فـي زمـن قيـاسي، أنجـزت أنظمـة الطغيـان، تدميـر أربـع دول عربيـة علـى الأقـل: العراق، ليبيـا، اليمـن وسوريـا.. وثمـة دول أخـرى يتهددهـا الشقـاق الداخلـي، ومشاريـع دول دينيـة ليسـت لهـا أيـة فرصـة للنجـاح إلا فـي تدميـر المجتمعـات

اختفت اللغة السياسية، أو تكاد، في مختلف أنحاء الوطن العربي.

صار النقاش حول «الإسلام السياسي» وكأنه حاضر هذه الأمة ومستقبلها، لا سيما مع تراجع القومية بوصفها الإطار السياسي لفكرة العروبة الجامعة بين مختلف هذه الشعوب في ما بين المحيط والخليج.

بل إن «الإسلام السياسي» قد وصل إلى قمة السلطة في أكثر من بلد عربي، وهو لا يملك برنامجاً واضحاً ومحدداً للحكم، بمعزل عن كيفية وصوله وكلفة هذا الوصول التي سوف تتكبدها المجتمعات التي «انتخبت» بعض رموزه، رفضاً لأنظمة الطغيان التي كانت قائمة وخلعتها ثورات «الميدان» وأسقطتها عن عروشها.

والحقيقة أن الإسلام السياسي لم يكن برنامجاً للحكم في أي يوم. كان الإسلام رسالة توحيد سماوية موجهة إلى الناس كافة، تهدي المؤمنين إلى وحدة الخالق وترشدهم الى الحق وتحفظ كرامة الإنسان وتؤكد له حقوقه الطبيعية، حق الرأي وحق العمل وحقه على مجتمعه وواجبه فيه.

لم يكن للإسلام «حزبه» في أي يوم، إلا في مجال الاستثمار السياسي للدين، ومن الصعب اعتبار المليار وثلاثمائة مليون مسلم أعضاء في الحزب «الكوني».. كذلك فليس من الصحيح اعتبار القرآن الكريم برنامجاً للحكم في أي زمان وأي مكان.

بل إن الإسلام السياسي سرعان ما أعطى للحكم تفسيرات وقواعد شتى، إذ عمدت كل سلطة حكمت باسمه الى اختيار ما يناسبها من مبادئ الدين الحنيف ومن قواعد الحياة في ظلاله، للتفرد بالحكم، مستبعدة جوهر العقيدة والمبادئ الأساسية، حافظة كرامة الإنسان وحقه في الاختيار.

وغالباً ما كان استخدام الشعار الديني ضرورة لطمس الدكتاتورية والهيمنة وصفقات التسليم للأجنبي او التواطؤ معه... بل إن الاستعمار الغربي كثيراً ما استخدم الشعار الديني، والأسر ذات الذكر، في تاريخ الدعوة لتمرير السياسات المفروضة، وبينها تقسيم ديار الإسلام في ما بين «دوله» التي ورثت الإمبراطورية العثمانية - آخر الدول ذات الشعار الإسلامي - الى مستعمرات ومحميات، قبل أن يلجأ إلى التأسيس لاسرائيل - دولة يهود العالم - في قلبها، وبالتواطؤ مع العديد من أصحاب الألقاب الشريفة.

... وها هم العرب بأكثريتهم الإسلامية يهرولون إلى الخلف بسرعة قياسية.

ها هم اليوم يهدمون «الدول» التي استهلكت أجيالهم عبر عقود من الشقاء والاضطهاد والأنظمة الفاشلة، ليبنوا مكانها، وبحسب زعمهم، مشاريع دول دينية ليست لها سوابق، وليست لها أية فرصة للنجاح إلا في تدمير المجتمعات.

بل لكأن هناك سباقاً بين الأنظمة الإسلامية المستولدة حديثاًُ بعمليات قيصرية وبين أنظمة الاستبداد، سواء تلك التي سقطت أو التي تتهاوى الآن وتتسارع خطواتها نحو السقوط حول من هو الأنجح في تدمير المجتمعات ودولها: من حكم بشعارات «عصرية» سخّرت فيها شعارات الديموقراطية والعدالة والقرار المستقل، او هذا القادم من غياهب الدعوة إلى الحكم الديني بعد انقضاء عصر التبشير، وبعد تصاغر العالم بحيث يكاد المواطن في أي مكان يعرف بما يدور في أرجاء الأرض بلمسة من أصبعه.

في زمن قياسي أنجزت أنظمة الطغيان تدمير أربع دول عربية، على الأقل: العراق، ليبيا، اليمن وسوريا.. وثمة دول أخرى يتهددها الشقاق الداخلي بالجوع والتخريب الداخلي، الآن!

وقد سبق الطغيان - وبالشعار الإسلامي - في السودان فأنجز، وها هي تونس تسابق مصر بخطى متعجلة نحو الكارثة.

«ليس في المدينة»، بحسب زعم الإسلاميين، إلا الإسلام السياسي كطريق للخلاص، بل وللتقدم وبناء المجتمع الجديد، مع أن ما عرف من مشاريع هذا الإسلام السياسي لا يشجع على توقع النجاح، بل لعله ينشر الخوف على الحاضر والمستقبل، أكثر مما ينشر الطمأنينة.

وها هم أصحاب هذا الشعار يقدمونه وكأنه الحل السحري الذي كان مصادراً بالسلطة، أو مخفياً بانتظار التمكن بإسقاطها، وآن أن يظهروه ليتقدموا به على طريق بناء المجتمع الجديد بالإيمان.

والشعار الديني حمال أوجه في السياسة، فهو ليس برنامجاً سياسياً لحزب، ولا هو خطة للحكم في أي مكان أو زمان... وهناك تباينات تصل إلى حد التناقض بين أنماط من الحكم المزعوم إسلاميا في بعض البلاد العربية والآسيوية.

وها نحن نشهد في منطقتنا العربية دعاة مختلفين إلى حد تكفير بعضهم البعض، وحملة رايات ترفع أسماء عدد من الخلفاء والصحابة والمجاهدين ومواقع انتصار الدعوة عند انطلاقها، ولكن أي طرف منهم لا يقدم برنامجاً للحكم أو تصوراً للحاق بالعصر يتجاوز الصياغات الأولية لبعض المبادئ أو التعاليم الإسلامية، ودائماً من خارج السياسة. إنهم ضد ما هو قائم. ولكن المستقبل في عهدة الشريعة، والشريعة شرائع بحسب القائلين بها وهوياتهم.

أول مخاطر شعارات الإسلام السياسي أنها سرعان ما تتحول إلى وسيلة لتقسيم المجتمعات وتصنيف المسلمين: في البدء يتم الفرز بين المؤمنين الملتزمين وبين المقصرين في أداء واجباتهم الدينية (الحجاب، الصيام، العلاقة مع غير المسلمين)...

ثم تجيء إعادة النظر في إسلام المسلمين: هل أهل السنة وحدهم هم المسلمون، أم أن الشيعة هم ايضاً من المسلمين؟ هذا قبل الحديث عن المذاهب الأخرى والفروق بين الشافعي والمالكي والحنبلي والحنفي.. وهل أن النموذج القائم في بعض الأقطار العربية للحكم باسم المذهب الحنبلي هو النموذج المطلوب؟ وهل أن أياً من الأئمة والمراجع الدينية قد أنجز برنامجاً للحكم في أي زمان أو مكان، يمكن اعتماده في أي تجربة جديدة، سواء في مصر أم في تونس أم في ليبيا، حيث تسود المالكية ومعها بعض الشوافع والأباضية؟

لقد اجتهد كثير من الدعاة والمفكرين وكتبوا في الفكر السياسي، ولعل بين ما طرحوه مقولات وأفكاراً قابلة للنقاش، ولكن السؤال: هل هذا الذي ُكتب يصبح برنامجاً للحكم؟ وهل انتبه المفكرون منهم إلى أن المجتمعات العربية تعاني من تشوه خطير في قيمها ومعتقداتها نتيجة العهود الاستعمارية الطويلة، التي اخترعت دولاً لم تكن موجودة، ثم زرعت في قلبها كياناً معادياً للعرب عموماً وللمسلمين وللمسيحيين من أهل فلسطين بالذات وما جاورها، على الأقل.

ومن قبل، اجتهد مفكرو الحقبة القومية والمنظرون لوحدة المصير من أهل العروبة فكتبوا عن تصورهم للأمة والدولة، وخرجت إلى النور مشاريع لاقامة الدولة على هذه القواعد، سرعان ما كسرها العسكر... ولذلك خسر العرب أي نموذج للدولة العصرية المؤهلة لحماية وحدة كيانها وتأمين الحريات العامة لشعبها، فصار الخيار بين «الأمن القومي» وبين حرية الفكر، بين موجبات بناء الدولة القوية وبين حقوق المواطنين في الكفاية والعدل داخل أوطانهم.

وبين المفارقات أن تلك الأنظمة قد دمرت المجتمعات وليس الدول فحسب... وهي قد تركت البلاد التي حكمتها طويلا في أوضاع أسوأ من تلك التي تسلمتها فيها، سواء في مجالات الاقتصاد أو الاجتماع أو القوة اللازمة لحماية الوطن.

وإذا ما اتخذنا مصر مقياساً فلسوف ننتبه إلى أن التراجع كان فادحاً في العقود الأخيرة وفي مختلف المجالات: في التعليم وفي الاقتصاد، في الجيش والأمن، في الصناعة والزراعة، في الفنون والثقافة عموماً.

وأذكر أن الدكتور احمد زويل قد زارنا يوماً في جريدة «السفير» في بيروت وحدثنا عن إنجازه العلمي الباهر، لكن ما أوجعنا كان قوله انه قد زار جامعة الإسكندرية التي تخرج منها في العام 1969، بعد عودته إلى مصر، فوجدها أدنى مستوى مما كانت عليه قبل ثلث قرن أو يزيد.

لقد نزلت الجماهير إلى الميدان لتسقط الطغيان الذي دمر الأوطان..

والجماهير تدرك تماماً ان أنظمة الطغيان قد أنجزت تخريب المجتمعات وأنهكت الدول التي حكمتها فجعلتها اضعف من أن تواجه عدواً أو تكسب صديقاً من دون تنازلات تؤذي كرامتها الوطنية.

كذلك فان هذه الموجة من بروز الإسلاميين وتصدرهم السلطة في أكثر من قطر عربي تحملهم المسؤولية عن احتمال تفكك المجتمعات التي يحكمونها منفردين أو بالشراكة مع مساهمين ضعفاء:

فليست مصر مجاميع من الإسلاميين والمسلمين إخوانا وسلفيين وصوفيين، وليس ملايين الأقباط طارئين عليها وفدوا من الخارج و«احتلوها»...

كذلك لا تعيش تونس في القرن الأول الميلادي، ولا تعيش ليبيا في لحظة «انقطاع الوحي» التي جعلها معمر القذافي بداية التاريخ الإسلامي معتبراً أن التأريخ بوفاة الرسول، أدق من التأريخ بهجرته، وهذه بدعة أخرى.

والشعب السوري أكثريته «سنية» لكن في سوريا ملايين من المسيحيين والعلويين والدروز والإسماعيليين اذا أحصيناهم مجتمعين.

أما الشعب العراقي فمركب من الشيعة والسنة والعديد من الأقليات، أبرزهم الأكراد، لكن فيه مسيحيين وصابئة ويزيديين وآشوريين وشراكسة وتركمان وفرساً وأرمن...

وفي اليمن اكثر من مذهب إسلامي (الشافعية والزيدية).

وفي السعودية أغلبية ساحقة من أهل السنة وأقلية شيعية، في حين تنعكس الآية في جزيرة البحرين.

ومخاطر الفتنة تحاصر المشرق العربي جميعاً.

وأي خطأ سياسي يرتكبه حكم «الإخوان» في مصر ستكون نتائجه كارثية في مختلف الديار العربية بما في ذلك الدول التي يسودها مذهب واحد... فالمجتمعات هشة التكوين نتيجة الحكم الطويل لأنماط مختلفة من الطغيان الذي كثيراً ما استخدم فيه الشعار الديني.

ومسؤولية الحكم في مصر في تأمين هذا الوطن العربي تاريخية وخطيرة بل وحاسمة، بضرب الفتنة. ولا يكون ضرب الفتنة بحكم الحزب الواحد، حتى لو كان يملك الأكثرية، فكيف وهو لا يملكها؟

  • فريق ماسة
  • 2013-01-15
  • 9460
  • من الأرشيف

الحكم الديني على طريق الطغيان

فـي زمـن قيـاسي، أنجـزت أنظمـة الطغيـان، تدميـر أربـع دول عربيـة علـى الأقـل: العراق، ليبيـا، اليمـن وسوريـا.. وثمـة دول أخـرى يتهددهـا الشقـاق الداخلـي، ومشاريـع دول دينيـة ليسـت لهـا أيـة فرصـة للنجـاح إلا فـي تدميـر المجتمعـات اختفت اللغة السياسية، أو تكاد، في مختلف أنحاء الوطن العربي. صار النقاش حول «الإسلام السياسي» وكأنه حاضر هذه الأمة ومستقبلها، لا سيما مع تراجع القومية بوصفها الإطار السياسي لفكرة العروبة الجامعة بين مختلف هذه الشعوب في ما بين المحيط والخليج. بل إن «الإسلام السياسي» قد وصل إلى قمة السلطة في أكثر من بلد عربي، وهو لا يملك برنامجاً واضحاً ومحدداً للحكم، بمعزل عن كيفية وصوله وكلفة هذا الوصول التي سوف تتكبدها المجتمعات التي «انتخبت» بعض رموزه، رفضاً لأنظمة الطغيان التي كانت قائمة وخلعتها ثورات «الميدان» وأسقطتها عن عروشها. والحقيقة أن الإسلام السياسي لم يكن برنامجاً للحكم في أي يوم. كان الإسلام رسالة توحيد سماوية موجهة إلى الناس كافة، تهدي المؤمنين إلى وحدة الخالق وترشدهم الى الحق وتحفظ كرامة الإنسان وتؤكد له حقوقه الطبيعية، حق الرأي وحق العمل وحقه على مجتمعه وواجبه فيه. لم يكن للإسلام «حزبه» في أي يوم، إلا في مجال الاستثمار السياسي للدين، ومن الصعب اعتبار المليار وثلاثمائة مليون مسلم أعضاء في الحزب «الكوني».. كذلك فليس من الصحيح اعتبار القرآن الكريم برنامجاً للحكم في أي زمان وأي مكان. بل إن الإسلام السياسي سرعان ما أعطى للحكم تفسيرات وقواعد شتى، إذ عمدت كل سلطة حكمت باسمه الى اختيار ما يناسبها من مبادئ الدين الحنيف ومن قواعد الحياة في ظلاله، للتفرد بالحكم، مستبعدة جوهر العقيدة والمبادئ الأساسية، حافظة كرامة الإنسان وحقه في الاختيار. وغالباً ما كان استخدام الشعار الديني ضرورة لطمس الدكتاتورية والهيمنة وصفقات التسليم للأجنبي او التواطؤ معه... بل إن الاستعمار الغربي كثيراً ما استخدم الشعار الديني، والأسر ذات الذكر، في تاريخ الدعوة لتمرير السياسات المفروضة، وبينها تقسيم ديار الإسلام في ما بين «دوله» التي ورثت الإمبراطورية العثمانية - آخر الدول ذات الشعار الإسلامي - الى مستعمرات ومحميات، قبل أن يلجأ إلى التأسيس لاسرائيل - دولة يهود العالم - في قلبها، وبالتواطؤ مع العديد من أصحاب الألقاب الشريفة. ... وها هم العرب بأكثريتهم الإسلامية يهرولون إلى الخلف بسرعة قياسية. ها هم اليوم يهدمون «الدول» التي استهلكت أجيالهم عبر عقود من الشقاء والاضطهاد والأنظمة الفاشلة، ليبنوا مكانها، وبحسب زعمهم، مشاريع دول دينية ليست لها سوابق، وليست لها أية فرصة للنجاح إلا في تدمير المجتمعات. بل لكأن هناك سباقاً بين الأنظمة الإسلامية المستولدة حديثاًُ بعمليات قيصرية وبين أنظمة الاستبداد، سواء تلك التي سقطت أو التي تتهاوى الآن وتتسارع خطواتها نحو السقوط حول من هو الأنجح في تدمير المجتمعات ودولها: من حكم بشعارات «عصرية» سخّرت فيها شعارات الديموقراطية والعدالة والقرار المستقل، او هذا القادم من غياهب الدعوة إلى الحكم الديني بعد انقضاء عصر التبشير، وبعد تصاغر العالم بحيث يكاد المواطن في أي مكان يعرف بما يدور في أرجاء الأرض بلمسة من أصبعه. في زمن قياسي أنجزت أنظمة الطغيان تدمير أربع دول عربية، على الأقل: العراق، ليبيا، اليمن وسوريا.. وثمة دول أخرى يتهددها الشقاق الداخلي بالجوع والتخريب الداخلي، الآن! وقد سبق الطغيان - وبالشعار الإسلامي - في السودان فأنجز، وها هي تونس تسابق مصر بخطى متعجلة نحو الكارثة. «ليس في المدينة»، بحسب زعم الإسلاميين، إلا الإسلام السياسي كطريق للخلاص، بل وللتقدم وبناء المجتمع الجديد، مع أن ما عرف من مشاريع هذا الإسلام السياسي لا يشجع على توقع النجاح، بل لعله ينشر الخوف على الحاضر والمستقبل، أكثر مما ينشر الطمأنينة. وها هم أصحاب هذا الشعار يقدمونه وكأنه الحل السحري الذي كان مصادراً بالسلطة، أو مخفياً بانتظار التمكن بإسقاطها، وآن أن يظهروه ليتقدموا به على طريق بناء المجتمع الجديد بالإيمان. والشعار الديني حمال أوجه في السياسة، فهو ليس برنامجاً سياسياً لحزب، ولا هو خطة للحكم في أي مكان أو زمان... وهناك تباينات تصل إلى حد التناقض بين أنماط من الحكم المزعوم إسلاميا في بعض البلاد العربية والآسيوية. وها نحن نشهد في منطقتنا العربية دعاة مختلفين إلى حد تكفير بعضهم البعض، وحملة رايات ترفع أسماء عدد من الخلفاء والصحابة والمجاهدين ومواقع انتصار الدعوة عند انطلاقها، ولكن أي طرف منهم لا يقدم برنامجاً للحكم أو تصوراً للحاق بالعصر يتجاوز الصياغات الأولية لبعض المبادئ أو التعاليم الإسلامية، ودائماً من خارج السياسة. إنهم ضد ما هو قائم. ولكن المستقبل في عهدة الشريعة، والشريعة شرائع بحسب القائلين بها وهوياتهم. أول مخاطر شعارات الإسلام السياسي أنها سرعان ما تتحول إلى وسيلة لتقسيم المجتمعات وتصنيف المسلمين: في البدء يتم الفرز بين المؤمنين الملتزمين وبين المقصرين في أداء واجباتهم الدينية (الحجاب، الصيام، العلاقة مع غير المسلمين)... ثم تجيء إعادة النظر في إسلام المسلمين: هل أهل السنة وحدهم هم المسلمون، أم أن الشيعة هم ايضاً من المسلمين؟ هذا قبل الحديث عن المذاهب الأخرى والفروق بين الشافعي والمالكي والحنبلي والحنفي.. وهل أن النموذج القائم في بعض الأقطار العربية للحكم باسم المذهب الحنبلي هو النموذج المطلوب؟ وهل أن أياً من الأئمة والمراجع الدينية قد أنجز برنامجاً للحكم في أي زمان أو مكان، يمكن اعتماده في أي تجربة جديدة، سواء في مصر أم في تونس أم في ليبيا، حيث تسود المالكية ومعها بعض الشوافع والأباضية؟ لقد اجتهد كثير من الدعاة والمفكرين وكتبوا في الفكر السياسي، ولعل بين ما طرحوه مقولات وأفكاراً قابلة للنقاش، ولكن السؤال: هل هذا الذي ُكتب يصبح برنامجاً للحكم؟ وهل انتبه المفكرون منهم إلى أن المجتمعات العربية تعاني من تشوه خطير في قيمها ومعتقداتها نتيجة العهود الاستعمارية الطويلة، التي اخترعت دولاً لم تكن موجودة، ثم زرعت في قلبها كياناً معادياً للعرب عموماً وللمسلمين وللمسيحيين من أهل فلسطين بالذات وما جاورها، على الأقل. ومن قبل، اجتهد مفكرو الحقبة القومية والمنظرون لوحدة المصير من أهل العروبة فكتبوا عن تصورهم للأمة والدولة، وخرجت إلى النور مشاريع لاقامة الدولة على هذه القواعد، سرعان ما كسرها العسكر... ولذلك خسر العرب أي نموذج للدولة العصرية المؤهلة لحماية وحدة كيانها وتأمين الحريات العامة لشعبها، فصار الخيار بين «الأمن القومي» وبين حرية الفكر، بين موجبات بناء الدولة القوية وبين حقوق المواطنين في الكفاية والعدل داخل أوطانهم. وبين المفارقات أن تلك الأنظمة قد دمرت المجتمعات وليس الدول فحسب... وهي قد تركت البلاد التي حكمتها طويلا في أوضاع أسوأ من تلك التي تسلمتها فيها، سواء في مجالات الاقتصاد أو الاجتماع أو القوة اللازمة لحماية الوطن. وإذا ما اتخذنا مصر مقياساً فلسوف ننتبه إلى أن التراجع كان فادحاً في العقود الأخيرة وفي مختلف المجالات: في التعليم وفي الاقتصاد، في الجيش والأمن، في الصناعة والزراعة، في الفنون والثقافة عموماً. وأذكر أن الدكتور احمد زويل قد زارنا يوماً في جريدة «السفير» في بيروت وحدثنا عن إنجازه العلمي الباهر، لكن ما أوجعنا كان قوله انه قد زار جامعة الإسكندرية التي تخرج منها في العام 1969، بعد عودته إلى مصر، فوجدها أدنى مستوى مما كانت عليه قبل ثلث قرن أو يزيد. لقد نزلت الجماهير إلى الميدان لتسقط الطغيان الذي دمر الأوطان.. والجماهير تدرك تماماً ان أنظمة الطغيان قد أنجزت تخريب المجتمعات وأنهكت الدول التي حكمتها فجعلتها اضعف من أن تواجه عدواً أو تكسب صديقاً من دون تنازلات تؤذي كرامتها الوطنية. كذلك فان هذه الموجة من بروز الإسلاميين وتصدرهم السلطة في أكثر من قطر عربي تحملهم المسؤولية عن احتمال تفكك المجتمعات التي يحكمونها منفردين أو بالشراكة مع مساهمين ضعفاء: فليست مصر مجاميع من الإسلاميين والمسلمين إخوانا وسلفيين وصوفيين، وليس ملايين الأقباط طارئين عليها وفدوا من الخارج و«احتلوها»... كذلك لا تعيش تونس في القرن الأول الميلادي، ولا تعيش ليبيا في لحظة «انقطاع الوحي» التي جعلها معمر القذافي بداية التاريخ الإسلامي معتبراً أن التأريخ بوفاة الرسول، أدق من التأريخ بهجرته، وهذه بدعة أخرى. والشعب السوري أكثريته «سنية» لكن في سوريا ملايين من المسيحيين والعلويين والدروز والإسماعيليين اذا أحصيناهم مجتمعين. أما الشعب العراقي فمركب من الشيعة والسنة والعديد من الأقليات، أبرزهم الأكراد، لكن فيه مسيحيين وصابئة ويزيديين وآشوريين وشراكسة وتركمان وفرساً وأرمن... وفي اليمن اكثر من مذهب إسلامي (الشافعية والزيدية). وفي السعودية أغلبية ساحقة من أهل السنة وأقلية شيعية، في حين تنعكس الآية في جزيرة البحرين. ومخاطر الفتنة تحاصر المشرق العربي جميعاً. وأي خطأ سياسي يرتكبه حكم «الإخوان» في مصر ستكون نتائجه كارثية في مختلف الديار العربية بما في ذلك الدول التي يسودها مذهب واحد... فالمجتمعات هشة التكوين نتيجة الحكم الطويل لأنماط مختلفة من الطغيان الذي كثيراً ما استخدم فيه الشعار الديني. ومسؤولية الحكم في مصر في تأمين هذا الوطن العربي تاريخية وخطيرة بل وحاسمة، بضرب الفتنة. ولا يكون ضرب الفتنة بحكم الحزب الواحد، حتى لو كان يملك الأكثرية، فكيف وهو لا يملكها؟

المصدر : طلال سلمان\ السفير


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة