تراجعت سريعاً الانتقادات التي وُجهّت إلى البطريرك الماروني حيال زيارته دمشق. لا حزب الكتائب استفزّته ولا حزب القوات اللبنانية. الآخرون الذين ينتظرون سقوط النظام لم يتصوّروا بطريرك الموارنة هناك قبل السقوط. عاد البطريرك مرتاحاً. لم يتزحزح، ولم يُخطئ رهانه

الانطباع الأول للبطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي، صباح أمس، عن زيارته دمشق الأحد أنها كانت «جيّدة. الجميع تابعها باهتمام. لكن المهم أن يعرف المسيحيون، والموارنة خصوصاً، أن هناك مسيحيين وموارنة آخرين في بلاد غير لبنان. وكذلك في سوريا».

ليس الراعي أول بطريرك ماروني يزور سوريا منذ إعلان لبنان الكبير عام 1920 فحسب، بل سبق لبكركي أن استقبلت أول رئيس منتخب لسوريا في ظلّ أول دستور مكتوب لها عام 1932 هو الرئيس محمد علي بك العابد، يرافقه رئيس ثالثة حكومات عهده (الرئيس السابق للدولة) تاج الدين الحسني. جاءا إلى بكركي لتهنئة البطريرك مار أنطون بطرس عريضة بعيد الفصح عام 1934. تبادل الثلاثة الخطب في الصرح، من غير أن يأتي أي منهم على ذكر السياسة أو موقف سياسي، مكتفين بعبارات الودّ والمجاملة. مذ ذاك قيل، ومن غير أن يذهب إليها، إن عريضة كان أول بطريرك ينسج علاقات بين الكنيسة المارونية وسوريا، وهو يوازن بينها وبين فرنسا. طلب حسن الجوار مع الدول المجاورة واستقلال لبنان، ومعاهدة مع فرنسا لضمان مصالح البلدين. كان في الوقت نفسه أبرز مَن نادى بجلاء سلطات الانتداب والجيشين الفرنسي والبريطاني بعد عام 1941.

لم يذهب بطريرك ماروني إلى سوريا يوماً. لكنّ مسؤولين سوريين قصدوا بكركي مراراً في أولى سني الحرب، كالوزير عبدالحليم خدّام واللواء حكمت الشهابي، وبعد انقضاء الحرب كاللواء غازي كنعان. كذلك اتصل البطريرك مار أنطونيوس بطرس خريش في 21 آذار 1976 بالرئيس حافظ الأسد لحضّه على بذل جهوده لوقف الحرب. كان الأسد على وشك استقبال كمال جنبلاط الذاهب إليه لانتزاع موافقته على حسم عسكري ضد المناطق المسيحية.

بين عريضة والراعي محطتان مهمتان أيضاً: أولى هي البطريرك مار بولس بطرس المعوشي الذي اتخذ موقفاً سلبياً من سوريا، ولكنه نظر بتقدير إلى الرئيس جمال عبدالناصر عندما أضحى رئيس مصر وسوريا معاً بين عامي 1958 و1961. أمكن حينذاك توسيط المعوشي مراراً لدى عبدالناصر، وقد وجد في الرئيس المصري ضماناً يقلّل شرور المسؤولين الذين حكموا سوريا في ظلّ الجمهورية العربية المتحدة. وثانية هي البطريرك مار نصرالله بطرس صفير الذي ناوأ وجود الجيش السوري في لبنان، وكذلك تدخّل سوريا في شؤونه، ورفض مراراً دعوة رسمية لزيارة دمشق إبّان وجود الجيش السوري، وبعد جلائه عن الأراضي اللبنانية.

في الاجتماعات الدورية لمجلس الأساقفة الموارنة، عندما كان يعتزم اتخاذ قرار مهم في مسألة دقيقة وحساسة يقتضي أن يجاري السياق التاريخي لمواقف البطريركية وأسلافه البطاركة في أحوال مشابهة، غالباً ما قال صفير: لو كان البطريرك عريضة أو الحويك أو المعوشي مكاني، أي موقف كان سيتخذه؟

في معظم الأحيان كان صفير يسمّي المعوشي الذي عمل في ظلّه كاهناً منذ عام 1956 أمين سرّه، قبل أن يسومه مطراناً عام 1961 ويعيّنه نائباً بطريركياً عاماً. كان الموقف من سوريا في صلب هذا التفكير عندما كان البطريرك السلف يؤكد أن لبنان مع سوريا عندما تكون سوريا في سوريا، وليست دولة احتلال للبنان تسيطر على إرادته وقراره. لم يتزحزح عن اعتقاده بأنها تريد وضع اليد على هذا البلد، مبدياً قلقه وخوفه الدائمين على الاستقلال والسيادة. وهو برفضه الدعوات الرسمية الموجّهة إليه ـــ وكان مجلس الأساقفة يتفهّم وجهة نظره ويبرّرها ويؤيدها ـــ يجزم بعدم مساومته عليهما.

لم يتأخر الراعي حينذاك ـــ وكان لا يزال مطراناً لجبيل ـــ في الردّ على منتقدي البطريرك من مواقفه من سوريا، وتهديدهم بالحرم الكنسي. حتّمت المرحلة تلك على الكنيسة المارونية أن تكون في هذا الموقف من النظام السوري.

منذ قرّر الراعي زيارة دمشق، وضعها في نطاق معطيات أبرزها:

1 ـــ أنها زيارة كنسية وليست سياسية. كان الراعي هنّأ المطران يوحنا اليازجي بانتخابه بطريركاً للروم الأرثوذكس عندما زاره في دير البلمند، وتواعدا يومذاك على اللقاء من دون تحديد مكانه. عندما تبلّغ موعد تنصيب اليازجي، قرّر البطريرك الماروني المشاركة في الاحتفال، ونظر إلى الحدث على أنه مهم للكنيسة الأرثوذكسية التي تشكل مع الكنيسة السريانية الأرثوذكسية الكنيسة الأكبر والأقدم في سوريا، قبل كل موجات الاجتياح وتعاقب الأنظمة السياسية والانقلابات العسكرية التي عبرت بسوريا حتى الأمس القريب.

2 ـــ أبلغ البطريرك إلى مجلس الأساقفة الموارنة، في اجتماعه الأخير، رغبته في المشاركة في احتفال التنصيب في دمشق. لفته الأساقفة إلى أهمية الحدث والمشاركة معاً، وإلى الخشية من تسييس الزيارة في ضوء تجاذب المواقف الداخلية ممّا يجري في سوريا، مع نظام الرئيس بشّار الأسد وضده.

لم يتردّدوا في القول: إذا كان لا بد من مقابلة الرئيس السوري، فلن تكون الزيارة في أوانها المناسب. ليس لبنان، ولا الكنيسة، في الوقت الحاضر في وضع يلائم جبههما تحديات جديدة.

كان جواب البطريرك أنه قرّر زيارة سوريا من اقتناعه بضرورة المشاركة في احتفال التنصيب، بلا أي بعد سياسي لها. لم يعلّق صفير على قرار الزيارة. مذ استقال واكتفى بحضور جلسات مجلس الأساقفة، لم يتخذ البطريرك السلف موقف التحفّظ من أي من الخيارات والمواقف التي حدّدها خلفه، وبعضها يقف على طرف نقيض حاد من الحقبة البطريركية السابقة.

3 ـــ لم يكن في الوارد لدى الراعي عقد اجتماع بالأسد، ولا سمع من السفير السوري علي عبدالكريم علي في المكالمة الثانية التي تبادلها معه، في خلال 24 ساعة، رغبة معاكسة. في المكالمة الأولى أكد البطريرك للسفير أنه يريد زيارة كنسية ورعوية لدمشق من دون لقاء بالرئيس السوري. في المكالمة الثانية أبلغ إليه السفير ما أبلغته إياه الرئاسة السورية، وهو أن الأسد لا يتوقع الاجتماع به في الظروف الحالية، عزاها الرئيس السوري إلى أن أي تفسير أو بعد سياسي للمقابلة لن يكون في مصلحة الكنيسة المارونية ولا في مصلحة الدولة السورية. قال له السفير باسم الأسد: أهلاً وسهلاً. لن تطلب سوريا أن تكون الزيارة رسمية.

4 ـــ رغم تمسّكه بزيارة يريدها تاريخية، ولكنها كنسية أولاً وأخيراً، لم يساور البطريرك أي اعتقاد بأن اجتماعه بالأسد يعزّز شرعيته، أو تفادي الاجتماع به يجرّده منها. لم يعد النظام كما كان قبل سنوات، ولم يعد في لبنان في أي حال. لا يسع الكنيسة أيضاً أن تظلّ ما كانت عليه قبل سنوات، بل بات عليها التأقلم مع الظروف والتحوّلات الجديدة التي وضعت مسيحيي الشرق في محن متتالية، لم يخفها الراعي في كلمتيه في باب توما ثم في احتفال التنصيب عندما تحدّث عن التضامن بين الكنائس الشرقية.

  • فريق ماسة
  • 2013-02-11
  • 10204
  • من الأرشيف

الراعي:المهم أن يعرف المسيحيون أن هناك مسيحيين آخرين في بلاد غير لبنان

تراجعت سريعاً الانتقادات التي وُجهّت إلى البطريرك الماروني حيال زيارته دمشق. لا حزب الكتائب استفزّته ولا حزب القوات اللبنانية. الآخرون الذين ينتظرون سقوط النظام لم يتصوّروا بطريرك الموارنة هناك قبل السقوط. عاد البطريرك مرتاحاً. لم يتزحزح، ولم يُخطئ رهانه الانطباع الأول للبطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي، صباح أمس، عن زيارته دمشق الأحد أنها كانت «جيّدة. الجميع تابعها باهتمام. لكن المهم أن يعرف المسيحيون، والموارنة خصوصاً، أن هناك مسيحيين وموارنة آخرين في بلاد غير لبنان. وكذلك في سوريا». ليس الراعي أول بطريرك ماروني يزور سوريا منذ إعلان لبنان الكبير عام 1920 فحسب، بل سبق لبكركي أن استقبلت أول رئيس منتخب لسوريا في ظلّ أول دستور مكتوب لها عام 1932 هو الرئيس محمد علي بك العابد، يرافقه رئيس ثالثة حكومات عهده (الرئيس السابق للدولة) تاج الدين الحسني. جاءا إلى بكركي لتهنئة البطريرك مار أنطون بطرس عريضة بعيد الفصح عام 1934. تبادل الثلاثة الخطب في الصرح، من غير أن يأتي أي منهم على ذكر السياسة أو موقف سياسي، مكتفين بعبارات الودّ والمجاملة. مذ ذاك قيل، ومن غير أن يذهب إليها، إن عريضة كان أول بطريرك ينسج علاقات بين الكنيسة المارونية وسوريا، وهو يوازن بينها وبين فرنسا. طلب حسن الجوار مع الدول المجاورة واستقلال لبنان، ومعاهدة مع فرنسا لضمان مصالح البلدين. كان في الوقت نفسه أبرز مَن نادى بجلاء سلطات الانتداب والجيشين الفرنسي والبريطاني بعد عام 1941. لم يذهب بطريرك ماروني إلى سوريا يوماً. لكنّ مسؤولين سوريين قصدوا بكركي مراراً في أولى سني الحرب، كالوزير عبدالحليم خدّام واللواء حكمت الشهابي، وبعد انقضاء الحرب كاللواء غازي كنعان. كذلك اتصل البطريرك مار أنطونيوس بطرس خريش في 21 آذار 1976 بالرئيس حافظ الأسد لحضّه على بذل جهوده لوقف الحرب. كان الأسد على وشك استقبال كمال جنبلاط الذاهب إليه لانتزاع موافقته على حسم عسكري ضد المناطق المسيحية. بين عريضة والراعي محطتان مهمتان أيضاً: أولى هي البطريرك مار بولس بطرس المعوشي الذي اتخذ موقفاً سلبياً من سوريا، ولكنه نظر بتقدير إلى الرئيس جمال عبدالناصر عندما أضحى رئيس مصر وسوريا معاً بين عامي 1958 و1961. أمكن حينذاك توسيط المعوشي مراراً لدى عبدالناصر، وقد وجد في الرئيس المصري ضماناً يقلّل شرور المسؤولين الذين حكموا سوريا في ظلّ الجمهورية العربية المتحدة. وثانية هي البطريرك مار نصرالله بطرس صفير الذي ناوأ وجود الجيش السوري في لبنان، وكذلك تدخّل سوريا في شؤونه، ورفض مراراً دعوة رسمية لزيارة دمشق إبّان وجود الجيش السوري، وبعد جلائه عن الأراضي اللبنانية. في الاجتماعات الدورية لمجلس الأساقفة الموارنة، عندما كان يعتزم اتخاذ قرار مهم في مسألة دقيقة وحساسة يقتضي أن يجاري السياق التاريخي لمواقف البطريركية وأسلافه البطاركة في أحوال مشابهة، غالباً ما قال صفير: لو كان البطريرك عريضة أو الحويك أو المعوشي مكاني، أي موقف كان سيتخذه؟ في معظم الأحيان كان صفير يسمّي المعوشي الذي عمل في ظلّه كاهناً منذ عام 1956 أمين سرّه، قبل أن يسومه مطراناً عام 1961 ويعيّنه نائباً بطريركياً عاماً. كان الموقف من سوريا في صلب هذا التفكير عندما كان البطريرك السلف يؤكد أن لبنان مع سوريا عندما تكون سوريا في سوريا، وليست دولة احتلال للبنان تسيطر على إرادته وقراره. لم يتزحزح عن اعتقاده بأنها تريد وضع اليد على هذا البلد، مبدياً قلقه وخوفه الدائمين على الاستقلال والسيادة. وهو برفضه الدعوات الرسمية الموجّهة إليه ـــ وكان مجلس الأساقفة يتفهّم وجهة نظره ويبرّرها ويؤيدها ـــ يجزم بعدم مساومته عليهما. لم يتأخر الراعي حينذاك ـــ وكان لا يزال مطراناً لجبيل ـــ في الردّ على منتقدي البطريرك من مواقفه من سوريا، وتهديدهم بالحرم الكنسي. حتّمت المرحلة تلك على الكنيسة المارونية أن تكون في هذا الموقف من النظام السوري. منذ قرّر الراعي زيارة دمشق، وضعها في نطاق معطيات أبرزها: 1 ـــ أنها زيارة كنسية وليست سياسية. كان الراعي هنّأ المطران يوحنا اليازجي بانتخابه بطريركاً للروم الأرثوذكس عندما زاره في دير البلمند، وتواعدا يومذاك على اللقاء من دون تحديد مكانه. عندما تبلّغ موعد تنصيب اليازجي، قرّر البطريرك الماروني المشاركة في الاحتفال، ونظر إلى الحدث على أنه مهم للكنيسة الأرثوذكسية التي تشكل مع الكنيسة السريانية الأرثوذكسية الكنيسة الأكبر والأقدم في سوريا، قبل كل موجات الاجتياح وتعاقب الأنظمة السياسية والانقلابات العسكرية التي عبرت بسوريا حتى الأمس القريب. 2 ـــ أبلغ البطريرك إلى مجلس الأساقفة الموارنة، في اجتماعه الأخير، رغبته في المشاركة في احتفال التنصيب في دمشق. لفته الأساقفة إلى أهمية الحدث والمشاركة معاً، وإلى الخشية من تسييس الزيارة في ضوء تجاذب المواقف الداخلية ممّا يجري في سوريا، مع نظام الرئيس بشّار الأسد وضده. لم يتردّدوا في القول: إذا كان لا بد من مقابلة الرئيس السوري، فلن تكون الزيارة في أوانها المناسب. ليس لبنان، ولا الكنيسة، في الوقت الحاضر في وضع يلائم جبههما تحديات جديدة. كان جواب البطريرك أنه قرّر زيارة سوريا من اقتناعه بضرورة المشاركة في احتفال التنصيب، بلا أي بعد سياسي لها. لم يعلّق صفير على قرار الزيارة. مذ استقال واكتفى بحضور جلسات مجلس الأساقفة، لم يتخذ البطريرك السلف موقف التحفّظ من أي من الخيارات والمواقف التي حدّدها خلفه، وبعضها يقف على طرف نقيض حاد من الحقبة البطريركية السابقة. 3 ـــ لم يكن في الوارد لدى الراعي عقد اجتماع بالأسد، ولا سمع من السفير السوري علي عبدالكريم علي في المكالمة الثانية التي تبادلها معه، في خلال 24 ساعة، رغبة معاكسة. في المكالمة الأولى أكد البطريرك للسفير أنه يريد زيارة كنسية ورعوية لدمشق من دون لقاء بالرئيس السوري. في المكالمة الثانية أبلغ إليه السفير ما أبلغته إياه الرئاسة السورية، وهو أن الأسد لا يتوقع الاجتماع به في الظروف الحالية، عزاها الرئيس السوري إلى أن أي تفسير أو بعد سياسي للمقابلة لن يكون في مصلحة الكنيسة المارونية ولا في مصلحة الدولة السورية. قال له السفير باسم الأسد: أهلاً وسهلاً. لن تطلب سوريا أن تكون الزيارة رسمية. 4 ـــ رغم تمسّكه بزيارة يريدها تاريخية، ولكنها كنسية أولاً وأخيراً، لم يساور البطريرك أي اعتقاد بأن اجتماعه بالأسد يعزّز شرعيته، أو تفادي الاجتماع به يجرّده منها. لم يعد النظام كما كان قبل سنوات، ولم يعد في لبنان في أي حال. لا يسع الكنيسة أيضاً أن تظلّ ما كانت عليه قبل سنوات، بل بات عليها التأقلم مع الظروف والتحوّلات الجديدة التي وضعت مسيحيي الشرق في محن متتالية، لم يخفها الراعي في كلمتيه في باب توما ثم في احتفال التنصيب عندما تحدّث عن التضامن بين الكنائس الشرقية.

المصدر : نقولا ناصيف\ الاخبار


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة