دليل ماسة
أكثر الروابط استخداما
سمعنا جميعا مقابلة الأستاذ الكبير محمد حسنين هيكل مؤخرا والتي صرح فيها بأشياء كثيرة عن سورية وطرح أمامنا قراءات واستطلاعات .. وأنا عندما أستمع الى هيكل أستمع كتلميذ معجب جدا بأستاذه لكنني تلميذ مشاكس لايعتقد بمعصومية الاستاذ دوما فهو يرى أيضا أن الأستاذ لايوفق أحيانا .. وهذا لاينقص من قدر الأستاذ ومكانته الرفيعة واحترامي له .. بل ربما يزيد بعض الخلاف في وجهات النظر من توطد علاقة الاستاذ وطالبه في النقاش العلمي والموضوعي .. وهي تجربة تعلمتها في مناقشاتي الكثيرة مع الكبار وليس من مناوشات الصغار .. وربما كان للمنهج العلمي الذي تعلمته أثره في تلك العقلية المشككة والمشاكسة والتي لاتشبع من أسئلة لاتنتهي من مثل لماذا .. وكيف .. ومتى.. وهل .. التي تتصدى لأي كلام أسمعه ولأي كلمة تريد العبور الى عقلي دون تدقيق تحت شعار يحكمني بشكل ديكتاتوري هو: "أنا أفكر .. اذا انا موجود" .. وهذا العقل النقدي الذي يحاول أن يثقب الحجب في بحثه عن الحقيقة هو مايجعل حياتي صعبة أحيانا .. كما يجعل حياة الآخرين الذين يشنون الغزوات على عقلي صعبة ومهمة ليست يسيرة ولاجذابة لهم لما فيها من ارهاق اقتحام الحصون ومتاريس الأسئلة الصعبة المشاكسة..
هيكل في نظري هو الذي يستحق لقب المفكر العربي فهو رائد وظاهرة صارت عزيزة على قلوب الكثيرين ومصدر فخرها فهو يحمل في حقائبه قطعا كاملة من القرن العشرين وقصاصات من التاريخ .. وهو خزان من خزانات الحقيقة .. ولايجوز عند التخاطب معه الا أن نحترم فيه شيئا خاصا لايملكه غيره من المحيط الى الخليج .. وهو ظلال عبد الناصر .. وضمير مصر العربي بهزائمه وانتصاراته وقلبه المتعب من نذالة العرب ..والمضمخ بالأحلام الرومانسية لثوار مصر في القرن الماضي..وهو من يقف على يمينه القرن العشرون ليمسك يده اليمنى وعلى شماله يقف القرن الواحد والعشرون ليمسك يده اليسرى..
عندما نختلف مع الكبار عندما لايوافقوننا فهذا لايعني أنهم على خطأ واننا على صواب .. ولايعني أننا أدرى منهم في القضايا الشائكة ..ولايجوز استلال السيوف والسكاكين والسياط والمشارط .. ولايعني أن نفتح خزائنهم وننثر أغراضهم وخصوصياتهم .. ونبعثر دفاترهم وأيامهم على الأرصفة .. ونفتش عن ارتعاش العمر في أياديهم وثقوب الذاكرة في حديثهم ونعد لهم العمر والعقود ومابقي لهم من أيام على الرحيل والترجل من قاطرة العمر .. هذا الانفعال يعني ضعفا وقلقا ونزقا.. وهو لايقنع وربما يدل على توتر وتعصب أعمى لوجهة النظر والرأي ..وعندما يسود التعصب يسقط الرأي .. ويسقط المجتمع .. وتسقط قوة المنطق .. واذا سقطت قوة المنطق .. صار أحدنا اما قاتلا أو مقتولا ..وبالمعنى الحالي يصبح ثورجيا من ثورجية الربيع..
ولكن اختلاف الكبار والمرموقين معنا لايعني أيضا أننا على خطأ .. وهنا كمنت معضلة الثورة السورية التي كلما أطل عليها وجه من الوجوه المرموقة قليلا أو فيها كمية زهيدة من المرموقية وبايعها وغمس اصبعه في دواة حبرها الأحمر هللت وكبّرت كما لو كان عمار بن ياسر يقف قبالتنا في معسكر الخصم ونحن الفئة الباغية .. والثورة صنعت من كل الناعقين بخراب الدولة السورية عمار بن ياسر وأحاطته بالطبول والمزامير ووزعت الحلويات كما في حفلة طهور ابن ملك المغرب .. حتى امتلأ معسكر الثورة بمئات من عمار بن ياسر (المصنّع) في عملية انتاج غزير .. ومع هذا لم تنجح الثورة وسقطت في المنحدرات وتعثرت كثيرا .. وحملت على المحفات والنقالات عشرات المرات ودخلت العناية المشددة عشرين مرة .. وفي كل مرة يدخل فريق الاسعاف الاوروبي المحمول جوا والجراحون الامريكيون والاسرائيليون والممرضون من الفرق الطبية العربية وسائقو الاسعاف والمتبرعون بالدم من الخليج ودافعو الضرائب والحمالون الأتراك .. ويزرعون لها الكلى والقلوب والأكباد والأعضاء والأيدي والأرجل والعيون .. وفي آخر عملية اسعاف في الدوحة تم زرع مخ جديد بدل المخ برهان غليون الذي تعطل واهترأ وأصابه الفالج .. وهي الآن تسير بمخ معاذ الخطيب..عل الثورة لاتقع في الفالج مجددا..
الثورات والتحولات الكبرى التاريخية لاتتبع أهواءنا .. ولاتتبع حفلات الطهور ولا علب الملبس التي توزعها شخصيات تنتمي الى الثورة أو لاتنتمي اليها .. ومن هنا كانت الاحباطات الثورية التي وجدت أن كل هذا الحشد من الكتاب والمفكرين والصحف والاعلاميين اللامعين .. من عزمي بشارة الى حمدي قنديل الى فيصل القاسم والقرضاوي ورجال الدين وانشقاقات آل طلاس ورياض محجوب .. والأمراء والملوك العرب ورجال المال ورجال الأعمال والنفط وأوروبة وريتشارد قلب الأسد في انكلترة وملوك بلاد الغال الفرنسيين والأخ أبو عمامة أوباما وسلطنة بني عثمان كلها والجيش الانكشاري وسعدو ذيل الأسد في لبنان .. والقاعدة والظواهري والاخوان المسلمون من شمال افريقيا الى تركيا .. وكل العمليات النوعية في مجلس الأمن ..ومع هذا لاتزال الثورة على ضفاف سورية تموت قهرا وكمدا وغيظا ..فتقتل طلاب الجامعات في حلب نكاية بالنظام ومعاهده العلمية وتحديه العالم ..
ان من يعتقد أن رأيا لفلان أو تصريحا لفلانة هو من يصنع الأحداث أو يقرأ المستقبل فانه يصنع للثورة ثياب العزاء .. لأن الرهان على قراءات الآخرين لكتابك وكتاب جدك هو الانتحار .. كتب أقدار الأمم لايستطيع قراءتها الا أبناؤها ومفكروها المخلصون .. فمهما تحدثنا عن مصر فان ابناء وأصحاب الهيروغليفية وكتابات جدران الاهرامات وأبناء النيل أدرى منا ببلادهم .. فلكل بلد لغة ولكن البلدان والحضارات التي اخترعت حروفها وكتابتها لايستطيع قراءة عقلها الا مفكروها وكتابها وأبناؤها الذين تصير الكتابة جزءا من جيناتهم وتقدر عقولهم على فك رموز الشيفرات التاريخية وتتفاهم مع الأحداث وكذلك نحن فان كتابنا السوري لايعرف أن يقرأه الا السوريون .. فالسوريون لهم كتابتهم المسمارية الأولى .. والأمم التي اخترعت كتابتها لايقرأ لها طالعها ومستقبلها الا من يقرأ في كتبها بلغتها وحرارتها وانفعالها..
قد يتبرع آخرون لقراءة ماهو مكتوب لكن لايقرأ المسماريات السورية الا السوريون ..ومن هنا عجز مفكر مدرب على اقتحام اللغات والعقول في معهد فان لير باسرائيل اسمه عزمي بشارة عن التنبؤ بصمود السوريين.. وعجز السلطان السلجوقي أن يفهم سبب استعصاء الصلاة في الجامع الأموي رغم استعداده لذلك مرارا وفي كل مرة يخلع جواربه ويتوضأ بتصريح حقير .. ويتيمم بالدم .. ومع هذا لم يستطع أن يقرأ للسوريين يوما واحدا من مستقبلهم ولاأن يقرره لهم .. فماباك بأوباما الذي كان يعد الساعات لسقوط النظام .. ووصل به الحد أنه كان يقول انها الدقائق الأخيرة للنظام .. فاذا به يقول الآن بشكل غير مباشر .. انها السنوات الأخيرة ..ان سنواته معدودة ..وسيأتي بعده من يقول انها العقود الأخيرة للنظام
السبب هو أن علينا أن نجد قارئا يقرأ الكتابة المسمارية كما كتب أجدادنا على الرقم المسمارية السورية في أوغاريت..
هاهو الأستاذ الكبير هيكل يدلي بدلوه في الشأن السوري .. وأنا قرأت لهيكل كثيرا واستمعت اليه كثيرا لأنني أحبه كثيرا ومعجب به كثيرا .. وقلما وجدته أخطأ .. لكنني وجدت أمرا ملفتا للنظر في متابعاتي الطويلة لهيكل .. فهيكل لايخطئ في القضايا المصرية اطلاقا وهو خبير بها الى حد يكاد يكون بمثابة حجر رشيد في الشؤون المصرية .. فلكي تعرف ماجرى في مصر منذ آلاف السنين عليك بمعرفة سر حجر رشيد الشهير الذي يفك شيفرة الهيروغليفية .. واذا أردت قراءة مايجري في مصر الآن فعليك بحجر رشيد مصر الحالي وعقلها الرشيد .. محمد حسنين هيكل .. ولكن حجر رشيد والعقل الرشيد يتعثر بسهولة اذا خطا في النقاشات خارج حدود مصر .. فاذا نوقش بشأن أوروبي صرف تكثر عثراته وتقل اصاباته .. لكنه لايخيب أبدا اذا نوقش في قضية أوروبية لها امتداد في شأن مصري أو ذراع في وادي النيل .. فمثلا كان هيكل قد أصدر حكما على أوباما بأنه لن يفوز بالرئاسة الأمريكية الأولى لأن أميريكا ليست مستعدة بعد لرئيس أسود أو لامرأة كما قال .. وكانت كل الاستطلاعات تقول عكس ذلك ومع هذا أصر الاستاذ هيكل .. لكن بعد ساعات تبين أن هيكل أخطأ .. وهناك أمثلة عديدة على هفواته وتوقعاته .. وهنا ليس من المستساغ ذكر قائمة بأخطاء توقعات هيكل لأنها تبدو محاولة استغلال أنه لم يوفق في أمكنة أخرى لاثبات خطئه الآن في الشأن السوري .. وهذا الاستناد الى اخفاقات سابقة له ليس دليلا على أنه على خطأ الآن .. لأن هيكل كان على صواب عدة مرات عندما أخطأ مرة واحدة .. والأفضل أن يؤتى باستنتاجه الى غرفة التحقيق العلمي لمعرفة علته لا بما قاله سابقا وفشل فيه .. ويجب عدم التعامل بتوتر مع قراءاته في الشأن السوري ..فكما لاتزر وازرة وزر أخرى فان قاعدة علم الاحصاء الذهبية هي أن كل نتيجة احصائية تشبه القرعة في السحب وهي مستقلة ولاترتبط بما بعدها ولا بما قبلها ..
ان اختلفت مع هيكل فلن يكون هذا سببا في التقليل من شأنه كأيقونة عربية في العمل الصحفي والتحقيق التاريخي وبالطبع لن يكون سببا في اسقاط رأيي وقراءة الفاتحة عليه .. وبالطبع لست ممن سينحو باللائمة على تقدم هيكل بالعمر وسني الشيخوخة لاتهامه بالخرف كما درجت العادة .. لأن الرجل متقد العقل والذاكرة أكثر من برهان غليون مثلا الذي تصرف ببلاهة منقطعة النظير وبدا متأثرا بالزهايمر المبكر وهو يتصرف كرئيس حتمي ..ولايبدو اللجوء الى هذه الحجة الا لجوء الطبيب الحائر في علة مريض .. فيلوم العمر المتقدم والسنين العجاف ..وهي حجة تصح مع (أبو متعب) مثلا أو القرضاوي .. ولكن مع هيكل ذي العقل المتقد المتوهج .. لاتجوز .. وهي تستوجب الاعتذار ..
ولكن أين اختلفنا مع أستاذنا ..؟؟ وكيف نرى ونقرأ له من كتابنا.. وهل نصحح له ملاحظاته أم نصحح كتابنا المسماري؟؟
نموذج انساني بديع ..والرغبة الصادقة في نشر الديمقراطية
ما يلفت النظر في حديث هيكل الأخير أن هيكل لم يقم بامتداح شخصية عربية دون توجيه انتقادات ولوم .. وهو معروف جدا أنه لايعطي صك براءة لزعيم عربي (باستثناء الرئيس عبد الناصر) بل حتى عبد الناصر لم ينج من لومه .. وهو لايضع نفسه اطلاقا في مرمى أي ملك أو أمير.. كما أن انتماءه والتصاقه باسم عبد الناصر يجعله أقرب الى انتقاص الملوك والأمراء لكنه في هذا التصريح العجيب عن احتمال انحيازه لأسرة آل خليفة بحكم الصداقة مع آل ثاني (الأسرة ذات النموذج الانساني البديع كما وصفها ..قبل أن يتغطى بقبعة صغيرة بقوله انه معجب بها لكنه مختلف معها سياسيا) يبدو فيه هيكل ليس على مايرام.. وقد وضع هذا الكلام هيكل مباشرة تحت مظلة موزة بنت مسند .. وكال المديح اثر المديح .. ومسح بالطيب جسد حمد ..ثم عصر منه كلمة (الأسرة البديعة) و(الرغبة الصادقة في نشر الديمقراطية) !!..
وهذا التعثر لصحفي كبير بجسد أمير وقشور موز يجعل من حمد يرتقي ليقف على كتف عملاق .. ليبدو كبيرا ..وهذه عثرة كبيرة جدا فكيف لأسرة فاسدة تنفق المال وتبذره بسفه .. ونصف سكان أمارتهم هم عائلات جنود قاعدة العيديد .. ونصف طائرات (بي 52) التي قصفت العراق وقتلت عشرات الآلاف تبيت في ظلال قصورهم .. وحملت حمولتها من مخازنها في قطر ..ونصف فتاوى الدم والطوائف تنطلق من عيديد فم القرضاوي .. وبعد هذا يصفها هيكل بالنموذج الانساني البديع !! .. وكأنها من سلالات القياصرة أو ذرية بطرس الأكبر وآل بوربون أو آل ميديتشي الفلورنسية .. أعتقد ان الكلمة مشينة جدا ..ومعيبة جدا ..ومخجلة جدا .. ولايمكن فهمها ببراءة الأطفال..والغريب انها تتناقض بشكل فج مثير للاضطراب مع اشارته الى تدفق 15 مليار دولار الى سورية لتقسيمها وتقاتل شعبها لتسعد اسرائيل .. وهو يعلم أن نصف هذا المال جاء من أسرة النموذج الانساني البديع !!!
الشرعية
ولكن التناقض الثقيل الآخر الذي ظهر في اعلان (النموذج الانساني البديع) هو تبرير اعتذاره عن زيارة سورية لأن الحكم فيها لم يكن شرعيا.. فالاعتذار عن زيارة سورية كما قال بأنه كان لتجنب مباركة التوريث موقف لايبدو مقنعا كثيرا ..لأن مقابلات الرؤساء والزعماء لاتعني اعطاءهم شرعية .. شرعية الحكم والقادة تأتي من التاريخ ومن انجازاتهم .. ومن الشارع .. ولم يحصل أي رئيس على شرعيته من خلال زيارة هيكل له أو زيارة أي مفكر؟؟ ولم يحجب هيكل الشرعية عن رئيس باعتزاله والامتناع عنه ..بل ان مثل هذا الكلام يعطي انطباعا أن الاستاذ هيكل نفسه صار يعتقد أنه ملك الملوك مثله مثل القذافي (الذي هاجمه هيكل قليلا) وينظر للجميع بمنظر أنه هو من يمنح الشرعية .. وهو في النهاية عميد الصحفيين العرب واستاذهم .. لكن انجازات القادة الكبار هي التي تمنح الشرعية .. وليست أقلام وصفحات الجرائد..وصداقات الكتاب والاعلاميين ..
وهنا يظهر التناقض المذهل .. فكيف يمنح هيكل شرعية لحكم أميري بلا دستور ولانهج حكم ويصفه بالبديع ..ثم يصر على رفض زيارة سورية كي لايمنح حكمها الشرعية؟؟ !!! ولن أخشى القول بأن شرعية ومرجعية هيكل الوطنية هي التي جرحت قليلا بمدحه أسرة من أردأ أسر الحكم العربية وأكثرها ظلامية وتخلفا واكثر أسرة عربية صار في رقبتها دم عشرات آلاف العرب من العراق وحتى ليبيا .. وفي مصر في قادمات الأيام كما يعتقد كثيرون..
أما مسألة الشرعية الجريحة للنظام السوري والتي أشار اليها بعد سقوط آلاف الضحايا فهي بالضبط سر الربيع العربي بسفك الدم أو التحريض على العنف كي يتورط الجميع في دم الجميع فتسقط الشرعية عمن تقرر المؤسسات الاعلامية أنه هو القاتل دون تحقق أو تحقيق .. الغاية الرئيسية من كل الضغط الاعلامي والتزييف في الحدث السوري هو ايصال الجميع الى هذا الاستنتاج الذي حتى صخرة هيكل القوية تأثرت به واعتبرت أن الشرعية جرحت بسبب النزاع أو بسبب الضحايا من الجانبين أو بسبب الضجة الدولية ..الخ..
فمنذ الأحداث الأولى ومع قطرات الدم الأولى أعلن الثورجيون سقوط الشرعية (اللي بيقتل شعبه خائن - أي لاشرعية له).. ولكن كيف يحتفظ قتلة الثورة بشرعيتهم وتسقط عن الدولة والرئيس .. لو كان الضحايا من معسكر الثورة فقط لجرحت الشرعية للدولة الوطنية السورية وفقدت عذريتها ..ولكن نحن أمام صراع بين طرفين لم يتردد الطرف الثوري فيه في التمادي في العنف الأقصى بشهادة الجميع وبمعرفة هيكل طبعا الذي لاينكر ذلك بل ويشير الى وجود الموساد في معسكر الثورة علنا.. وهنا نحن نظريا امام اما سقوط شرعية النظام والثوار معا بافتراض تبادل العنف غير المشروع .. أو بقاء الشرعية لهما حتى انتصار أحدهما عسكريا .. لكن أن تسقط الشرعية عن طرف واحد لأن الآخر هو من تقدم بالشكوى والعويل واللطم أمام مجلس الأمن وهو من جاء بشهود الزور فهذا حكم غير رشيد من حجر رشيد .. بل ان وجود كل الحلفاء الغربيين واسرائيل الى طرف الثورة هو الذي يسقط عنها شرعية العمل الثوري والشرعية الوطنية .. وهي أهم من الشرعية الدولية وشرعية الدساتير والمطبوعات القانونية الكثيرة بالطبع وتأتي قبلها بدرجات .. والشرعية الوطنية هي بمنزلة الرأس على جسد الشرعية الدولية .. والا كيف نفسر بقاء شرعية عبد الناصر بعد هزيمة مرة كالعلقم وفشله في أهم مهمة هي حماية الأمن الوطني والقومي؟؟ ان شرعيته كمهزوم قررها الشارع رغم ان آلاف الشباب المصريين ماتوا في صحراء سيناء بسبب حماقة القادة العسكريين الذين كان عبد الناصر يقودهم ..وكانت مظاهرات التأييد هي كالخاتم على قرار الشرعية الوطنية لعبد الناصر ..كما أن الضحايا الذين قتلوا في سورية - من معسكر الثورة تحديدا - في غالبيتهم هم مثل الاخوان المسلمين والقاعدة الذين فرمهم الرئيس عبد الناصر سابقا في مصر وشنق زعيمهم الروحي سيد قطب (دون أن تسقط شرعيته) ..وهم مثل الاخوان المسلمين الذين سحقهم الرئيس حافظ الأسد ولم تسقط شرعيته بل والتقاه هيكل بعد أحداث حماة كما سمعت ..
ولو نظر الأستاذ هيكل الى مظاهرات التأييد للرئيس الأسد بعد اندلاع الأزمة لأدرك أن شكوكه بالشرعية انتهت كما انتهت الشكوك بشرعية بقاء عبد الناصر بعد الهزيمة بالمظاهرات الشعبية المؤيدة له ..
ولولا الأسد وتحالفه مع نجاد لما هزم الأمريكيون في العراق.. ولولا الأسد لما تمكن نصر الله من الصمود في لبنان ليخلق ظاهرة فريدة تعجب لها هيكل وتمنى المحافظة عليها ..وهي انجازات وطنية تمنح الشرعية الوكنية بقوة ..
كما أن شرعية روزفلت لم تسقط بخرقه للدستور الأمريكي وترشحه للرئاسة ثلاث مرات بدل اثنتين لضرورات الحرب .. وشرعية ترومان لم تسقط بارتكابه أكبر جريمة حرب التاريخ البشري في هيروشيما وناغازاكي .. ولافي وضعه المواطنين الأمريكيين من اصول يابانية ضمن معسكرات اعتقال بعشرات الآلاف كما أسرى الحرب خوفا من تعاطفهم مع جذورهم..
لاتسقط الشرعية بمجرد حدوث تمرد داخلي وهنا سأضرب مثالا ليس للتشبيه لكنه للمقارنة التاريخية .. فمثلا لو كانت النزاعات الداخلية سببا في جرح الشرعية لسقطت شرعية أبي بكر لحدوث تمرد عليه من قبل قبائل عربية اعترضت على خلافته وعلى دفع الزكاة وأرادت الاستقلال عن الدولة الجديدة .. وحدث تمرد كبير وواسع ومات في حروب الردة التي استمرت قرابة عامين خلق كثير ومعظمهم من حفظة القرآن مما استدعى أن يقوم عثمان بتدوين القرآن بسبب تناقص اعداد حفظة القرآن بعد حروب الردة بشكل مثير للقلق ..
هل نقصت شرعية عثمان بن عفان أو جرحت بتمرد جاء من مصر؟؟ طبعا لا .. وهل سقطت شرعية علي أو جرحت بسبب حرب صفين وتمرد معاوية وحرب الجمل واصطفاف السيدة عائشة؟ طبعا لا .. وهل سقطت شرعية معاوية بعد علي؟؟ ربما نظريا لكن على أرض الواقع استمرت لاشرعيته النظرية من بعده عدة عقود ولم تسقط الشرعية الأموية الا بالهزيمة أمام العباسيين .. وبقي جزء من الدولة والمسلمين مؤيدين لاستمرار "شرعيته"..
ويبدو مصطلح الشرعية مسطحا جدا وبسيطا جدا في مفهوم الأستاذ هيكل .. فيما هو مركب معقد جدا .. لايصح اطلاقه واستعمال مسطرة الكتب والدفاتر بل مسطرة التاريخ ..
الشرعية تأتي في النهاية من الاستقرار الشعبي والارادة الشعبية وبمقدار حماية الشعب والبلاد والجغرافيا والثروات والقيم الحضارية والانسانية من الكوارث الكبرى .. وليس من دفتر هيلاري كلينتون ..ودفتر بان كي مون ..اللذين يمنح شرعية لآل سعود وكارازاي .. وخالد مشعل ..واريئيل شارون ..ويجرد حسن نصر الله وياسر عرفات من الشرعية كما يحلو له..
السقوط مسألة وقت؟؟
ثم يتعثر الأستاذ هيكل تعثرا كبيرا ويقع في المحظور الذي صار يتجنبه الجميع .. وهو القاء الحتميات وتحديد المواعيد .. فقرر أن الأشهر الستة القادمة ستشهد سقوط النظام الذي سيسقط حتما ان عاجلا أو آجلا ..وقد نسي أنه أبده دهشته وذهوله من صمود النظام عامين في وجه الحرب النفسية الهائلة .. فكيف يتماسك نظام لعامين ويضرب العالم كفا بكف وتنعقد ةالألسنة ثم لايتوقع حدوث صمود آخر لسنتين أخريين مثلا ؟؟ ويذكرني اعتقاده اليقيني بسقوط النظام بوزير الدولة البريطاني الراحل الشهير روبن كوك (وهو من المعارضين الأشداء لحرب العراق وقد قدم استقالته احتجاجا على ذلك) الذي أحس بالغضب عندما سئل توني بلير بعد قرابة سنة على سقوط بغداد عن عدم وجود أسلحة دمار شامل في العراق وقد تمكن الأمريكيون من تفتيش فم صدام حسين فقال باقتضاب: سنجدها انها موجودة حتما ..انها ستظهر دون أدنى شك .. فما كان من الوزير روبن كوك الا أن قال معلقا على اجابة توني بلير: "انني على يقين أن توني بلير هو الوحيد على هذا الكوكب الذي بقي لديه هذا الايمان أو الذي يجرؤ على قول هذا الكلام" ..
وربما سأمنح أستاذنا هيكل نفس التعليق.. انني على يقين أن الأستاذ هيكل هو الوحيد على هذا الكوكب الذي لديه هذا الايمان أو الذي يقول ذلك الكلام..ومراكز الأبحاث الكبيرة التي لاشك سيقدر الاستاذ هيكل على متابعتها ترى أن سقوط النظام محال الا في حال سقطت الصين وروسيا معا ..لأن هاتين الدولتين (وحسب مقابلة هيكل نفسه) تعرفان أن سورية هي بداية معركة المصير لكليهما بعد عقد أو عقدين ..ومن يفوز بسورية سيفوز بشرق آسيا ووسطها ..لأنها بوابة الى ايران وايران بوابة الى شرق وقلب آسيا ..وايران هي العقبة الأخيرة قبل معركة آسيا الكبرى ..
حكايات الهنود الحمر
أما حكاية حسن عبد العظيم وميشيل كيلو وترشيحهما للعب دور قيادي قادم فهو يدل بقوة أن من يقرأ الهيروغليفية لايقدر على قراءة اللغة المسمارية .. وأن التقاعد في المكاتب يبعد الصحفي اللامع عن نبض الناس والشارع ويحرمه من النزول الى الميدان ورحلات كولومبوس لاكتشاف القارة السورية المجهولة .. ويعتقد قراء الكتب المتقاعدون أنها مليئة بالهنود الحمر الذين سينقرضون وتظهر دولة جديدة منها وولايات اسلامية "متناحرة" تبدأ حربا أهلية وتنتهي الى ما يسمى الولايات المتحدة الاسلامية .. ان طرح حسن عبد العظيم السلفي الذي كان يسلح المسلحين في ريف دمشق وميشيل كيلو كأسماء مناضلين كشف لي أن أستاذي الذي أحبه لم يقرأ كل فصول الكتاب السوري الذي حاضرنا به واكتفى بقراءة الهوامش بسرعة وربما قرأ في كتاب هيلاري كلينتون .. وهذا الطرح بالذات يكشف أن هيكل لايعرف شيئا عن التفاصيل السورية وأن رأيه فيها جريح وغير قابل للحياة ... انه اقتراح يشبه طريقة الاسلام هو الحل بكل عشوائيته وفوضويته وعباءته الفضفاضة .. والاستاذ يعرف معنى هذه العبارة ودورانها ودوخاتها ..
أحس أن المقابلة قد حشرت فيها بعض الكلمات لتصبح في جزء منها نشرة من نشرات الجزيرة .. ولو شطبنا اسم هيكل من المقابلة في هذا الجزء لحسبنا أن اللقاء هو مع جبر بن جاسم بن جبر أو أنه مقتطف من صحيفة عبدالباري عطوان (أورشليم) الصادرة في لندن وبالذات من صفحة (الصحف العبرية التي يفرد لها عطوان صدر بيته وهي تمزق لحم الأسد منذ عامين دون توقف وبلغ عدد عناوين الصحف العبرية في صحيفة أورشليم التي أحصيتها وتتنبأ بسقوط الأسد 138 عنوانا)
أعتذر منك استاذ هيكل .. قراءتك ليست عميقة وقراءة الهيروغليفية لاتعني القدرة على فهم المسمارية السورية .. وسأكتب لك مقالا بعد عام وليس بعد ستة أشهر .. وأكتبه لك وأختمه بثلاث كلمات مسمارية هي (سورية .. الله حاميها) .. لقد أخطأ هيكل .. تقبل فائق مودتي ومحبتي واحترامي ..وطول العمر ..
المصدر :
نارام سرجون
اكتب تعليق
كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة