من عادة الناس رفض الجديد، أو الوقوف منه موقف الشك والاحتراز، خصوصا في المجتمعات المنغلقة التي تحكمها أفكار بالية وعقول متحجّرة كما كان الشأن في أوروبا في العصر الوسيط وما قبله،فنظريّة دوران الأرض حول الشمس مثلا احتاجت إلى ألفي سنة لكي تظهر إلى الناس، بل إنّ العالِم اليوناني فيثاغورس، وهو أوّل من أثارها في القرن الخامس قبل الميلاد، أُحرِقَ بيته.

العالم البولندي "نيكولاس كوبرنيكيس"

البولنديّ كوبرنيكس، وضع كتابا بعنوان "في الحركات السماويّة " يبيّن فيه أنّ الأرض ليست مركز العالم، ظلّ يُخفيه عن النّاس ستّة وثلاثين عاما، ولمّا أهداه إلى البابا بولس الثالث عام 1543 صادرته الكنيسةُ وحرّمته. كذلك الإيطاليّ غاليليو الذي طوّر نظريّة كوبرنيكس في القرن الموالي، واهتدى إلى حركة دوران الأرض كما هو ثابت اليوم، أرغمته الكنيسة على التنكّر لما رآه رأي العين، والتراجع أمام رجالها عن أفكاره، وهو يقول قولته الشهيرة :"ورغم ذلك فهي تدور!"

كذلك الشأن أيضا في البلاد العربية، خلال ما عُرف بعصور الاِنحطاط، بعد تجمّد الفكر، وإغلاق باب الاجتهاد، واستشراء الأمية والجهل، وطغيان رجال الدين. فقد خضعت أشياء جديدة – لم يكن للعرب سابق معرفة بها – إلى مقاومة شرسة، وفتاوى تُبيح أو تحرّم أمورا في الحياة العادية، التي لا يحتاج المرء إلى التوقّف عندها، فضلا عن اتّخاذ موقف منها.

من ذلك مثلا موقفهم من شرب القهوة – التي كان يُعامَل بائعُها وحاملها وشاربها كما يعامل اليوم تجارُ المخدرات ومدمنوها، قبل أن تصدر فتوى بتحليلها واعتبارها خمر الصالحين – ، وكذلك موقفهم من انتعال الأحذية السوداء، وتعبيد الطرقات، واستعمال الآلة الطابعة، واقتناء الراديو أو الفونوغراف، وركوب القطارات أو السيارات، فضلا عن التشبه بالفرنجة "الفجرة الكفرة" في الأطعمة والتخاطب واللباس. كلّ ذلك، وغيرُهُ كثير، احتاج إلى فتاوى عقِبت معارك كلامية طاحنة، قبل أن يُقِرّها العقل العربي، ويتداولها الناس في حياتهم اليومية، ثم يزهدون فيها… إلى حين.

وكنا، ونحن نقرأ ذلك في أدبيات القرن الماضي بكثير من المرارة، نعزوه إلى عواقب الحكم العثماني وجرائر الاستعمار الفرنسي والبريطاني والإيطالي، حيث فشا الجهل والمعتقدات البالية في المجتمعات العربية كافة، ونظن وفي بعض الظن إثم كبير، أن تلك العصور ولّت بلا رجعة، وأن العقل العربي، بعد أن تحررت الأقطار العربية من ربقة الاستعمار، بدأ يستوعب مفردات العصر ويأخذ بأسباب المعرفة وينخرط في الحداثة. وكانت الأخبار التي تتناقلها وسائل الإعلام عن بدع حركة طالبان في أواخر القرن الماضي تثير فينا ما تثيره الأخبار الغريبة من دهشة أو استهزاء، فنسخر مما تردى إليه المسلمون في تلك البقاع البعيدة، ونحسب أن ما تأتيه طالبان لا يعدو أن يكون سوى سلوك فئة ضالة ضرب الجهل على عقولها، نحن عنها بمعزل.

ولكننا اكتشفنا، خصوصا بعد اندلاع ثورات الربيع العربي، وانتشار وسائل الاتصال الحديثة، أنها داء عتيل، متأصل في عقول شرائح عريضة من العرب، استشرت عدواه إلى طالبان وليس العكس. ومردّه خطاب رجعي ظلامي دأب على ترويجه في صفوف الشباب والأميين دعاة جهلة، يحملون فكرا قاصرا عن فهم تعاليم الإسلام النيرة، ويؤوّلون كلام الله كما يشاؤون، وتجار دين يطلقون فتاوى ليست من ديننا الحنيف في شيء، يحرضون الناس في العلن على اتباعها قولا وفعلا، ويمارسون في السرّ عكسها، وأئمة متزمتون يعيشون خارج العصر، لا يكفّرون المدنية والحضارة والديمقراطية وكل ما له صلة بالحداثة فحسب، بل يدعون أيضا إلى تحطيم المعالم الأثرية التي لم يجرؤ الفاتحون الأوائل على كسر أدنى حجارة من بنيانها، وإلى دكّ زوايا المتصوفة الذين لهم في الذاكرة الجمعية حضور. أناس ليس لهم من دنياهم غير التكفير والتحريم.

وحسبنا أن نطالع عناوين الصحف اليوم، أو نشاهد ما ينشر على صفحات الفيسبوك واليوتوب من فيديوهات مضحكة مبكية، تضيق بها هذه الورقة، لنقف على مدى خطورة الخطاب الذي يروج له أولئك الذين يحسبون أنفسهم أوفياء للسلف الصالح، والذين يسعون في مشرق الوطن العربي ومغربه إلى فرض نمط حياة بدائي، وإلى ردة حضارية لن ننهض بعدها لو استمرت الحال على ما هي عليه.

ويزداد الأمر سوءا في أوساط الجاليات العربية والإسلامية المهاجرة، حيث لا يعرف الشباب من دينهم إلا ما يسوّقه الدجالون والمشعوذون في خطبهم عن واجبات المسلم في المظهر والسلوك والتعامل مع المرأة، وخصوصا مع الغرب الذي يقيمون في دياره ويغنمون خيراته ويسمّونه مع ذلك دار حرب، مما جعل أولئك الشباب منبتّين منبوذين، أو مشبوهين يشار إليهم بالظنون، أو إرهابيين يتعقبهم البوليس الدولي حيثما ولّوا، وزاد العنصرية ومعاداة الإسلام حدّة.

وعودة إلى فيثاغورس وكوبرنيكس وغاليلي نقول: أليس مخجلا أن يكفّر أحد كبار الدعاة العرب في عصر المعرفة والتكنولوجيا ما أثبته العلم منذ قرون، ويتوعد كل من يؤمن بدوران الأرض حول الشمس بالإعدام؟

  • فريق ماسة
  • 2012-12-11
  • 12433
  • من الأرشيف

"إسلاموية" الربيع العربي والحداثة

من عادة الناس رفض الجديد، أو الوقوف منه موقف الشك والاحتراز، خصوصا في المجتمعات المنغلقة التي تحكمها أفكار بالية وعقول متحجّرة كما كان الشأن في أوروبا في العصر الوسيط وما قبله،فنظريّة دوران الأرض حول الشمس مثلا احتاجت إلى ألفي سنة لكي تظهر إلى الناس، بل إنّ العالِم اليوناني فيثاغورس، وهو أوّل من أثارها في القرن الخامس قبل الميلاد، أُحرِقَ بيته. العالم البولندي "نيكولاس كوبرنيكيس" البولنديّ كوبرنيكس، وضع كتابا بعنوان "في الحركات السماويّة " يبيّن فيه أنّ الأرض ليست مركز العالم، ظلّ يُخفيه عن النّاس ستّة وثلاثين عاما، ولمّا أهداه إلى البابا بولس الثالث عام 1543 صادرته الكنيسةُ وحرّمته. كذلك الإيطاليّ غاليليو الذي طوّر نظريّة كوبرنيكس في القرن الموالي، واهتدى إلى حركة دوران الأرض كما هو ثابت اليوم، أرغمته الكنيسة على التنكّر لما رآه رأي العين، والتراجع أمام رجالها عن أفكاره، وهو يقول قولته الشهيرة :"ورغم ذلك فهي تدور!" كذلك الشأن أيضا في البلاد العربية، خلال ما عُرف بعصور الاِنحطاط، بعد تجمّد الفكر، وإغلاق باب الاجتهاد، واستشراء الأمية والجهل، وطغيان رجال الدين. فقد خضعت أشياء جديدة – لم يكن للعرب سابق معرفة بها – إلى مقاومة شرسة، وفتاوى تُبيح أو تحرّم أمورا في الحياة العادية، التي لا يحتاج المرء إلى التوقّف عندها، فضلا عن اتّخاذ موقف منها. من ذلك مثلا موقفهم من شرب القهوة – التي كان يُعامَل بائعُها وحاملها وشاربها كما يعامل اليوم تجارُ المخدرات ومدمنوها، قبل أن تصدر فتوى بتحليلها واعتبارها خمر الصالحين – ، وكذلك موقفهم من انتعال الأحذية السوداء، وتعبيد الطرقات، واستعمال الآلة الطابعة، واقتناء الراديو أو الفونوغراف، وركوب القطارات أو السيارات، فضلا عن التشبه بالفرنجة "الفجرة الكفرة" في الأطعمة والتخاطب واللباس. كلّ ذلك، وغيرُهُ كثير، احتاج إلى فتاوى عقِبت معارك كلامية طاحنة، قبل أن يُقِرّها العقل العربي، ويتداولها الناس في حياتهم اليومية، ثم يزهدون فيها… إلى حين. وكنا، ونحن نقرأ ذلك في أدبيات القرن الماضي بكثير من المرارة، نعزوه إلى عواقب الحكم العثماني وجرائر الاستعمار الفرنسي والبريطاني والإيطالي، حيث فشا الجهل والمعتقدات البالية في المجتمعات العربية كافة، ونظن وفي بعض الظن إثم كبير، أن تلك العصور ولّت بلا رجعة، وأن العقل العربي، بعد أن تحررت الأقطار العربية من ربقة الاستعمار، بدأ يستوعب مفردات العصر ويأخذ بأسباب المعرفة وينخرط في الحداثة. وكانت الأخبار التي تتناقلها وسائل الإعلام عن بدع حركة طالبان في أواخر القرن الماضي تثير فينا ما تثيره الأخبار الغريبة من دهشة أو استهزاء، فنسخر مما تردى إليه المسلمون في تلك البقاع البعيدة، ونحسب أن ما تأتيه طالبان لا يعدو أن يكون سوى سلوك فئة ضالة ضرب الجهل على عقولها، نحن عنها بمعزل. ولكننا اكتشفنا، خصوصا بعد اندلاع ثورات الربيع العربي، وانتشار وسائل الاتصال الحديثة، أنها داء عتيل، متأصل في عقول شرائح عريضة من العرب، استشرت عدواه إلى طالبان وليس العكس. ومردّه خطاب رجعي ظلامي دأب على ترويجه في صفوف الشباب والأميين دعاة جهلة، يحملون فكرا قاصرا عن فهم تعاليم الإسلام النيرة، ويؤوّلون كلام الله كما يشاؤون، وتجار دين يطلقون فتاوى ليست من ديننا الحنيف في شيء، يحرضون الناس في العلن على اتباعها قولا وفعلا، ويمارسون في السرّ عكسها، وأئمة متزمتون يعيشون خارج العصر، لا يكفّرون المدنية والحضارة والديمقراطية وكل ما له صلة بالحداثة فحسب، بل يدعون أيضا إلى تحطيم المعالم الأثرية التي لم يجرؤ الفاتحون الأوائل على كسر أدنى حجارة من بنيانها، وإلى دكّ زوايا المتصوفة الذين لهم في الذاكرة الجمعية حضور. أناس ليس لهم من دنياهم غير التكفير والتحريم. وحسبنا أن نطالع عناوين الصحف اليوم، أو نشاهد ما ينشر على صفحات الفيسبوك واليوتوب من فيديوهات مضحكة مبكية، تضيق بها هذه الورقة، لنقف على مدى خطورة الخطاب الذي يروج له أولئك الذين يحسبون أنفسهم أوفياء للسلف الصالح، والذين يسعون في مشرق الوطن العربي ومغربه إلى فرض نمط حياة بدائي، وإلى ردة حضارية لن ننهض بعدها لو استمرت الحال على ما هي عليه. ويزداد الأمر سوءا في أوساط الجاليات العربية والإسلامية المهاجرة، حيث لا يعرف الشباب من دينهم إلا ما يسوّقه الدجالون والمشعوذون في خطبهم عن واجبات المسلم في المظهر والسلوك والتعامل مع المرأة، وخصوصا مع الغرب الذي يقيمون في دياره ويغنمون خيراته ويسمّونه مع ذلك دار حرب، مما جعل أولئك الشباب منبتّين منبوذين، أو مشبوهين يشار إليهم بالظنون، أو إرهابيين يتعقبهم البوليس الدولي حيثما ولّوا، وزاد العنصرية ومعاداة الإسلام حدّة. وعودة إلى فيثاغورس وكوبرنيكس وغاليلي نقول: أليس مخجلا أن يكفّر أحد كبار الدعاة العرب في عصر المعرفة والتكنولوجيا ما أثبته العلم منذ قرون، ويتوعد كل من يؤمن بدوران الأرض حول الشمس بالإعدام؟

المصدر : أبو بكر العيادي\ العرب اون لاين


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة