الأخ جورج عبدالله:

أتوجه إليك بالتحية، متحاشياً ـ كما لا بد لاحظت ـ أن أناديك باللقب الذي كان حميماً ومحبباً وموضع تقدير: «الرفيق». ومن باب أولى أنني تحاشيت صفة «المناضل» المشرّفة حتى لا أتسبّب في الإساءة إليك، بعدما أجلى الطائفيون والمذهبيون «المناضلين» عن أرض هذا الكيان بوصفهم بعض «أبطال» الحرب الأهلية في صيغتها البدائية، التي لها اليوم صيغ أخرى بينها «الانتخابات» بالقانون الأرثوذكسي المطعّم مارونياً أو بقانون فؤاد بطرس المعدّل مذهبياً..

وبعد التحية أتوجه إليك برجاء حار: لا تعد إلى لبنان! أنت على البُعد مناضل، بل بطل، ولكنك ـ عن قرب ـ شبح مقلق ينتمي إلى عصر مضى، و«مخلوق» من ذرية على وشك الانقراض كانت تسمى «الثورة».

وبصراحة جارحة فإن كثيراً من أهلك و«الرفاق» سينكرونك، بل سينظرون إليك كمصدر خطر على «السلم الأهلي» وعلى «الأمن القومي» وعلى «التوازنات الدقيقة» التي تحمي النظام وإن غيّبت الدولة... فقد يندفع بعض المراهقين إلى الخروج من كانتوناتهم بدافع الحماسة فيدب الرعب في الكانتونات المجاورة وتكون فتنة.

لقد اندثر لبنان الذي غادرته قبل ثلاثة عقود ولم يغادرك. اغتيلت هويته الجامعة، وارتحلت عنه «القضية المقدسة» بالأمر الأميركي ـ الإسرائيلي ـ الطوائفي الحاسم. وتهاوت «دولته» بعدما ضربتها المحاصصة الطائفية التي استولدت الآن «المذهبية»، واغتيلت وحدة الشعب فصار «أمماً شتى» متواجهة، متناحرة، مقتتلة إلى يوم الدين.

ستصل، إن وصلت، إلى بلاد لا دولة فيها ولا شعب موحداً.

ستنزل في مطار بيروت الواقع في قارة أخرى غير العاصمة، بعدما قسمت الحرب الإسرائيلية في تموز 2006 بين الأشقاء، وستقطع «مجاهل» فيها أقوام وعشائر شتى، قبل أن تصل إلى مدينة أُجبرت على مغادرة تاريخها، قلبها مفرغ من أهلها، شاطئها ليس لهم وناطحات السحاب تحجب الشمس ـ والبحر ـ عن أبناء الأحياء الفقيرة التي طورد ناسها ليخرجوا فلا يعودون.

ستعبر الكانتون الأول، شمالاً، ثم الثاني، فالثالث قبل أن تصل إلى طرابلس التي كانت واحة فصارت «جبهات» عدة، لكل حي «ميليشياه» ومن يموّل ويسلّح، البعض للتصدير في اتجاه سوريا، والبعض الآخر لاستدراج الحرب التي تكاد تصبح أهلية بمضمون طائفي إلى لبنان.

لن تعرف المنية التي كانت بعض أهلك، ولن يعرفك بعض من حل في العبده، وقد ينكرك أهل بينو، وقد تجد من يتذكرك في قرى السهل، وقد يرحب بك فقراء عكار بوصفك «المظلوم»، وقد تفزع منك بعض الوجاهات في القبيات ومن حولها خوفاً من أن تؤثر على الحسابات الانتخابية.

لن تستطيع العبور إلى سوريا لأن خنادق الدم باتت تعزل الأخ عن أخيه، يقوم على حراستها الملتحون الذين يحتكرون الله ويدعون لأنفسهم حق محاسبة الآخرين.

ولن تستطيع المكوث طويلاً في القبيات، بل وفي عكار جميعاً، ولن ترحب بك طرابلس التي يسكنها الرعب من الفتنة، ولن يقبلك النافذون في البترون التي تنتظر النفط والغاز ولا تريد شريكاً لها فيهما، كما لن تقبل وجاهات تنورين هذا الطارئ الذي قد يبدل في الحساب الانتخابي، وقد تقبل بك جبيل عابراً، أما كسروان فسترى فيك خطراً داهماً لأنك قد تستعدي عليها فرنسا.. وباختصار: قد لا تجد مفراً من أن تعود إلى بيروت التي طالما فتحت قلبها لكل القادمين إليها: أغنياء هاربين من التأميم، ومناضلين هاربين من المخابرات، وجواسيس آتين لرصد النبض الثوري في المنطقة، وشبكات التهريب بمختلف بضائعه النفيسة، ومافيا المخدرات، ومناضلين ضاقت بهم بلادهم، وأقفلت الفضائيات والصحف أبوابها في وجوههم إلا إذا نزفوا تاريخهم الثوري قطراً قطراً.

والجنوب ليس أفضل حالاً؛ فصيدا غير جبل عامل، وجزين غير شبعا، وحاصبيا غير راشيا، والبقاع الغربي غير البقاع الشمالي، والبقاع الأوسط غيرهما، وجبل لبنان جبال. ما فوق فوق وما تحت تحت.

سيأتيك «الرفاق» مرحبين، فتجد أنهم قد شابوا، وضرب أجسادهم وأفكارهم الوهن، فانضووا تحت لواء النظام الطوائفي ليناضلوا ضد الطائفية والمذهبية، مفتقدين «الجمهور» في الداخل، و«السند» في المحيط، غير منتبهين إلى أن ثمة من قرع جرس الانصراف للمناضلين... خصوصاً وقد جاء «المجاهدون» فاحتلوا الساحة باللحى المسلحة والريالات المذهبة.

سيستقبلك الجميع بالقبلات والأحضان والخطب الطنانة بسبب خواء الكلمات... وستقام المهرجانات احتفاءً بعودتك سالماً، وستنظم لك المقابلات في الفضائيات والأرضيات والصحف التي تعيش زمن بؤسها.

... لكنك بعد أيام ستنتبه أن زنزانتك كانت أرحب، وأن سجانيك كانوا أرحم من سجاني بلادك الذين ألغوا معنى الوطن والمواطن، فكيف بالمناضل؟!

آسف إن كنت قد عكّرت عليك حلم العودة إلى الوطن، وفي الصحيفة التي حملت قضيتك مع رفاق شبابك وزخم أيام النضال. لقد غادرت زنزانة ضيقة إلى وطن يريدون تحويله إلى مجموعة من الزنازين بديموقراطية الطوائف التي تأخذ إلى الحرب الأهلية.

وأهلاً بك مناضلاً شجاعاً لم يستسلم ولم يبدّل لغته.

أهلاً بك إلى جانب الذين ما زالوا يقاتلون لحماية حلم الوطن، واستعادة المحتل من الأرض، والذين هزموا الحرب الإسرائيلية، لكنهم يحارون كيف يمكنهم الانتصار على حروب الطوائف باسم الديموقراطية.

أهلاً بك نموذجاً فذاً لمناضل عنيد دفع حياته ثمناً لإيمانه بعدالة القضية المقدسة التي خرج باسمها، فلسطين، ومن أجل حرية وطنه الصغير، لبنان، بعدما حاول السيف الإسرائيلي اغتياله عبر اجتياحه عسكرياً واحتلاله في حزيران 1982.

أهلاً بك بين أهلك الذين تخوض طلائعهم جولة جديدة في المعركة من أجل التحرر وكرامة الإنسان في أرضه، مدركة أن إسقاط المشروع الطائفي هو بين شروط استعادة الحرية للوطن والمواطن.

  • فريق ماسة
  • 2013-01-15
  • 10574
  • من الأرشيف

جـورج عبداللـه: لا ترجـع إلى لبـنان!

الأخ جورج عبدالله: أتوجه إليك بالتحية، متحاشياً ـ كما لا بد لاحظت ـ أن أناديك باللقب الذي كان حميماً ومحبباً وموضع تقدير: «الرفيق». ومن باب أولى أنني تحاشيت صفة «المناضل» المشرّفة حتى لا أتسبّب في الإساءة إليك، بعدما أجلى الطائفيون والمذهبيون «المناضلين» عن أرض هذا الكيان بوصفهم بعض «أبطال» الحرب الأهلية في صيغتها البدائية، التي لها اليوم صيغ أخرى بينها «الانتخابات» بالقانون الأرثوذكسي المطعّم مارونياً أو بقانون فؤاد بطرس المعدّل مذهبياً.. وبعد التحية أتوجه إليك برجاء حار: لا تعد إلى لبنان! أنت على البُعد مناضل، بل بطل، ولكنك ـ عن قرب ـ شبح مقلق ينتمي إلى عصر مضى، و«مخلوق» من ذرية على وشك الانقراض كانت تسمى «الثورة». وبصراحة جارحة فإن كثيراً من أهلك و«الرفاق» سينكرونك، بل سينظرون إليك كمصدر خطر على «السلم الأهلي» وعلى «الأمن القومي» وعلى «التوازنات الدقيقة» التي تحمي النظام وإن غيّبت الدولة... فقد يندفع بعض المراهقين إلى الخروج من كانتوناتهم بدافع الحماسة فيدب الرعب في الكانتونات المجاورة وتكون فتنة. لقد اندثر لبنان الذي غادرته قبل ثلاثة عقود ولم يغادرك. اغتيلت هويته الجامعة، وارتحلت عنه «القضية المقدسة» بالأمر الأميركي ـ الإسرائيلي ـ الطوائفي الحاسم. وتهاوت «دولته» بعدما ضربتها المحاصصة الطائفية التي استولدت الآن «المذهبية»، واغتيلت وحدة الشعب فصار «أمماً شتى» متواجهة، متناحرة، مقتتلة إلى يوم الدين. ستصل، إن وصلت، إلى بلاد لا دولة فيها ولا شعب موحداً. ستنزل في مطار بيروت الواقع في قارة أخرى غير العاصمة، بعدما قسمت الحرب الإسرائيلية في تموز 2006 بين الأشقاء، وستقطع «مجاهل» فيها أقوام وعشائر شتى، قبل أن تصل إلى مدينة أُجبرت على مغادرة تاريخها، قلبها مفرغ من أهلها، شاطئها ليس لهم وناطحات السحاب تحجب الشمس ـ والبحر ـ عن أبناء الأحياء الفقيرة التي طورد ناسها ليخرجوا فلا يعودون. ستعبر الكانتون الأول، شمالاً، ثم الثاني، فالثالث قبل أن تصل إلى طرابلس التي كانت واحة فصارت «جبهات» عدة، لكل حي «ميليشياه» ومن يموّل ويسلّح، البعض للتصدير في اتجاه سوريا، والبعض الآخر لاستدراج الحرب التي تكاد تصبح أهلية بمضمون طائفي إلى لبنان. لن تعرف المنية التي كانت بعض أهلك، ولن يعرفك بعض من حل في العبده، وقد ينكرك أهل بينو، وقد تجد من يتذكرك في قرى السهل، وقد يرحب بك فقراء عكار بوصفك «المظلوم»، وقد تفزع منك بعض الوجاهات في القبيات ومن حولها خوفاً من أن تؤثر على الحسابات الانتخابية. لن تستطيع العبور إلى سوريا لأن خنادق الدم باتت تعزل الأخ عن أخيه، يقوم على حراستها الملتحون الذين يحتكرون الله ويدعون لأنفسهم حق محاسبة الآخرين. ولن تستطيع المكوث طويلاً في القبيات، بل وفي عكار جميعاً، ولن ترحب بك طرابلس التي يسكنها الرعب من الفتنة، ولن يقبلك النافذون في البترون التي تنتظر النفط والغاز ولا تريد شريكاً لها فيهما، كما لن تقبل وجاهات تنورين هذا الطارئ الذي قد يبدل في الحساب الانتخابي، وقد تقبل بك جبيل عابراً، أما كسروان فسترى فيك خطراً داهماً لأنك قد تستعدي عليها فرنسا.. وباختصار: قد لا تجد مفراً من أن تعود إلى بيروت التي طالما فتحت قلبها لكل القادمين إليها: أغنياء هاربين من التأميم، ومناضلين هاربين من المخابرات، وجواسيس آتين لرصد النبض الثوري في المنطقة، وشبكات التهريب بمختلف بضائعه النفيسة، ومافيا المخدرات، ومناضلين ضاقت بهم بلادهم، وأقفلت الفضائيات والصحف أبوابها في وجوههم إلا إذا نزفوا تاريخهم الثوري قطراً قطراً. والجنوب ليس أفضل حالاً؛ فصيدا غير جبل عامل، وجزين غير شبعا، وحاصبيا غير راشيا، والبقاع الغربي غير البقاع الشمالي، والبقاع الأوسط غيرهما، وجبل لبنان جبال. ما فوق فوق وما تحت تحت. سيأتيك «الرفاق» مرحبين، فتجد أنهم قد شابوا، وضرب أجسادهم وأفكارهم الوهن، فانضووا تحت لواء النظام الطوائفي ليناضلوا ضد الطائفية والمذهبية، مفتقدين «الجمهور» في الداخل، و«السند» في المحيط، غير منتبهين إلى أن ثمة من قرع جرس الانصراف للمناضلين... خصوصاً وقد جاء «المجاهدون» فاحتلوا الساحة باللحى المسلحة والريالات المذهبة. سيستقبلك الجميع بالقبلات والأحضان والخطب الطنانة بسبب خواء الكلمات... وستقام المهرجانات احتفاءً بعودتك سالماً، وستنظم لك المقابلات في الفضائيات والأرضيات والصحف التي تعيش زمن بؤسها. ... لكنك بعد أيام ستنتبه أن زنزانتك كانت أرحب، وأن سجانيك كانوا أرحم من سجاني بلادك الذين ألغوا معنى الوطن والمواطن، فكيف بالمناضل؟! آسف إن كنت قد عكّرت عليك حلم العودة إلى الوطن، وفي الصحيفة التي حملت قضيتك مع رفاق شبابك وزخم أيام النضال. لقد غادرت زنزانة ضيقة إلى وطن يريدون تحويله إلى مجموعة من الزنازين بديموقراطية الطوائف التي تأخذ إلى الحرب الأهلية. وأهلاً بك مناضلاً شجاعاً لم يستسلم ولم يبدّل لغته. أهلاً بك إلى جانب الذين ما زالوا يقاتلون لحماية حلم الوطن، واستعادة المحتل من الأرض، والذين هزموا الحرب الإسرائيلية، لكنهم يحارون كيف يمكنهم الانتصار على حروب الطوائف باسم الديموقراطية. أهلاً بك نموذجاً فذاً لمناضل عنيد دفع حياته ثمناً لإيمانه بعدالة القضية المقدسة التي خرج باسمها، فلسطين، ومن أجل حرية وطنه الصغير، لبنان، بعدما حاول السيف الإسرائيلي اغتياله عبر اجتياحه عسكرياً واحتلاله في حزيران 1982. أهلاً بك بين أهلك الذين تخوض طلائعهم جولة جديدة في المعركة من أجل التحرر وكرامة الإنسان في أرضه، مدركة أن إسقاط المشروع الطائفي هو بين شروط استعادة الحرية للوطن والمواطن.

المصدر : طلال سلمان \ السفير


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة