لم يكن وزير خارجية روسيا سيرغي لافروف يشاكس نظراءه الأوروبيين في الاجتماع الذي عقد في لوكسمبورغ منذ عدة أيام، حين قال إن الرئيس السوري بشار الأسد لن يرحل، فالأشهر الأخيرة شهدت تطورات مهمة على صعيد الأزمة السورية،

بعضها ميداني، وبعضها سياسي على الساحتين الإقليمية والدولية، وكان الروس بطبيعة حساسيتهم الشديدة تجاه سوريا الأكثر تفاعلا معها.

كلام لافروف عن معركة «حياة أو موت» تخوضها السلطة الحالية بكل مكوناتها، هو حصيلة تراكمية لكمّ نوعي من المعلومات استقته موسكو من مصادر مختلفة، بعضها استخباراتي داخلي، وبعضها من زيارات المسؤولين السوريين التي لا تتوقف، وبعضها الآخر من معارضين يقولون إن موسكو تتفق معهم بالمطلق في رؤيتهم للواقع السوري.

واستندت موسكو إلى عدة معطيات حتى قررت ألا تواجه وزراء خارجية أوروبا بهذا الاستنتاج فحسب، بل أن تعيد النظر في دفتر حساباتها المرتبطة بدعم دمشق، حتى قررت مؤخرا أن تحرّك الطاقة مجدداً في شرايين العلاقة التاريخية عبر صفقة بيع النفط الأخيرة، والتي ستلحق بها صفقة طائرات مدنية، فيما من المتوقع أن تحسم فعليا وقريبا قصة الحوامات السورية العالقة في روسيا.

 

من بين أبرز هذه المعطيات الوجه الجهادي الدولي الذي تميزت به غالبية الفصائل العسكرية المقاتلة ضد النظام في سوريا، والتي تشكل منذ لحظات الصراع الأولى مكمن تخوف الروس وقلقهم. ولعل أي مطّلع على النشاط الديبلوماسي الروسي في سوريا في الأشهر الأولى من الأزمة، يعرف جيدا كيف كان دبلوماسيو الكرملين يتقصّون ليلاً نهاراً ملامح هذا الوجه، الذي يقلق موسكو في أن يجد قاعدة انطلاق نحوها في الشرق الأوسط.

المسألة الثانية مرتبطة بالمعارضة السورية غير القادرة على الاتحاد بأي كيان أو شكل سياسي يسمح لها بأن تنطق كلمة موحّدة يتفق عليها الجميع ولو لأيام معدودة. هذا التشرذم، وانعدام ثقة موسكو التامّ ببعض رموز المعارضة السورية المرتبطة بدول إقليمية ودولية، جعل موسكو تعيد التفكير في طروحات كانت متحمسة لها، ومستعدة للتنازل بشأنها لو توافرت حماسة مماثلة لدى الطرف الآخر.

المعطى الثالث يخضع لتحليل روسي لبنية التحالفات الإقليمية التي نسجتها المعارضة في طبقات، أو نسجت حول المعارضة أو نسجت المعارضة على قياسها، وتخشى موسكو من خطّين يلتقيان على سوريا: الأول ينقسم الى مستويين: إسلامي سياسي، وإسلامي وهابي متطرف، ومعروفين بصلتهما بتحالف خليجي – تركي يتدرج بينهما. أما الثاني فهو غربي، يفضل بقاء الوضع على ما هو عليه إلى ما بعد استلام الرئيس الأميركي المنتخب زمام قيادة العالم الغربي، وذلك حتى تنضج الطبخة السورية أكثر، وبغرض تحقيق ضعف إضافي للدولة السورية ومكوناتها، وإنهاكها لوجستياً ومعنوياً في مواجهة أي طرح سياسي مستقبلا.

المعطى الرابع مرتبط بعقلية الإدارة في موسكو، والتي تنفعل بشدة حين تشعر أنها خدعت أو أن ذراعها تلوى باتجاه ما، وهو شعور الديبلوماسية الروسية التي رأت أن اتفاق الأطراف على وثيقة جنيف في يوم ونقضها ومن ثم تحويرها في اليوم التالي، شبيه بالاسلوب ذاته الذي اتبعه الغرب مع موسكو في المسألة الليبية. ويسند هذا العناد الإحباط الذي واجهته كل محاولات موسكو في تحقيق تقدم سياسي على مسار مختلف عن مسار المناطق العازلة والحملة العسكرية، ولا سيما من دول قد لا يتعدّى غرضها في سوريا مستوى التحدي الشخصي للنظام، أو في حال أفضل الطموح المذهبي ضده.

خامسا، لم تجن موسكو خسائر فقط من تشبثها بوجهة نظرها الخاصة، وخلفها الصين ودول مجموعة «بريكس» كما يحلو لبعض الدول الغربية التصريح، بل حققت أرباحا لا يمكن تجاهلها في الحسابات الاستراتيجية، ومنها صفقة تسليح للعراق تجاوزت 4 مليارات دولار، وقد يكون من أبسط أوصافها أنها إهانة محرجة لـ«غازي العراق» الولايات المتحدة، وأول صفقة طبيعية.

 

المعطى السادس استند إلى فهم الواقع السوري الداخلي على المستويين الاجتماعي والعسكري من دون إهمال الاقتصادي. ووفقا لتحليل ديبلوماسيين روس مطلعين على الملف السوري، سيعرقل الانقسام الحاصل بنيوياً في المجتمع السوري ترسيخ أي حل مستقبلي، الأمر الذي سيترك سوريا مشرذمة وغير مستقرة لسنوات إن لم يكن لأجيال آتية. وهذا سيكون بالغ التأثير إقليميا ودوليا، وسيؤذي بشدة مصالح موسكو. لذا إن حصول اتفاق سياسي في ظل وجود سلطة فعلية، هو أفضل بكثير من اتفاق لا يمكن تنفيذه في ظل انعدام سلطة فعالة.

ويبدو في هذه اللحظات أن الروس يشعرون مجددا أن لهيب النار السورية يمكن أن يمتد لمسافات طويلة. هذه المعطيات كلها تجعلهم أكثر قناعة بأن معركة دمشق هي «معركة حياة أو موت»… لا خيار ثالثاً فيها.

  • فريق ماسة
  • 2012-10-19
  • 9964
  • من الأرشيف

روسيا والأزمة في سورية: تصلُّب في معركة «الحياة والموت»

لم يكن وزير خارجية روسيا سيرغي لافروف يشاكس نظراءه الأوروبيين في الاجتماع الذي عقد في لوكسمبورغ منذ عدة أيام، حين قال إن الرئيس السوري بشار الأسد لن يرحل، فالأشهر الأخيرة شهدت تطورات مهمة على صعيد الأزمة السورية، بعضها ميداني، وبعضها سياسي على الساحتين الإقليمية والدولية، وكان الروس بطبيعة حساسيتهم الشديدة تجاه سوريا الأكثر تفاعلا معها. كلام لافروف عن معركة «حياة أو موت» تخوضها السلطة الحالية بكل مكوناتها، هو حصيلة تراكمية لكمّ نوعي من المعلومات استقته موسكو من مصادر مختلفة، بعضها استخباراتي داخلي، وبعضها من زيارات المسؤولين السوريين التي لا تتوقف، وبعضها الآخر من معارضين يقولون إن موسكو تتفق معهم بالمطلق في رؤيتهم للواقع السوري. واستندت موسكو إلى عدة معطيات حتى قررت ألا تواجه وزراء خارجية أوروبا بهذا الاستنتاج فحسب، بل أن تعيد النظر في دفتر حساباتها المرتبطة بدعم دمشق، حتى قررت مؤخرا أن تحرّك الطاقة مجدداً في شرايين العلاقة التاريخية عبر صفقة بيع النفط الأخيرة، والتي ستلحق بها صفقة طائرات مدنية، فيما من المتوقع أن تحسم فعليا وقريبا قصة الحوامات السورية العالقة في روسيا.   من بين أبرز هذه المعطيات الوجه الجهادي الدولي الذي تميزت به غالبية الفصائل العسكرية المقاتلة ضد النظام في سوريا، والتي تشكل منذ لحظات الصراع الأولى مكمن تخوف الروس وقلقهم. ولعل أي مطّلع على النشاط الديبلوماسي الروسي في سوريا في الأشهر الأولى من الأزمة، يعرف جيدا كيف كان دبلوماسيو الكرملين يتقصّون ليلاً نهاراً ملامح هذا الوجه، الذي يقلق موسكو في أن يجد قاعدة انطلاق نحوها في الشرق الأوسط. المسألة الثانية مرتبطة بالمعارضة السورية غير القادرة على الاتحاد بأي كيان أو شكل سياسي يسمح لها بأن تنطق كلمة موحّدة يتفق عليها الجميع ولو لأيام معدودة. هذا التشرذم، وانعدام ثقة موسكو التامّ ببعض رموز المعارضة السورية المرتبطة بدول إقليمية ودولية، جعل موسكو تعيد التفكير في طروحات كانت متحمسة لها، ومستعدة للتنازل بشأنها لو توافرت حماسة مماثلة لدى الطرف الآخر. المعطى الثالث يخضع لتحليل روسي لبنية التحالفات الإقليمية التي نسجتها المعارضة في طبقات، أو نسجت حول المعارضة أو نسجت المعارضة على قياسها، وتخشى موسكو من خطّين يلتقيان على سوريا: الأول ينقسم الى مستويين: إسلامي سياسي، وإسلامي وهابي متطرف، ومعروفين بصلتهما بتحالف خليجي – تركي يتدرج بينهما. أما الثاني فهو غربي، يفضل بقاء الوضع على ما هو عليه إلى ما بعد استلام الرئيس الأميركي المنتخب زمام قيادة العالم الغربي، وذلك حتى تنضج الطبخة السورية أكثر، وبغرض تحقيق ضعف إضافي للدولة السورية ومكوناتها، وإنهاكها لوجستياً ومعنوياً في مواجهة أي طرح سياسي مستقبلا. المعطى الرابع مرتبط بعقلية الإدارة في موسكو، والتي تنفعل بشدة حين تشعر أنها خدعت أو أن ذراعها تلوى باتجاه ما، وهو شعور الديبلوماسية الروسية التي رأت أن اتفاق الأطراف على وثيقة جنيف في يوم ونقضها ومن ثم تحويرها في اليوم التالي، شبيه بالاسلوب ذاته الذي اتبعه الغرب مع موسكو في المسألة الليبية. ويسند هذا العناد الإحباط الذي واجهته كل محاولات موسكو في تحقيق تقدم سياسي على مسار مختلف عن مسار المناطق العازلة والحملة العسكرية، ولا سيما من دول قد لا يتعدّى غرضها في سوريا مستوى التحدي الشخصي للنظام، أو في حال أفضل الطموح المذهبي ضده. خامسا، لم تجن موسكو خسائر فقط من تشبثها بوجهة نظرها الخاصة، وخلفها الصين ودول مجموعة «بريكس» كما يحلو لبعض الدول الغربية التصريح، بل حققت أرباحا لا يمكن تجاهلها في الحسابات الاستراتيجية، ومنها صفقة تسليح للعراق تجاوزت 4 مليارات دولار، وقد يكون من أبسط أوصافها أنها إهانة محرجة لـ«غازي العراق» الولايات المتحدة، وأول صفقة طبيعية.   المعطى السادس استند إلى فهم الواقع السوري الداخلي على المستويين الاجتماعي والعسكري من دون إهمال الاقتصادي. ووفقا لتحليل ديبلوماسيين روس مطلعين على الملف السوري، سيعرقل الانقسام الحاصل بنيوياً في المجتمع السوري ترسيخ أي حل مستقبلي، الأمر الذي سيترك سوريا مشرذمة وغير مستقرة لسنوات إن لم يكن لأجيال آتية. وهذا سيكون بالغ التأثير إقليميا ودوليا، وسيؤذي بشدة مصالح موسكو. لذا إن حصول اتفاق سياسي في ظل وجود سلطة فعلية، هو أفضل بكثير من اتفاق لا يمكن تنفيذه في ظل انعدام سلطة فعالة. ويبدو في هذه اللحظات أن الروس يشعرون مجددا أن لهيب النار السورية يمكن أن يمتد لمسافات طويلة. هذه المعطيات كلها تجعلهم أكثر قناعة بأن معركة دمشق هي «معركة حياة أو موت»… لا خيار ثالثاً فيها.

المصدر : السفير


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة