من الصعب على متابع من خارج النسيج الليبي اختصار خريطة ميليشياتها ومجموعاتها المسلّحة بتلك البساطة. ففي بلد أسقط الحكم الديكتاتوري بثورة مسلّحة كان عمادها تلك «الميليشيات»، المتداخلة بتركيباتها العائلية والقبلية والمناطقية، لا قاعدة واضحة لمقاربة دور هذه القوى القديمة – الجديدة على الساحة السياسية الليبية. الواضح فقط في هذه المعادلة هو أن ليبيا الانتقالية تتخبّط تحت»حكم الميليشيات»، في وقت تشكّل هذه الأخيرة التحدي الأكبر لجميع القوى السياسية.

«التحدي الأكبر» بدا جلياً في كلام رئيس الوزراء الجديد علي زيدان، الذي كُلّف أمس الأول من المؤتمر الوطني العام (البرلمان) تشكيل حكومة جديدة بعد فشل سلفه مصطفى أبو شاقور. زيدان، الذي يحظى بأسبوعين لـ«طبخ» حكومة تنال الثقة، أصرّ على أن الأمن في «أولوية أولوياته» بما في ذلك بناء الجيش والشرطة وإيجاد حلّ لمعضلة الميليشيات.

في الواقع، يحتاج الليبيون لجرعة فائضة من التفاؤل ليصدقوا أن بإمكان زيدان، مهما بلغ تعاطفهم معه كمعارض قديم كان من أوائل من شاركوا في الثورة، أن ينجح في دفع الميليشيات لإلقاء سلاحها والانضواء تحت راية الدولة. ويزداد يأسهم تفاقماً إزاء هذا الكمّ من التداخل الحاصل بين سلطة الميليشيات وسلطة الدولة، لا بل في كثير من الأحيان لجوء الدولة إلى الميليشيات والاستعانة بها لفرض نفوذها في مناطق معينة.

وبين هذا التراخي من قبل السلطة على حساب التوسع في نفوذ المسلحين ممن يحظون بشرعية قبلية أو مناطقية أو.. إسلامية، وفي وجه هذا الكمّ من التوتر في الشارع وصولاً إلى ما يشبه الحرب الأهلية بين القبائل المسلحة.. تصبح ليبيا في قبضة «عفاريت السلاح»، بينما يجد المسؤولون أنفسهم كمن يحارب طواحين الهواء في معركة غير متكافئة.

هذا الأمر تعزّزه هشاشة الجسم السياسي التي تعمقت بعدم فوز الرئيس المكلّف، المدعوم من الليبراليين، بغالبية الأصوات (93 من أصل 179)، ما ينبئ بتكرار تجربة أبو شاقور الذي أخفق في تأمين التمثيل المتساوي للجميع.

العدو والصديق واحد

يُجمع المراقبون في الداخل الليبي وخارجه على أن الحكومة فشلت بشكل ذريع في توفير الحدّ الأدنى من الأمن في وجه ميليشيات تتصرف خارج إطار المساءلة. وهو ما يشير إليه في حديث لـ«السفير» المستشار الخاص بالشأن الليبي في «هيومن رايتس ووتش» فريد أبراهامز حيث يؤكد أن «التحدي اليوم هو في التحول من حكم السلاح إلى حكم القانون، وهو أمر بالغ الصعوبة تتسبب به الثورات المسلحة».

وانطلاقاً من تجربته لا يتوقع أبراهامز أن «تتفكك الميليشيات الليبية قريباً، لا سيما وأنها محصلة 42 عاماً من الديكتاتورية».

وقد سلطت مجلة «ذا ناشيونال إنترست» الضوء على «حكم الميليشيات» التي ينتمي بعضها إلى مدن معينة وأخرى إلى قبائل في وقت ما زال بعضها يحمل مفاهيم إسلامية مثيرة للجدل أو تهتم بشؤون جمهور خاص من القبائل أو المجموعات الإثنية. وفي إشارة إلى ضعف الحكومة في وجه القبائل، ذكّرت المجلة بحادثة مقتل السفير الأميركي كريس ستيفنز حيث شن الهجوم ميليشيا إسلامية من «أنصار الشريعة» فيما استعانت الحكومة لصدّ المهاجمين بميليشيا أخرى. ولكن مقتل ستيفنز لم يكن الوحيد، فقد أدى القتال بين الميليشيات في مزدة والزنتان وغيرها إلى مقتل أكثر من 200 شخص. وفي طرابلس هاجم الأصوليون الإسلاميون مقابر وأضرحة ورموزا صوفية بينما وقفت القوى الأمنية جانباً بحجة عدم التمكن من دخول «معركة خاسرة» حسب وزارة الداخلية.

أما الصراع بين بني وليد ومصراتة فيعدّ حتى الساعة أم المعارك الليبية بين الميليشيات. وتعتبر بني وليد آخر معاقل أنصار القذافي وهي محاصرة منذ 12 يوماً من قبل مجموعات مسلحة من مصراتة تؤكد نيتها تطهير المدينة من «الفلول». في المقابل يصر من في الداخل على منع «الغزاة» من الدخول ولو «على جثثهم».

وفيما كشفت الإعلامية الليبية نهلة الميساوي لـ«السفير» عن وجود مساعٍ ودية لحلّ سلمي بين الطرفين تفادياً لوقوع حرب كارثية، لفتت إلى أن ما يجري غير مقبول وقد أطلقت مجموعة واسعة من «المثقفين والإعلاميين» وهي منهم بياناً يدين «محاصرة أهلنا في مدينة بني وليد أو مهاجمتها من قبل الكتائب التابعة، اسميا للدولة، بذريعة أنها مدينة مارقة وتؤوي أزلاما للنظام السابق، ونشدد على أن بسط شرعية الدولة لا يتم عبر القصف العشوائي أو خنق المدن ومحاصرة المدنيين، فالعنف لا يولد إلا مزيدا من العنف والاحتقان».

حلّ الميليشيات أم دمجها؟

بدوره، اعتبر الكاتب في صحيفة «نيويورك تايمز» ديفيد كيركباتريك الميليشيات «القوة البوليسية الوحيدة في ليبيا»، لافتاً إلى أن ليبيا اليوم تناضل ليلا نهارا من أجل كبح جماح الميليشيات بعد أن شهدت غضبًا شعبيًا احتجاجًا على سيطرة تلك الميليشيات.

وتواجه حلّ المسألة، لا سيما مشروع دمج المسلحين ضمن أجهزة الأمن الرسمية، معضلات جمة تتوزع بين أن عناصر الشباب المتحمس الذي انتصر على قوات القذافي قد لا تكون هي العناصر النموذجية للاضطلاع بالمهام الشرطية اليومية ومهام مكافحة الإرهاب، بحسب «مجموعة الأزمات الدولية» التي حذرت من أن «الاعتماد على الكتائب الثورية والقوات المحلية المسلحة يمثل رهاناً خطيراً». أضف إلى ما سبق ما أشار إليه فريد أبراهامز من الولاءات المتناقضة وانعدام القدرة على المحاسبة ونقص الأموال والفساد المستشري في السلطة الحاكمة.

وفي السياق يؤكد أبراهامز أن «هيومن رايتس ووتش» تعمل على «توثيق انتهاكات الميليشيات ودفع الحكومة من أجل مزيد من فرض الأمن». ولكنه يعترف أن تأثيرها في هذا السياق محدود إذ لا يمكن للمنظمة أن تلزم أحداً على فعل معيّن.

وفي النهاية، تبقى ضرورة إيجاد حلّ لـ«دولة الميليشيات» أولوية الأولويات بالفعل قبل أن تدخل الأزمة كما ليبيا في دائرة مفرغة، حيث تضعف سلطة الدولة فيزداد نفوذ الميليشيا ومعه خوف الجمهور الذي سيفضل اللجوء إلى الميليشيا لضمان أمنه فتحظى الأخيرة بشرعية المجتمع.. وهناك يضيع الحدّ الفاصل بين الميليشيا والدولة.

 

  • فريق ماسة
  • 2012-10-15
  • 8594
  • من الأرشيف

ليبيا الانتقالية تواجه «عفاريت السلاح»: عندما تشرعن الدولة حكم الميليشيات!

من الصعب على متابع من خارج النسيج الليبي اختصار خريطة ميليشياتها ومجموعاتها المسلّحة بتلك البساطة. ففي بلد أسقط الحكم الديكتاتوري بثورة مسلّحة كان عمادها تلك «الميليشيات»، المتداخلة بتركيباتها العائلية والقبلية والمناطقية، لا قاعدة واضحة لمقاربة دور هذه القوى القديمة – الجديدة على الساحة السياسية الليبية. الواضح فقط في هذه المعادلة هو أن ليبيا الانتقالية تتخبّط تحت»حكم الميليشيات»، في وقت تشكّل هذه الأخيرة التحدي الأكبر لجميع القوى السياسية. «التحدي الأكبر» بدا جلياً في كلام رئيس الوزراء الجديد علي زيدان، الذي كُلّف أمس الأول من المؤتمر الوطني العام (البرلمان) تشكيل حكومة جديدة بعد فشل سلفه مصطفى أبو شاقور. زيدان، الذي يحظى بأسبوعين لـ«طبخ» حكومة تنال الثقة، أصرّ على أن الأمن في «أولوية أولوياته» بما في ذلك بناء الجيش والشرطة وإيجاد حلّ لمعضلة الميليشيات. في الواقع، يحتاج الليبيون لجرعة فائضة من التفاؤل ليصدقوا أن بإمكان زيدان، مهما بلغ تعاطفهم معه كمعارض قديم كان من أوائل من شاركوا في الثورة، أن ينجح في دفع الميليشيات لإلقاء سلاحها والانضواء تحت راية الدولة. ويزداد يأسهم تفاقماً إزاء هذا الكمّ من التداخل الحاصل بين سلطة الميليشيات وسلطة الدولة، لا بل في كثير من الأحيان لجوء الدولة إلى الميليشيات والاستعانة بها لفرض نفوذها في مناطق معينة. وبين هذا التراخي من قبل السلطة على حساب التوسع في نفوذ المسلحين ممن يحظون بشرعية قبلية أو مناطقية أو.. إسلامية، وفي وجه هذا الكمّ من التوتر في الشارع وصولاً إلى ما يشبه الحرب الأهلية بين القبائل المسلحة.. تصبح ليبيا في قبضة «عفاريت السلاح»، بينما يجد المسؤولون أنفسهم كمن يحارب طواحين الهواء في معركة غير متكافئة. هذا الأمر تعزّزه هشاشة الجسم السياسي التي تعمقت بعدم فوز الرئيس المكلّف، المدعوم من الليبراليين، بغالبية الأصوات (93 من أصل 179)، ما ينبئ بتكرار تجربة أبو شاقور الذي أخفق في تأمين التمثيل المتساوي للجميع. العدو والصديق واحد يُجمع المراقبون في الداخل الليبي وخارجه على أن الحكومة فشلت بشكل ذريع في توفير الحدّ الأدنى من الأمن في وجه ميليشيات تتصرف خارج إطار المساءلة. وهو ما يشير إليه في حديث لـ«السفير» المستشار الخاص بالشأن الليبي في «هيومن رايتس ووتش» فريد أبراهامز حيث يؤكد أن «التحدي اليوم هو في التحول من حكم السلاح إلى حكم القانون، وهو أمر بالغ الصعوبة تتسبب به الثورات المسلحة». وانطلاقاً من تجربته لا يتوقع أبراهامز أن «تتفكك الميليشيات الليبية قريباً، لا سيما وأنها محصلة 42 عاماً من الديكتاتورية». وقد سلطت مجلة «ذا ناشيونال إنترست» الضوء على «حكم الميليشيات» التي ينتمي بعضها إلى مدن معينة وأخرى إلى قبائل في وقت ما زال بعضها يحمل مفاهيم إسلامية مثيرة للجدل أو تهتم بشؤون جمهور خاص من القبائل أو المجموعات الإثنية. وفي إشارة إلى ضعف الحكومة في وجه القبائل، ذكّرت المجلة بحادثة مقتل السفير الأميركي كريس ستيفنز حيث شن الهجوم ميليشيا إسلامية من «أنصار الشريعة» فيما استعانت الحكومة لصدّ المهاجمين بميليشيا أخرى. ولكن مقتل ستيفنز لم يكن الوحيد، فقد أدى القتال بين الميليشيات في مزدة والزنتان وغيرها إلى مقتل أكثر من 200 شخص. وفي طرابلس هاجم الأصوليون الإسلاميون مقابر وأضرحة ورموزا صوفية بينما وقفت القوى الأمنية جانباً بحجة عدم التمكن من دخول «معركة خاسرة» حسب وزارة الداخلية. أما الصراع بين بني وليد ومصراتة فيعدّ حتى الساعة أم المعارك الليبية بين الميليشيات. وتعتبر بني وليد آخر معاقل أنصار القذافي وهي محاصرة منذ 12 يوماً من قبل مجموعات مسلحة من مصراتة تؤكد نيتها تطهير المدينة من «الفلول». في المقابل يصر من في الداخل على منع «الغزاة» من الدخول ولو «على جثثهم». وفيما كشفت الإعلامية الليبية نهلة الميساوي لـ«السفير» عن وجود مساعٍ ودية لحلّ سلمي بين الطرفين تفادياً لوقوع حرب كارثية، لفتت إلى أن ما يجري غير مقبول وقد أطلقت مجموعة واسعة من «المثقفين والإعلاميين» وهي منهم بياناً يدين «محاصرة أهلنا في مدينة بني وليد أو مهاجمتها من قبل الكتائب التابعة، اسميا للدولة، بذريعة أنها مدينة مارقة وتؤوي أزلاما للنظام السابق، ونشدد على أن بسط شرعية الدولة لا يتم عبر القصف العشوائي أو خنق المدن ومحاصرة المدنيين، فالعنف لا يولد إلا مزيدا من العنف والاحتقان». حلّ الميليشيات أم دمجها؟ بدوره، اعتبر الكاتب في صحيفة «نيويورك تايمز» ديفيد كيركباتريك الميليشيات «القوة البوليسية الوحيدة في ليبيا»، لافتاً إلى أن ليبيا اليوم تناضل ليلا نهارا من أجل كبح جماح الميليشيات بعد أن شهدت غضبًا شعبيًا احتجاجًا على سيطرة تلك الميليشيات. وتواجه حلّ المسألة، لا سيما مشروع دمج المسلحين ضمن أجهزة الأمن الرسمية، معضلات جمة تتوزع بين أن عناصر الشباب المتحمس الذي انتصر على قوات القذافي قد لا تكون هي العناصر النموذجية للاضطلاع بالمهام الشرطية اليومية ومهام مكافحة الإرهاب، بحسب «مجموعة الأزمات الدولية» التي حذرت من أن «الاعتماد على الكتائب الثورية والقوات المحلية المسلحة يمثل رهاناً خطيراً». أضف إلى ما سبق ما أشار إليه فريد أبراهامز من الولاءات المتناقضة وانعدام القدرة على المحاسبة ونقص الأموال والفساد المستشري في السلطة الحاكمة. وفي السياق يؤكد أبراهامز أن «هيومن رايتس ووتش» تعمل على «توثيق انتهاكات الميليشيات ودفع الحكومة من أجل مزيد من فرض الأمن». ولكنه يعترف أن تأثيرها في هذا السياق محدود إذ لا يمكن للمنظمة أن تلزم أحداً على فعل معيّن. وفي النهاية، تبقى ضرورة إيجاد حلّ لـ«دولة الميليشيات» أولوية الأولويات بالفعل قبل أن تدخل الأزمة كما ليبيا في دائرة مفرغة، حيث تضعف سلطة الدولة فيزداد نفوذ الميليشيا ومعه خوف الجمهور الذي سيفضل اللجوء إلى الميليشيا لضمان أمنه فتحظى الأخيرة بشرعية المجتمع.. وهناك يضيع الحدّ الفاصل بين الميليشيا والدولة.  

المصدر : السفير /هيفاء زعيتر


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة