسم الآن على جباه كل مواطني مخيم اليرموك من فلسطينيي سوريا، فيما يكمن داخل أفئدتهم الخوف والهلع، من إعادة استنساخ التجارب المؤلمة التي مر بها الشعب الفلسطيني خلال رحلة التراجيديا المأساوية التي عاشتها أجياله المتعاقبة منذ النكبة.
فقد سبق وأن مسحت مخيمات وتجمعات فلسطينية عدة من الوجود في أوقات سابقة في لبنان، حيث دمر مخيم النبطية عن بكرة أبيه في العام 1974 وحرثته طائرات العدو الإسرائيلي، ودمر مخيم ضبية ومخيم جسر الباشا وتجمع الكرنتينا في بيروت الشرقية مع بدايات سنوات الحرب الأهلية اللبنانية بداية العام 1976، كما دمر مخيم تل الزعتر (والواقع في بيروت الشرقية أيضا) نهاية صيف العام 1976 ومسح من الوجود نهائياً، فيما وقع ما وقع قبل سنوات بحق مخيم جنين في الضفة الغربية، وفي مخيم نهر البارد قرب طرابلس شمال لبنان.
فهل سيكون نصيب مخيم اليرموك مماثلاً لما وقع، خصوصاً وأن الحجم السكاني للمخيم يساوي ضعفي المخيمات التي ذكرت، وبالتالي فإن مأساته إن وقعت، لا سمح الله، فستكون كارثة بكل ما للكلمة من معنى.
المصدر :
علي بدوان
اكتب تعليق
كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة