في اليوم الذي لملم أغراضه ليغادر مخيم اليرموك في دمشق تحت نار القصف، بكى العم أبو علي حسين عمر.

يرتجف الهاتف الأرضي بين يده وهو يتذكر تلك اللحظة، من دون أن يصدق أنها مرت به. يقول أبو علي، ابن مدينة صفد الفلسطينية، «64 عاماً وأنا أبني في هذا البلد لأزيح عن روحي أحساس أني لاجئ... لكني الآن أترك كل شيء خلفي، وأغادر المخيم لأصير لاجئاً من جديد».

يتمنى العم أبو علي لو أن الموت خطفه قبل أن يشهد ما يشهده اليوم. ويقول: «اترك بيتي وتعب السنوات للفراغ والمجهول». وبمرارة ما عرف تاليها، يتساءل العم أبو علي «في فلسطين قالوا إن اليهود راح يعملوا بلد، طيب بس هون عما يخربوا بلد»!.

يسأل العم أبو علي ولا ينتظر من يجيب. يبكي الرجل بحرقة ويمضي، فيما يكتب لي ابنه حسام «أبي مثل الجبل الشامخ والصامد لا تهزه الريح... لكنه بكى... يبدو أن الإعصار قد أصابه هذه المرة من الداخل... لذلك بكى».

عائلة العم أبو علي اليوم موزعة في ثلاث مناطق من دمشق، فيما ترك خلفه في المخيم بناء بأربع طوابق يعلوه بيت للحمام بباب مفتوح، على أمل أن تحلق الطيور بعيداً حيث لا تصاب بخيبة اللجوء مرتين.

ينتمي العم أبو علي إلى جيل من الفلسطينيين، عرف فلسطين، وكابد معاناة مغادرتها، وهو يكاد يكون الجيل الأخير من فلسطينيي الشتات الذي ولد في فلسطين، وما زالت محفورة في ذاكرته كما عاشها، لا كما ترسمها أحاديث الآباء.

وكما العم أبو علي، كثر من أبناء جيله في مخيم اليرموك، تجرعوا مرارة الخيبة، وهم يعيدون سيناريو اللجوء ذاته الذي عرفوه منذ أكثر من 64 عاماً. سنوات أصروا خلالها أن يحتفظوا باللحظات التي عاشوها في فلسطين حارة متقدة في الذاكرة، يردمون باستعادتها ذكرى اللجوء ووجع الشتات، طوابير الإعاشة والإعانات وصفير الريح في خيمة اللجوء الأولى...

كثر من أبناء جيل العم أبو علي كانوا يريدون لنا نحن من عشنا فلسطين فكرة وحلما، أن نحلم بالعودة من دون ثقل اللجوء... ربما لذلك لم تزل جدة الفلسطيني هاني عباس، التي تبلغ اليوم نحو مئة عام، تذكر كل من حولها انها كانت تتحدر من أسرة غنية في فلسطين، وتصر، وهي اللاجئة بعد زوال كل شيء، أن تعيش بقية عمرها في مستوى البذخ ذاته... فكرياً على الأقل.

هاني عباس يكتب لي بعد لجوئه الثاني هو وجدته، قائلا: «جدتي الآن نازحة في مدرسة لإيواء النازحين... أي شتيمة سأبصقها في وجوه الجميع... كل الجميع؟!».

يعيد الأجداد سيناريو لجوئهم الأول في العام 1948... يعيشونه مرة أخرى اليوم، كما لو أنهم يعيشونه للمرة الأولى. ثمة فارق صغير بين المرتين يقول الحاج أبو هيثم، ففي الأولى كان لجوؤنا لسبب، أما اليوم فلا يعرف الفلسطيني للجوئه سببا.

أما جيل الأحفاد الذي لم يعرف من النكبة واللجوء إلا صورها الأرشيفية وأحاديث الآباء، فقد عاد اليوم ليعيش تجربة النزوح ذاتها. يقول علاء العالم (23 عاماً): «المشهد ذاته وبكل تفاصيله، الدرب نفسه، المسير عينه، الفزع ذاته، والحوارات ذاتها، وأمل في عودة قريبة، أخشى أن تمتد 64 عاماً». أما الفرق ما بين النزوحين، كما يراه الشاب فهو «ذلك الزيف العلني المنشور هنا وهناك على فايسبوك... هي تلك العبارات والمنشورات المتكلفة والتعليقات التي تتباكى على هذا المنشور أو ذاك، ذاك الكذب المقنع بالعبارات الحميمية، واجترار كلمات لا تغني ولا تسمن».

ما لم يذكره علاء عن الفارق بين النزوحين بدا متناثراً على شفاه أهل المخيم في لجوئهم الجديد. وثمة ما لم يُقَل، تعبر عنه العيون والنظرات الواجمة... ثمة حزن «يتعربش» على وجوه الجميع.

أما ما أسقطه علاء في الحديث عما يتقاطع بين النزوحين هو ما يصفه كثر من الفلسطينيين بالقول: «شو بدي أتذكر منك يا سفرجلة... كل عضة بغصة»... وهم بذلك يتحدثون عن العرب، وعن مواقفهم الباهتة في كل مرة يتعلق الأمر بالدم الفلسطيني، والتي غالباً ما ترتبط سخونتها بمقدار الحصاد السياسي من خلفها، وهي مواقف اليوم تأتي ساخنة بهدف تسجيل نقاط على النظام السوري، لا تضامناً مع الدم والوجع الفلسطينيين.

  • فريق ماسة
  • 2012-12-18
  • 9311
  • من الأرشيف

في مخيم اليرموك... بكى العم أبو علي

في اليوم الذي لملم أغراضه ليغادر مخيم اليرموك في دمشق تحت نار القصف، بكى العم أبو علي حسين عمر. يرتجف الهاتف الأرضي بين يده وهو يتذكر تلك اللحظة، من دون أن يصدق أنها مرت به. يقول أبو علي، ابن مدينة صفد الفلسطينية، «64 عاماً وأنا أبني في هذا البلد لأزيح عن روحي أحساس أني لاجئ... لكني الآن أترك كل شيء خلفي، وأغادر المخيم لأصير لاجئاً من جديد». يتمنى العم أبو علي لو أن الموت خطفه قبل أن يشهد ما يشهده اليوم. ويقول: «اترك بيتي وتعب السنوات للفراغ والمجهول». وبمرارة ما عرف تاليها، يتساءل العم أبو علي «في فلسطين قالوا إن اليهود راح يعملوا بلد، طيب بس هون عما يخربوا بلد»!. يسأل العم أبو علي ولا ينتظر من يجيب. يبكي الرجل بحرقة ويمضي، فيما يكتب لي ابنه حسام «أبي مثل الجبل الشامخ والصامد لا تهزه الريح... لكنه بكى... يبدو أن الإعصار قد أصابه هذه المرة من الداخل... لذلك بكى». عائلة العم أبو علي اليوم موزعة في ثلاث مناطق من دمشق، فيما ترك خلفه في المخيم بناء بأربع طوابق يعلوه بيت للحمام بباب مفتوح، على أمل أن تحلق الطيور بعيداً حيث لا تصاب بخيبة اللجوء مرتين. ينتمي العم أبو علي إلى جيل من الفلسطينيين، عرف فلسطين، وكابد معاناة مغادرتها، وهو يكاد يكون الجيل الأخير من فلسطينيي الشتات الذي ولد في فلسطين، وما زالت محفورة في ذاكرته كما عاشها، لا كما ترسمها أحاديث الآباء. وكما العم أبو علي، كثر من أبناء جيله في مخيم اليرموك، تجرعوا مرارة الخيبة، وهم يعيدون سيناريو اللجوء ذاته الذي عرفوه منذ أكثر من 64 عاماً. سنوات أصروا خلالها أن يحتفظوا باللحظات التي عاشوها في فلسطين حارة متقدة في الذاكرة، يردمون باستعادتها ذكرى اللجوء ووجع الشتات، طوابير الإعاشة والإعانات وصفير الريح في خيمة اللجوء الأولى... كثر من أبناء جيل العم أبو علي كانوا يريدون لنا نحن من عشنا فلسطين فكرة وحلما، أن نحلم بالعودة من دون ثقل اللجوء... ربما لذلك لم تزل جدة الفلسطيني هاني عباس، التي تبلغ اليوم نحو مئة عام، تذكر كل من حولها انها كانت تتحدر من أسرة غنية في فلسطين، وتصر، وهي اللاجئة بعد زوال كل شيء، أن تعيش بقية عمرها في مستوى البذخ ذاته... فكرياً على الأقل. هاني عباس يكتب لي بعد لجوئه الثاني هو وجدته، قائلا: «جدتي الآن نازحة في مدرسة لإيواء النازحين... أي شتيمة سأبصقها في وجوه الجميع... كل الجميع؟!». يعيد الأجداد سيناريو لجوئهم الأول في العام 1948... يعيشونه مرة أخرى اليوم، كما لو أنهم يعيشونه للمرة الأولى. ثمة فارق صغير بين المرتين يقول الحاج أبو هيثم، ففي الأولى كان لجوؤنا لسبب، أما اليوم فلا يعرف الفلسطيني للجوئه سببا. أما جيل الأحفاد الذي لم يعرف من النكبة واللجوء إلا صورها الأرشيفية وأحاديث الآباء، فقد عاد اليوم ليعيش تجربة النزوح ذاتها. يقول علاء العالم (23 عاماً): «المشهد ذاته وبكل تفاصيله، الدرب نفسه، المسير عينه، الفزع ذاته، والحوارات ذاتها، وأمل في عودة قريبة، أخشى أن تمتد 64 عاماً». أما الفرق ما بين النزوحين، كما يراه الشاب فهو «ذلك الزيف العلني المنشور هنا وهناك على فايسبوك... هي تلك العبارات والمنشورات المتكلفة والتعليقات التي تتباكى على هذا المنشور أو ذاك، ذاك الكذب المقنع بالعبارات الحميمية، واجترار كلمات لا تغني ولا تسمن». ما لم يذكره علاء عن الفارق بين النزوحين بدا متناثراً على شفاه أهل المخيم في لجوئهم الجديد. وثمة ما لم يُقَل، تعبر عنه العيون والنظرات الواجمة... ثمة حزن «يتعربش» على وجوه الجميع. أما ما أسقطه علاء في الحديث عما يتقاطع بين النزوحين هو ما يصفه كثر من الفلسطينيين بالقول: «شو بدي أتذكر منك يا سفرجلة... كل عضة بغصة»... وهم بذلك يتحدثون عن العرب، وعن مواقفهم الباهتة في كل مرة يتعلق الأمر بالدم الفلسطيني، والتي غالباً ما ترتبط سخونتها بمقدار الحصاد السياسي من خلفها، وهي مواقف اليوم تأتي ساخنة بهدف تسجيل نقاط على النظام السوري، لا تضامناً مع الدم والوجع الفلسطينيين.

المصدر : الماسة السورية


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة