لم تجرؤ كاميرا القناة التونسية الثانية على تقريب المشهد. بدت المنصة التي غادرها رئيسا الجمهورية والمجلس التأسيسي، قبل دقائق، وحيدة مهجورة، لا حيلة لها ولا قوة أمام جمهور غاضب. وفيما سمحت اللقطة المنقبضة والضيقة للمصور التلفزيوني، ظهرت فجأة عصبية مرافقي الرئيسين المنسحبين، وثلة من رجال الشرطة تنزل الساحة، تلتها رشقات حجارة تخترق الإطار، قبل أن تقطع فترة غنائية على التونسيين تلك اللحظات الوحيدة التي أخرجت الاحتفال بثورة سيدي بوزيد من رتابة الخطابات المستهلكة.

الرئيس المنصف المرزوقي ورئيس المجلس التأسيسي مصطفى بن جعفر لجآ إلى مبنى الولاية، فيما كانت الطماطم (البندورة) تنضم إلى المطر الحجري المتساقط عليهما، قبل أن ينسحبا سالمين إلى موكبهما العائد إلى تونس.

الفصل السابق ليس منزوعا من سياق ما يعيشه المهد الثوري لتونس والربيع العربي (سيدي بوزيد مدينة البوعزيزي). المرزوقي ومصطفى بن جعفر أغضبا أكثر مما أثارا الحمية في تحية «منتحر سيدي بوزيد» قبل عامين. محمد البو عزيزي الذي عُمّد أيقونةَ الثورة، لا يُغني سكان المدينة الأفقر في تونس عن المطالبة بثمن الثورة أو النفط الذي سكبه البو عزيزي

لتحرير تونس من طغمة زين العابدين بن علي.

المدينة غضبت عندما سمعت الرئيس يحيّي ثم يستمهل: «تونس في عنق الزجاجة، ولا بد من الصبر». لا أحد يريد أن يمنح حكومة الترويكا المزيد من الوقت لحلِّ ليست المشاكل المستحدثة فحسب، ولكن التركة الثقيلة من الفساد والإفقار لنظام بن علي. مصطفى بن جعفر الذي لم يكد يفتتح خطابه لتعلو الهمهمات وعبارات التململ، وضع على مائدة المحتفلين من سيدي بوزيد طلبا بمزيد من الصبر. والصبر هو ما لم يعد يملكه أهل ملهم الثورة التونسية وبائع الخضار المنتحر.

«كنا ننتظر لائحة بمشاريع تنموية لمدينة محرومة من كل شيء، فسمعنا خطابا عن الصبر»، قالت عايدة التالي، وهي من لجنة تنظيم ذكرى الاحتفال الثانية بشهادة البوعزيزي.

والحال أن البوزيديين يرون أن رماد شهيدهم يستحق مكافأة واعترافا بالجميل من الوطن المحرر، لكن ما حصدوه لا يعدو كونه نصائح بالصبر ووعوداً تشبه وعود العهود الماضية. «التمييز الايجابي لا بد منه، سيدي بوزيد تستحق أن تأخذ أكثر من غيرها لما قدمت»، حسب عايدة.

لكن الفجوة بين تونس العميقة التي تتلقى أقل من 20 في المئة من الاستثمارات والميزانيات المخصصة للتنمية لن تردم بالإيقاع الذي تمناه المحتجون، فالفارق كبير مع تونس الساحلية والحضرية. المشكلة لا زالت ذاتها وربما أسوأ مما كانت عليه. في سيدي بوزيد، تزيد نسبة البطالة عن 30 في المئة وعن 20 في المئة في ما جاورها من تونس الساحلية . أما بطالة حاملي الشهادات العليا فهي الأقسى في المدينة، و«لا أمل أن يحل القطاع الخاص واستثماراته المشكلة، فالمستثمرون لن يأتوا إلى أرض لا بنى تحتية فيها ولا طرق ممهدة كافية ولا خدمات إدارية حقيقية، الاستثمارات ستذهب إلى مدن الساحل كالعادة «.

ووراء الحجارة غضب آخر. ذلك أن تونس كلها لم تكن لتبالي بالذكرى رغم احتقان اجتماعي واسع وخيبات أمل كبيرة. «قد يحسن التونسيون الثورة ولكنهم لا يحسنون الاحتفال بها»، قالت عايدة التالي . تظاهرة صغيرة في ساحة محمد علي في العاصمة لم تُغرِ كاميرا واحدة بلقطة. الاحتفال بالبوعزيزي بدا عائليا أكثر منه وطنياً. «سيدي بوزيد وحدها كرمت حريقها البوعزيزي دون المدن التونسية الأخرى. ذلك أن النخب في المدينة تعتبر الثورة قامت من اجل الحرية وأنها انتصرت في تونس في شارع الحبيب بورقيبة بهروب بن علي، وأنها قامت قبل كل شيء من أجل حرية النخب المدينية التونسية ليبرالية الهوى أو ماركسية ملبرلة على الأكثر وإسلامية «، بحسب الأمين البوعزيزي، شقيق محمد.

وهو يضيف «الثورة التونسية صناعة ريفية مئة في المئة، لم تقم من اجل الحريات، قامت من أجل لقمة العيش والتنمية. في سيدي بوزيد كنا نهتف التشغيل يا عصابة السراق لإسقاط النظام . في تونس العاصمة كان الهتاف بالفرنسية: «ارحل. رحل بن علي، لكن نظامه بقي وورثته النهضة».

وغني عن القول أن التسابق بين التاريخين اللذين يبدأ منهما «الربيع العربي» انتهيا تونسيا إلى تسوية: السابع عشر من كانون الأول، مع الشرارة التي أشعلت جسد بائع الخضار البوزيدي وحطت رحالها بالانتصار في الرابع عشر من كانون الثاني.

تسوية أخرى بين التونسيين من الجمع الذي خابت آماله بالثورة، والنادمين بصوت خافت على الازدهار القديم، وبين من يعتبر الصبر فضيلة من التونسيين هو الحرية «حرية التعبير هي الثمرة الوحيدة التي نتقاسمها جميعا أما الوعود بالتنمية فلم يتحقق منها شيء». يعلّق شقيق البوعزيزي.

أما سالم، وهو من طلاب تصحيح التاريخ الثوري، فيقول: «في السابع عشر من كانون الأول بدأت الثورة، ومن يحاول فرض الرابع عشر من كانون الثاني يسرق الثورة». النقاش حول أولوية سيدي بوزيد، التاريخ والمكان والحريق، ليس نافلا. فالشرعية الثورية هي التي يجب أن تقود البلاد، ويجب العودة إلى المربع الأول للثورة حين كانت ثورة اجتماعية قبل كل شيء « بنظر الأمين بوعزيزي.

الصراع يدور بين الشرعية الثورية التي نقلت تونس من بن علي، مع الشرعية الانتخابية التي أودعتها ذراعي راشد الغنوشي وإسلاميي النهضة.

وخلال النقاش حول أولوية الشرعيتين، لا يبدو أن النهضة تكترث فعلا بما يدور في سيدي بوزيد، أو في خلد اليساريين، الذين كان أنصارهم في عداد من رشق خطباء سيدي بوزيد بالحجارة. الإسلاميون ماضون في محاصرة الشرعية الثورية ذاتها بروابط حماية الثورة.

الروابط تقوم مقام الميليشيات، من دون أن تحمل الاسم صراحة، ولكن فيها أعراض الميليشيات تنظيما وعملا. الروابط التي تسيطر على جزء كبير منها «النهضة»، قامت باسم الشرعية الثورية باعتصامات لمساعدة «النهضة» على طرد بقايا التجمعيين من الإدارة في أكثر من ولاية، تحت شعار تطهير البلاد من بقايا النظام السابق.

ولكن من التناقضات أن رموزا كثيرة منهم خاضت الانتخابات، ودخلت المجلس التأسيسي كوزير الخارجية الأسبق كمال مرجان.

وتلعب الروابط دور شرطي النهضة لمنع الإضرابات. وقد اشتهرت في مهاجمتها المعارضين وتجمعاتهم، وفك الاعتصامات أمام الوزارات. وهي كثيرة هذه الأيام، وقد تسببت بموت نقابي كبير في تطاوين، وكادت تتسبب بإضراب عام عندما اعتدى أفرادها على أعضاء الاتحاد العام للشغل قبل أسبوعين أثناء احتفالهم بذكرى اغتيال الزعيم النقابي التونسي التاريخي فرحات حشاد.

وقد اشتد عود هذه الروابط عندما انهار النظام، حيث ضمرت القوى الأمنية فنشأت اللجان الشعبية، ثم عملت «النهضة» على استقطابها وتطهيرها من العناصر غير الإسلامية. مع العلم أن أكثر أعضائها من الهامشيين والعاطلين من العمل، و«قد تحولوا مع الوقت إلى ميليشيا النهضة غير المعلنة «، وفق أستاذ الفلسفة في جامعة تونس حسن كشو.

وتبدو الشرعية الانتخابية غير قابلة للنقاش. فرغم استنفاد ولاية المجلس التأسيسي ورئاسة الجمهورية في 23 تشرين الأول الماضي، إلا أن النقاش حول شرعية المجلس والرئاسة حسم بسرعة، بفذلكة قانونية، لعدم وجود بدائل سوى الفوضى. وفيما تجاهلت الحكومة تعهدات قطعتها بتشكيل حكومة وحدة وطنية، فإن الحوار الذي تدعو إليه الحكومة يجعل من العملية الانتقالية هشة وصعبة. فالترويكا الحاكمة تستبعد منه ــ الحوار ــ ثاني أحزاب تونس وهو «نداء تونس»، بحجة أنه غير ممثل في المجلس التأسيسي، في ذريعة معلنة، ولضمه أعضاء التجمع الدستوري الحاكم السابق والمنحل، كما تدعي «النهضة».

وبالأمس تسارعت أعمال المجلس، وقدم مسودة أولى للدستور التونسي المنتظر والذي سيطرح على النقاش في الشهر المقبل، ويستقبل تعديلات عليه من الولايات التي ستشارك في النظر فيه. وقد عين الثلاثون من حزيران المقبل موعدا للانتخابات التشريعية .

وخلال هذا الوقت «يعمل حزب الغنوشي على النهوض بالإدارة والإقليم والمؤسسات، إذ سيطرت النهضة على أكثر الولايات الأربع والعشرين. وبعضها عاد إلى شريكيها في الحكم من الترويكا، المؤتمر من أجل الجمهورية (المنصف المرزوقي)، والتكتل من أجل العمل والحريات (مصطفى بن جعفر) في إطار المحاصصة. وحزب النهضة ليس حزب حكومة وإنما حزب سلطة»، كما يقول المحامي منذر الشارني.

وأكثر من ذلك، فإن هيكلية النظام المركزي نفسها تساعد «النهضة». فالوالي المعين من قبلها يقوم بتعيين الموظفين الأساسيين في الولايات والمعتمديات والبلديات، الأمر الذي يمنحها سلطة على مستويات السلطة كافة»، بحسب الشارني الذي يشرح انها «لا تضع في هذه المناصب إلا من تثق بهم، لكنها لا تملك الكوادر الكفوءة للقيام بذلك، كما أن عمليات التنمية لا تتقدم ليس بسبب العجز عن تمويلها، بل لأن النهضة التي تعمل على الإمساك بكل شيء، لا تملك إطارات مختصة بذلك، والإدارة المحلية التي تديرها تنقصها الخبرة»... لذا لا يرى التونسيون أي تغيير.

  • فريق ماسة
  • 2012-12-17
  • 10332
  • من الأرشيف

تونس في ذكرى البوعزيزي: سيدي بوزيد غاضبة على السلطة!

لم تجرؤ كاميرا القناة التونسية الثانية على تقريب المشهد. بدت المنصة التي غادرها رئيسا الجمهورية والمجلس التأسيسي، قبل دقائق، وحيدة مهجورة، لا حيلة لها ولا قوة أمام جمهور غاضب. وفيما سمحت اللقطة المنقبضة والضيقة للمصور التلفزيوني، ظهرت فجأة عصبية مرافقي الرئيسين المنسحبين، وثلة من رجال الشرطة تنزل الساحة، تلتها رشقات حجارة تخترق الإطار، قبل أن تقطع فترة غنائية على التونسيين تلك اللحظات الوحيدة التي أخرجت الاحتفال بثورة سيدي بوزيد من رتابة الخطابات المستهلكة. الرئيس المنصف المرزوقي ورئيس المجلس التأسيسي مصطفى بن جعفر لجآ إلى مبنى الولاية، فيما كانت الطماطم (البندورة) تنضم إلى المطر الحجري المتساقط عليهما، قبل أن ينسحبا سالمين إلى موكبهما العائد إلى تونس. الفصل السابق ليس منزوعا من سياق ما يعيشه المهد الثوري لتونس والربيع العربي (سيدي بوزيد مدينة البوعزيزي). المرزوقي ومصطفى بن جعفر أغضبا أكثر مما أثارا الحمية في تحية «منتحر سيدي بوزيد» قبل عامين. محمد البو عزيزي الذي عُمّد أيقونةَ الثورة، لا يُغني سكان المدينة الأفقر في تونس عن المطالبة بثمن الثورة أو النفط الذي سكبه البو عزيزي لتحرير تونس من طغمة زين العابدين بن علي. المدينة غضبت عندما سمعت الرئيس يحيّي ثم يستمهل: «تونس في عنق الزجاجة، ولا بد من الصبر». لا أحد يريد أن يمنح حكومة الترويكا المزيد من الوقت لحلِّ ليست المشاكل المستحدثة فحسب، ولكن التركة الثقيلة من الفساد والإفقار لنظام بن علي. مصطفى بن جعفر الذي لم يكد يفتتح خطابه لتعلو الهمهمات وعبارات التململ، وضع على مائدة المحتفلين من سيدي بوزيد طلبا بمزيد من الصبر. والصبر هو ما لم يعد يملكه أهل ملهم الثورة التونسية وبائع الخضار المنتحر. «كنا ننتظر لائحة بمشاريع تنموية لمدينة محرومة من كل شيء، فسمعنا خطابا عن الصبر»، قالت عايدة التالي، وهي من لجنة تنظيم ذكرى الاحتفال الثانية بشهادة البوعزيزي. والحال أن البوزيديين يرون أن رماد شهيدهم يستحق مكافأة واعترافا بالجميل من الوطن المحرر، لكن ما حصدوه لا يعدو كونه نصائح بالصبر ووعوداً تشبه وعود العهود الماضية. «التمييز الايجابي لا بد منه، سيدي بوزيد تستحق أن تأخذ أكثر من غيرها لما قدمت»، حسب عايدة. لكن الفجوة بين تونس العميقة التي تتلقى أقل من 20 في المئة من الاستثمارات والميزانيات المخصصة للتنمية لن تردم بالإيقاع الذي تمناه المحتجون، فالفارق كبير مع تونس الساحلية والحضرية. المشكلة لا زالت ذاتها وربما أسوأ مما كانت عليه. في سيدي بوزيد، تزيد نسبة البطالة عن 30 في المئة وعن 20 في المئة في ما جاورها من تونس الساحلية . أما بطالة حاملي الشهادات العليا فهي الأقسى في المدينة، و«لا أمل أن يحل القطاع الخاص واستثماراته المشكلة، فالمستثمرون لن يأتوا إلى أرض لا بنى تحتية فيها ولا طرق ممهدة كافية ولا خدمات إدارية حقيقية، الاستثمارات ستذهب إلى مدن الساحل كالعادة «. ووراء الحجارة غضب آخر. ذلك أن تونس كلها لم تكن لتبالي بالذكرى رغم احتقان اجتماعي واسع وخيبات أمل كبيرة. «قد يحسن التونسيون الثورة ولكنهم لا يحسنون الاحتفال بها»، قالت عايدة التالي . تظاهرة صغيرة في ساحة محمد علي في العاصمة لم تُغرِ كاميرا واحدة بلقطة. الاحتفال بالبوعزيزي بدا عائليا أكثر منه وطنياً. «سيدي بوزيد وحدها كرمت حريقها البوعزيزي دون المدن التونسية الأخرى. ذلك أن النخب في المدينة تعتبر الثورة قامت من اجل الحرية وأنها انتصرت في تونس في شارع الحبيب بورقيبة بهروب بن علي، وأنها قامت قبل كل شيء من أجل حرية النخب المدينية التونسية ليبرالية الهوى أو ماركسية ملبرلة على الأكثر وإسلامية «، بحسب الأمين البوعزيزي، شقيق محمد. وهو يضيف «الثورة التونسية صناعة ريفية مئة في المئة، لم تقم من اجل الحريات، قامت من أجل لقمة العيش والتنمية. في سيدي بوزيد كنا نهتف التشغيل يا عصابة السراق لإسقاط النظام . في تونس العاصمة كان الهتاف بالفرنسية: «ارحل. رحل بن علي، لكن نظامه بقي وورثته النهضة». وغني عن القول أن التسابق بين التاريخين اللذين يبدأ منهما «الربيع العربي» انتهيا تونسيا إلى تسوية: السابع عشر من كانون الأول، مع الشرارة التي أشعلت جسد بائع الخضار البوزيدي وحطت رحالها بالانتصار في الرابع عشر من كانون الثاني. تسوية أخرى بين التونسيين من الجمع الذي خابت آماله بالثورة، والنادمين بصوت خافت على الازدهار القديم، وبين من يعتبر الصبر فضيلة من التونسيين هو الحرية «حرية التعبير هي الثمرة الوحيدة التي نتقاسمها جميعا أما الوعود بالتنمية فلم يتحقق منها شيء». يعلّق شقيق البوعزيزي. أما سالم، وهو من طلاب تصحيح التاريخ الثوري، فيقول: «في السابع عشر من كانون الأول بدأت الثورة، ومن يحاول فرض الرابع عشر من كانون الثاني يسرق الثورة». النقاش حول أولوية سيدي بوزيد، التاريخ والمكان والحريق، ليس نافلا. فالشرعية الثورية هي التي يجب أن تقود البلاد، ويجب العودة إلى المربع الأول للثورة حين كانت ثورة اجتماعية قبل كل شيء « بنظر الأمين بوعزيزي. الصراع يدور بين الشرعية الثورية التي نقلت تونس من بن علي، مع الشرعية الانتخابية التي أودعتها ذراعي راشد الغنوشي وإسلاميي النهضة. وخلال النقاش حول أولوية الشرعيتين، لا يبدو أن النهضة تكترث فعلا بما يدور في سيدي بوزيد، أو في خلد اليساريين، الذين كان أنصارهم في عداد من رشق خطباء سيدي بوزيد بالحجارة. الإسلاميون ماضون في محاصرة الشرعية الثورية ذاتها بروابط حماية الثورة. الروابط تقوم مقام الميليشيات، من دون أن تحمل الاسم صراحة، ولكن فيها أعراض الميليشيات تنظيما وعملا. الروابط التي تسيطر على جزء كبير منها «النهضة»، قامت باسم الشرعية الثورية باعتصامات لمساعدة «النهضة» على طرد بقايا التجمعيين من الإدارة في أكثر من ولاية، تحت شعار تطهير البلاد من بقايا النظام السابق. ولكن من التناقضات أن رموزا كثيرة منهم خاضت الانتخابات، ودخلت المجلس التأسيسي كوزير الخارجية الأسبق كمال مرجان. وتلعب الروابط دور شرطي النهضة لمنع الإضرابات. وقد اشتهرت في مهاجمتها المعارضين وتجمعاتهم، وفك الاعتصامات أمام الوزارات. وهي كثيرة هذه الأيام، وقد تسببت بموت نقابي كبير في تطاوين، وكادت تتسبب بإضراب عام عندما اعتدى أفرادها على أعضاء الاتحاد العام للشغل قبل أسبوعين أثناء احتفالهم بذكرى اغتيال الزعيم النقابي التونسي التاريخي فرحات حشاد. وقد اشتد عود هذه الروابط عندما انهار النظام، حيث ضمرت القوى الأمنية فنشأت اللجان الشعبية، ثم عملت «النهضة» على استقطابها وتطهيرها من العناصر غير الإسلامية. مع العلم أن أكثر أعضائها من الهامشيين والعاطلين من العمل، و«قد تحولوا مع الوقت إلى ميليشيا النهضة غير المعلنة «، وفق أستاذ الفلسفة في جامعة تونس حسن كشو. وتبدو الشرعية الانتخابية غير قابلة للنقاش. فرغم استنفاد ولاية المجلس التأسيسي ورئاسة الجمهورية في 23 تشرين الأول الماضي، إلا أن النقاش حول شرعية المجلس والرئاسة حسم بسرعة، بفذلكة قانونية، لعدم وجود بدائل سوى الفوضى. وفيما تجاهلت الحكومة تعهدات قطعتها بتشكيل حكومة وحدة وطنية، فإن الحوار الذي تدعو إليه الحكومة يجعل من العملية الانتقالية هشة وصعبة. فالترويكا الحاكمة تستبعد منه ــ الحوار ــ ثاني أحزاب تونس وهو «نداء تونس»، بحجة أنه غير ممثل في المجلس التأسيسي، في ذريعة معلنة، ولضمه أعضاء التجمع الدستوري الحاكم السابق والمنحل، كما تدعي «النهضة». وبالأمس تسارعت أعمال المجلس، وقدم مسودة أولى للدستور التونسي المنتظر والذي سيطرح على النقاش في الشهر المقبل، ويستقبل تعديلات عليه من الولايات التي ستشارك في النظر فيه. وقد عين الثلاثون من حزيران المقبل موعدا للانتخابات التشريعية . وخلال هذا الوقت «يعمل حزب الغنوشي على النهوض بالإدارة والإقليم والمؤسسات، إذ سيطرت النهضة على أكثر الولايات الأربع والعشرين. وبعضها عاد إلى شريكيها في الحكم من الترويكا، المؤتمر من أجل الجمهورية (المنصف المرزوقي)، والتكتل من أجل العمل والحريات (مصطفى بن جعفر) في إطار المحاصصة. وحزب النهضة ليس حزب حكومة وإنما حزب سلطة»، كما يقول المحامي منذر الشارني. وأكثر من ذلك، فإن هيكلية النظام المركزي نفسها تساعد «النهضة». فالوالي المعين من قبلها يقوم بتعيين الموظفين الأساسيين في الولايات والمعتمديات والبلديات، الأمر الذي يمنحها سلطة على مستويات السلطة كافة»، بحسب الشارني الذي يشرح انها «لا تضع في هذه المناصب إلا من تثق بهم، لكنها لا تملك الكوادر الكفوءة للقيام بذلك، كما أن عمليات التنمية لا تتقدم ليس بسبب العجز عن تمويلها، بل لأن النهضة التي تعمل على الإمساك بكل شيء، لا تملك إطارات مختصة بذلك، والإدارة المحلية التي تديرها تنقصها الخبرة»... لذا لا يرى التونسيون أي تغيير.

المصدر : السفير/محمد بلوط


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة