بالرغم من أن الأجواء السياسية والميدانية في سورية تتجه إلى "تحسن نسبي" وفق ما يؤكده مسؤولون سوريون وديبلوماسيون في دمشق، إلا أن أيا منهم لا يرى في الأفق حلا للصراع الدائر على مستويات مختلفة في البلاد.

اليقين بطول مدة الصراع منشأه ثباته الميداني من دون تقدم نوعي لدى الطرفين، سواء في مناطق الاشتباك الدائم، أم في المناطق التي تشهد استقرارا على حال معين منذ أشهر، فيما يقتصر الانعطاف السياسي الذي تشكل في الآونة الأخيرة على مستوى التحالف المناهض لدمشق في أمرين: الأول الخطر الذي بدأ يصبح واقعا ميدانيا على مستوى إقليمي والمتمثل في خط الانسجام القائم بين القوى الإسلامية المتدرجة من الاعتدال إلى الراديكالية، والثاني في التثبت، من دون شكوك عملية، من أن الرئيس السوري بشار الأسد مصمم على رؤية سورية خارج مرمى النار الخارجية، كما النار الداخلية، أيا كانت الكلفة المتوقعة.

ففي لقائه الأخير مع المبعوث الدولي المشترك الأخضر الإبراهيمي قال الأسد بحزم واضح انه يعتبر أن "الانسحاب (من الحكم) بمثابة خيانة". الأسد كان يرد على مقدمة الإبراهيمي الطويلة التي قال فيها صراحة إنه لا يمتلك مبادرة عكس ما يروج في وسائل الإعلام، وإنما يمتلك أفكارا من بينها "نصيحة أخوية" بأن يكون لدى السوريين أنفسهم مبادرة خاصة، ربما تشتمل على تعهد الرئيس السوري بعدم الترشح في الانتخابات الرئاسية في العام 2014. وهو ما رفضه الأسد كما بات معلوما، منوها بأن صناديق الاقتراع هي التي تحدد شعبية قائد سياسي، ولا شيء آخر.

طَرحُ الإبراهيمي يشكل تراجعا في الخط السياسي الضاغط على النظام، كما يرى ديبلوماسي غربي مقيم خارج سورية. وبالتالي قد يفهمه السوريون، بشكل طبيعي، باعتباره تقدما في مواقعهم. هذا التحول النسبي بدأ فعليا صيف العام الماضي. في أيلول (2012) بدأ المصريون يبحثون بترو مبادرة شفهية تتضمن الحصول على ضمانات إيرانية بعدم ترشح الأسد للانتخابات الرئاسية في العام 2014، مقابل تأييد تسوية تاريخية بين الأطراف المتنازعة. الإيرانيون الذين بدأوا حينها خط تقارب مع القاهرة، وعملوا معها في مبادرة رباعية مشتركة مع تركيا والسعودية (التي انسحبت بعد الاجتماع الأول) رفضوا الاقتراح، وأبدوا بعد أشهر تشددا أكبر تجاه هذه النقطة.

منذ ذلك الحين، تشكل الانطباع السائد ان المعطيات المختلفة بدأت ترسخ ثبات النظام السوري على موقعه، في حرب شرسة لا تقتصر على جوانبها الأهلية فحسب، بل تمتد إلى مستويات إقليمية مضمرة.

يعترف الديبلوماسي الغربي أن العقدة الرئيسية تتمثل في "التعامل مع شخص الأسد" في صراع "يأخذ طابعا شخصيا إلى حد كبير، لا سيما مع تركيا وقطر، ويأخذ شكلا أكثر تعقيدا مع فرنسا والولايات المتحدة". لذا، لا يرى الغرب إمكانية التفاوض مع الرئيس السوري، باعتباره يضعهم أمام "مرآة تظهر الملامح القاسية لخسارتهم". إحساس الغرب بأن نتيجة ما تحققت من حملة دولية تشكلت بجهد مالي وسياسي ضخم منذ عامين، ولا تزال مستمرة، وذهب فيها ضحايا بعشرات الآلاف، لا تزال هي جوهر تحرك الساسة الغربيين، بمن فيهم من يعتقد أن خسارة تلوح في الأفق في كل أحوال الصراع.

زفرة تخرج من صدر الديبلوماسي الغربي حين يتذكر الواقع المر المحتمل القائل إن نصرا على النظام السوري قد يضع الغرب في مواجهة مع أجنحة متعاطفة مع تنظيم "القاعدة" في سورية، إن لم تكن "القاعدة" نفسها برموزها الشهيرة المعروفة، فيما تشكل البدائل الأخرى إما "نصرا" للنظام، سيقود في النهاية للتفاوض معه، ولو بعد حصار يائس يستمر سنوات، أو استمرارا للصراع الذي يهيئ لدمار أوسع وأكثر امتدادا.

"احتمالات الواقع المر" لا تقتصر على نظرة الغربيين للوضع في سورية. الاستنتاج الراسخ بأن "نهاية الربيع العربي" ستكون على الأرض السورية، بات أمرا لا مفر من مواجهته، خصوصا في ظل تنامي الحركات الأصولية، وامتدادها، وانفلات رعايتها من الرقابة بحجج بدأت تلقى حذرا استخباراتيا أكبر. يدخلُ ضمن دائرة القلق هذه الخليجُ العربيُّ، المتمثلُ بإمارات ودول تخضع عمليا لـ"الحماية العسكرية الغربية" من التهديد الخارجي، ولكن من دون حساب مخاطر التهديد الداخلي الذي يعرف الساسة الخليجيون أن مواجهته ستصبح حتمية في حال تمكن "الإسلام السياسي" من حصد امتداد أوسع في العالم، لا سيما العالم العربي. لكن هذا القلق لا يظهر بعد في خطابات الغرب، وإن كان يميز أحاديث خبرائه السياسيين. لكن هل يتنازل الغربيون إلى روسيا ورؤيتها في الحل منذ بداية الأزمة حتى الآن؟

يعتقد مسؤولون سوريون ان ذلك مستبعد، وإن كان ثمة رهان على لقاء الرئيسين الأميركي باراك أوباما والروسي فلاديمير بوتين قريبا. هذا الرهان ليس مستندا لتوافق الطرفين على "شكل" اتفاق جنيف، باعتبار أن سورية لا تحبذه، وإنما على رضوخ الطرفين لـ"الواقع المر المحتمل" وفق توصيف الديبلوماسي الغربي.

في هذا الوقت، ستركز سورية على تعاون أكبر مع الأمم المتحدة في مجال إعادة الإعمار والحصول على إغاثة، كما ستحاول الانفتاح أكثر على النازحين على أطراف حدودها عبر مبادرات تجري بالتعاون مع منظمات دولية ومحلية. أيضا ستسعى الحكومة لإيجاد بيئة عملانية للمبادرة السياسية التي أعلنها الرئيس السوري في خطابه، فيما يستعد حزب البعث العربي الاشتراكي لمؤتمر قطري مختزل سينتهي باستبدال قيادته الحالية، بقيادة "أكثر شبابا وديناميكية". وفي المقابل، لن تهدأ المعركة المستمرة على جبهاتها المعروفة، وسيبقى الباب مواربا تجاه الإبراهيمي.

حراك مستويات الأزمة "المستقرة" يستمر على أرضية الدمار المتزايد التي جل ما يخيف متابعيها أن تنتهي إلى شرذمة كيان الدولة السورية، بحيث تصبح كل التواريخ والتسويات المحتملة، بلا جدوى.

  • فريق ماسة
  • 2013-01-23
  • 11945
  • من الأرشيف

سورية: تحسن نسبي ... وأفق مسدود!

بالرغم من أن الأجواء السياسية والميدانية في سورية تتجه إلى "تحسن نسبي" وفق ما يؤكده مسؤولون سوريون وديبلوماسيون في دمشق، إلا أن أيا منهم لا يرى في الأفق حلا للصراع الدائر على مستويات مختلفة في البلاد. اليقين بطول مدة الصراع منشأه ثباته الميداني من دون تقدم نوعي لدى الطرفين، سواء في مناطق الاشتباك الدائم، أم في المناطق التي تشهد استقرارا على حال معين منذ أشهر، فيما يقتصر الانعطاف السياسي الذي تشكل في الآونة الأخيرة على مستوى التحالف المناهض لدمشق في أمرين: الأول الخطر الذي بدأ يصبح واقعا ميدانيا على مستوى إقليمي والمتمثل في خط الانسجام القائم بين القوى الإسلامية المتدرجة من الاعتدال إلى الراديكالية، والثاني في التثبت، من دون شكوك عملية، من أن الرئيس السوري بشار الأسد مصمم على رؤية سورية خارج مرمى النار الخارجية، كما النار الداخلية، أيا كانت الكلفة المتوقعة. ففي لقائه الأخير مع المبعوث الدولي المشترك الأخضر الإبراهيمي قال الأسد بحزم واضح انه يعتبر أن "الانسحاب (من الحكم) بمثابة خيانة". الأسد كان يرد على مقدمة الإبراهيمي الطويلة التي قال فيها صراحة إنه لا يمتلك مبادرة عكس ما يروج في وسائل الإعلام، وإنما يمتلك أفكارا من بينها "نصيحة أخوية" بأن يكون لدى السوريين أنفسهم مبادرة خاصة، ربما تشتمل على تعهد الرئيس السوري بعدم الترشح في الانتخابات الرئاسية في العام 2014. وهو ما رفضه الأسد كما بات معلوما، منوها بأن صناديق الاقتراع هي التي تحدد شعبية قائد سياسي، ولا شيء آخر. طَرحُ الإبراهيمي يشكل تراجعا في الخط السياسي الضاغط على النظام، كما يرى ديبلوماسي غربي مقيم خارج سورية. وبالتالي قد يفهمه السوريون، بشكل طبيعي، باعتباره تقدما في مواقعهم. هذا التحول النسبي بدأ فعليا صيف العام الماضي. في أيلول (2012) بدأ المصريون يبحثون بترو مبادرة شفهية تتضمن الحصول على ضمانات إيرانية بعدم ترشح الأسد للانتخابات الرئاسية في العام 2014، مقابل تأييد تسوية تاريخية بين الأطراف المتنازعة. الإيرانيون الذين بدأوا حينها خط تقارب مع القاهرة، وعملوا معها في مبادرة رباعية مشتركة مع تركيا والسعودية (التي انسحبت بعد الاجتماع الأول) رفضوا الاقتراح، وأبدوا بعد أشهر تشددا أكبر تجاه هذه النقطة. منذ ذلك الحين، تشكل الانطباع السائد ان المعطيات المختلفة بدأت ترسخ ثبات النظام السوري على موقعه، في حرب شرسة لا تقتصر على جوانبها الأهلية فحسب، بل تمتد إلى مستويات إقليمية مضمرة. يعترف الديبلوماسي الغربي أن العقدة الرئيسية تتمثل في "التعامل مع شخص الأسد" في صراع "يأخذ طابعا شخصيا إلى حد كبير، لا سيما مع تركيا وقطر، ويأخذ شكلا أكثر تعقيدا مع فرنسا والولايات المتحدة". لذا، لا يرى الغرب إمكانية التفاوض مع الرئيس السوري، باعتباره يضعهم أمام "مرآة تظهر الملامح القاسية لخسارتهم". إحساس الغرب بأن نتيجة ما تحققت من حملة دولية تشكلت بجهد مالي وسياسي ضخم منذ عامين، ولا تزال مستمرة، وذهب فيها ضحايا بعشرات الآلاف، لا تزال هي جوهر تحرك الساسة الغربيين، بمن فيهم من يعتقد أن خسارة تلوح في الأفق في كل أحوال الصراع. زفرة تخرج من صدر الديبلوماسي الغربي حين يتذكر الواقع المر المحتمل القائل إن نصرا على النظام السوري قد يضع الغرب في مواجهة مع أجنحة متعاطفة مع تنظيم "القاعدة" في سورية، إن لم تكن "القاعدة" نفسها برموزها الشهيرة المعروفة، فيما تشكل البدائل الأخرى إما "نصرا" للنظام، سيقود في النهاية للتفاوض معه، ولو بعد حصار يائس يستمر سنوات، أو استمرارا للصراع الذي يهيئ لدمار أوسع وأكثر امتدادا. "احتمالات الواقع المر" لا تقتصر على نظرة الغربيين للوضع في سورية. الاستنتاج الراسخ بأن "نهاية الربيع العربي" ستكون على الأرض السورية، بات أمرا لا مفر من مواجهته، خصوصا في ظل تنامي الحركات الأصولية، وامتدادها، وانفلات رعايتها من الرقابة بحجج بدأت تلقى حذرا استخباراتيا أكبر. يدخلُ ضمن دائرة القلق هذه الخليجُ العربيُّ، المتمثلُ بإمارات ودول تخضع عمليا لـ"الحماية العسكرية الغربية" من التهديد الخارجي، ولكن من دون حساب مخاطر التهديد الداخلي الذي يعرف الساسة الخليجيون أن مواجهته ستصبح حتمية في حال تمكن "الإسلام السياسي" من حصد امتداد أوسع في العالم، لا سيما العالم العربي. لكن هذا القلق لا يظهر بعد في خطابات الغرب، وإن كان يميز أحاديث خبرائه السياسيين. لكن هل يتنازل الغربيون إلى روسيا ورؤيتها في الحل منذ بداية الأزمة حتى الآن؟ يعتقد مسؤولون سوريون ان ذلك مستبعد، وإن كان ثمة رهان على لقاء الرئيسين الأميركي باراك أوباما والروسي فلاديمير بوتين قريبا. هذا الرهان ليس مستندا لتوافق الطرفين على "شكل" اتفاق جنيف، باعتبار أن سورية لا تحبذه، وإنما على رضوخ الطرفين لـ"الواقع المر المحتمل" وفق توصيف الديبلوماسي الغربي. في هذا الوقت، ستركز سورية على تعاون أكبر مع الأمم المتحدة في مجال إعادة الإعمار والحصول على إغاثة، كما ستحاول الانفتاح أكثر على النازحين على أطراف حدودها عبر مبادرات تجري بالتعاون مع منظمات دولية ومحلية. أيضا ستسعى الحكومة لإيجاد بيئة عملانية للمبادرة السياسية التي أعلنها الرئيس السوري في خطابه، فيما يستعد حزب البعث العربي الاشتراكي لمؤتمر قطري مختزل سينتهي باستبدال قيادته الحالية، بقيادة "أكثر شبابا وديناميكية". وفي المقابل، لن تهدأ المعركة المستمرة على جبهاتها المعروفة، وسيبقى الباب مواربا تجاه الإبراهيمي. حراك مستويات الأزمة "المستقرة" يستمر على أرضية الدمار المتزايد التي جل ما يخيف متابعيها أن تنتهي إلى شرذمة كيان الدولة السورية، بحيث تصبح كل التواريخ والتسويات المحتملة، بلا جدوى.

المصدر : السفير/زياد حيدر


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة